وأعدائنا. فقدنا إضافة لذلك أسباب الحياة، والتأثير على مصيرنا فضلاً عن مصير غيرنا. بتنا نستمرئ أخلاق الكذب والنفاق والخيانة والحسد والبغضاء. تخلفت أمتنا عن حركة الإنسانية نحو النمو الاقتصادي، والرفاه المادي، والقيم الاجتماعية، والنظام السياسي العادل والمعبِّر عن إرادة شعوبها. نصبح ونمسي حالمين بحياة كريمة حرة، بحرية القول والتفكير، بالمساواة أمام القانون، بحق الحماية المشترك، بحق المشاركة في القرارات التي تؤثر على حياتنا وحياة من نعول، بحق امتلاك مستوى معيشة لائق صحياً وغذائياً وملبساً ومسكناً، بحق التعلم. نعم!! لا زلنا نحلم بكل ذلك، إلا قلة قليلة. هذا كله في حين أن المسافة بيننا وبين الغرب في ازدياد متواصل. وفي مواجهتنا معه خلال المائتي سنة التي مضت فإنه لم يزدد إلا قوة، ولم نزدد إلا ضعفاً. ويزداد المرء منَّا حسرةً حينما يدرك حجم الدور الذي قمنا به نحن في خدمة من استنزفنا، وفي تدمير بُنْيَتِنَا الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. بدون تقليل من شأن وحجم الدور الذي لعبته القوى الغربية فيما آلت إليه أوضاعنا، إلا أننا يجب أن نُقدِّر أن العالم عالم الأقوياء، لا يرحم الضعيف، وأنه لم يحل بنا ما حل لولا حالة الضعف الذاتي التي وصلنا إليها قبل مجيء الاستعمار. إن الاستعمار منذ أن دخل بلادنا، ومن بعد ما خرج منها، وإلى اليوم، ما اعتمد إلا علينا في القضاء على أنفسنا. فمهما كان دور الغير، يجب أن نتجاوز أي سؤال غرضه تخفيف وطأة المسؤولية علينا. لننصرف إلى استكشاف الأسباب الذاتية التي بها صرنا نعيش خارج الزمن، وصار السعيد منا من سعد بشقاء غيره. نحن في مشكلة!! نعرف أننا في مشكلة لأننا نريد أن نكون على حال غير الحال الموجود اليوم. نريد نظاما اجتماعيا يؤمن الناس من الفقر والجهل والخوف والظلم. وحال اليوم بعيد جداً عن هذا النظام المراد. بديهي أنه عند معالجة أي مشكلة فلا بد من تحديد

أسبابها. تحديد الأسباب ليس بالأمر الهين. ولكن لو افترضنا أنها حددت بدقة، فإننا سنواجه مشكلة تتمثل في أن معالجتها جميعاً بشكل فعَّال وعملي يتجاوز دوماً الموارد المتاحة بنسبة عالية. فلو افترضنا على سبيل التمثيل أن مشكلة ((أ)) تحتاج إلى مائة ساعة تفكير لحلها تماماً، فما سنجده فعلاً متوفراً لنا من تلك المائة قد لا يتجاوز الخمسين في بعض الحالات. بمعنى أننا سنكون مضطرين لمعالجة بعض أسباب المشكلة دون غيرها، أي الوصول إلى حل جزئي فحسب. يغيب عن بعضنا أن أسباب أي مشكلة، وإن استوت في قدر ما تحتاجه من معالجة، فإنها لا تستوي في قدر تأثيرها على أصل وحل المشكلة. فلو افترضنا أن للمشكلة ((أ)) خمسة أسباب، وافترضنا أن كلاً منها يحتاج إلى عشرين ساعة تفكير لمعالجتها، أي أنها تستوي في حاجتها للموارد، فإن ذلك لا يعني أن كل سبب يتحمل خُمس المشكلة، بل تتفاوت في ذلك تفاوتاً كبيراً. فإذا لم يكن لدينا إلا خمسين ساعة متوفرة، فإنه بعد تحديد الأسباب التي أدت إلى المشكلة، علينا أن نحدد نسبة تحمل كل سبب من تلك الأسباب للمشكلة التي نحن فيها. ظهر بالاستقراء، أن ما يقرب من20% من أسباب أي مشكلة، تتحمل80% من المشكلة نفسها، وأن80% من الأسباب لا تتحمل إلا حلاً لـ20% من المشكلة. هذه المعادلة تعني أن قلة الموارد ليست عائقاً أساسياً أمام حل المشكلة، وإنما العائق الأكبر تحديد السبب الذي يجب أن يعالج. فلو لم نملك إلا 20% من موارد حل مشكلة، فإنه مع حسن التدبير سنستطيع حل 80% من المشكلة نفسها.

السبب الثقافي

في تصور كثير اليوم فإن "ثلاثية الهيمنة/الاستبداد المحلي/ التخلف الثقافي" تشكل الـ20% من الأسباب التي في يدها 80% من المشاكل. والجزء الأهم من تلك الـ20% هي الأسباب الثقافية. يظهر هذا الأمر الأخير بالنظر إلى أيها أكثر تأثيراً على تقييد الإرادة وتعطيل التفكير اللذان هما لب مشاكلنا وعمقها. الثقافة في هذا السياق يقصد بها مجموع الأفكار والانطباعات، والقيم السائدة والتوجهات، والافتراضات الأساسية، في أي مجمتع والتي تحدد أهداف وآمال وطموحات ودوافع المجتمع في حركته. فتوجد عوامل ثقافية تطلق إرادة الإنسان، وتفتح الآفاق أمام تفكيره، فتشكل بذلك مناخاً ملائماً للتطور الاقتصادي والسياسي، وهناك عناصر أخرى تشكل الأرضية الملائمة لإعاقة كل ذلك. وذلك أن كل عمل سياسي أو اقتصادي يعتمد على فاعلية العاملين فيهما،والفاعلية ناتجة عن التفكير والإرادة،وهما مقيدان بالثقافة السائدة. وقد أكد تأثير الثقافة على مسار المجتمع كثير من الدراسات حول التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. ثم إنه وبنظرة واحدة إلى مجموعة من العناصر الثقافية السائدة تعطي بداهة القناعة بأن تأثيرها سيكون مُحْبِطاً للغاية. ولا شك في أن الثقافة لا تعمل وحدها، بل تعمل ضمن عوامل أخرى متعددة، بعضها ناشئ عنها نفسها، وبعضها مستقل عنها، فالثقافة مؤثرة ومتأثرة، وموجودة ضمن شبكة من المؤثرات غيرها، ولكن هذا لا يُلْغِي دورها المركزي في التأثير على غيرها من العوامل من جهة، وفي التأثير على المسار العام للمجتمع من جهة أخرى.

على ضوء ما سبق، فإنه لا يوجد أفق للمجتمع العربي المسلم لتحقيق آماله، ما لم تحصل عملية إعادة تشكيل للثقافة الإسلامية العربية، بحيث تشتمل على العناصر الثقافية الفاعلة، وتخلو من العناصر الثقافية المُثْبَطِّة. وهذه الحالة المثالية قد لا يمكن تحقيقها بشكل تام، كما هو الحال في جميع المجتمعات البشرية، ولكن لا بد من حصول هذا الأمر في القضايا الكبرى المؤثرة على مسار المجتمع.
الرؤية الكونية وصناعة الواقع
يمكن تقسيم النظام الثقافي من زاوية الحضارة إلى ثلاثة أنواع من العناصر، لكل منها تأثير على حركتها:
1. عناصر هي انعكاس لرؤية كونية. قد تكون رؤية كونية تؤمن بإله، وقد تكون رؤية تنفي وجود الإله. وفي الحالتين قد تؤمن بعبثية الحياة، أو بحكمتها. وبخصوص مجتمعاتنا فالسائد هو رؤية إلهية تبين قضايا نحو: كوننا لله، علاقتنا بالله، علاقة الله بنا، دورنا في الحياة، امكانياتنا وقدراتنا، ومآلنا بعد أن نفارق الحياة. وعليه فسيحصر الكلام حول الرؤية الكونية بما هو موجود لدينا.
2. عناصر هي انعكاس لتجارب المجتمعات، والممارسات التي فيه، وتشمل هذه التقاليد والأعراف والعادات.

3. عناصر تشريعية، وتشترك مع ما سبق في أنها من صناعة المجتمع، ولكنها تختلف في أنها مقننة غير عفوية. أيضاً فإن درجة الوعي بها وبحضورها أقوى. هذا الأمر الأخير يجعل تأثيرها أضعف من الأعراف والتقاليد والعادات والتي يمكن اعتبارها "تشريعات" غير حاضرة في الوعي مما يضعف مقاومتها، فيقوى تأثيرها. تتميز العناصر من النوع الأول بامتلاكها قداسة وهيبة الدين، قداسة تعطي الفكرة أثراً مضاعفاً سلباً أو إيجاباً،حسب خطأ أو صحة الفكرة. والتجارب التاريخية للحركات الاجتماعية والسياسية تظهر أن الرؤية للعالم ذات قيمة كبرى، هذه القيمة لا تختلف باختلاف طبيعة الرؤية دينية أو غيرها، إلهية أو إلحادية. ونجد أن الثورات الحضارية إنما انطلقت في البدء من تغير جذري في الرؤية للحياة وللإنسان ولدوره ومركزه فيها. من المشاكل التي لازمتنا منذ عصر النهضة الفصل بين الرؤية الكونية الغربية وبين المفاهيم السياسية والاقتصادية والعلمية التي أوصلتهم إلىما هم فيه. فلولا تلك الرؤية لاختلفت المفاهيم السائدة بينهم اليوم، ولاختلف تبعاً لذلك حالهم حضارياً. من الخطأ اعتبار مفاهيمهم السائدة مجرد أدوات يمكن استيرادها واستهلاكها دون أسسها الفكرية التي تولدت منها. إننا اليوم وكما كنا بالأمس، وكما يشعر كل واحد منَّا، نحتاج إلى أن نتحرك إلى الأمام. نعلم جميعاً أن مظاهر الحضارة لدينا لا تعني كثيراً، حيث إنها التي تتحرك نحونا، في حين أننا لا نسعى إليها أو إلى الأسس التي تنشئها. نحن لا زلنا نستقبل العصر، ولكن لا نتقدم إليه. تلفيقيون في حلولنا، وغاية ما نطمح إليه في كل مرحلة مختلفة إما التكيف نفسياً وفكرياً مع الآخر الذي لا ينتظر إذناً ليدخل حياتنا، وليسيطر على جميع مناحيها؛ وإما حسن تطبيق نتائج تجربته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ذلك كله لأننا نغفل الأسس الفكرية التي أنشأت الحركة الحضارية للمجتمع الغربي، ظانين أنه يمكن الفصل بين

التجربة وبين الأسس التي أنتجتها. لقد عاش الغرب التخلف قروناً من الزمان، ثم لما تخلَّص ممِّا كان يُكَبِّلَ حركته، أنتج حضارة متلائمة مع هويته، وظروفه التاريخية. اليوم علينا أولاً التخلّص مما يُكَبِّلَ حركتنا، لنتحرك وفق هويتنا الخاصة، وظروفنا التاريخية المختلفة فننتج واقعنا المتقدم المتناسب معهما. هذا الواقع الذي سنصل إليه قد يشابه ما وصل إليه الغرب، وقد يختلف عنه، ولكنه في نهاية الأمر سيكون واقعاً نملكه نحن، سيكون واقعاً مستمداً أساساً من حركتنا، وفي الوقت نفسه يُقَدِّم لنا ما نريده لأنفسنا ولمن يلينا من الأجيال. لا يعني هذا عدم الاستفادة من بعض أو كل ما أنتجته الحضارة الغربية من أدوات سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، ولكن لتكن استفادة من يتحرَّك، وليست استفادة من يستقبل؛ استفادة مجتمع وجدت لديه تلك الروح المحركة نفسها التي وجدت لدى الغرب حين انطلق، تلك الروح التي منحته أسس الفاعلية، وأزالت من فوقه مسببات الانفعالية. تلك الروح التي تشكل أرضية لا غنى عنها لنجاح جميع المشاريع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالخطوة التي يجب أن تتقدم استيراد المنتجات الحضارية هي خلق الروح المحركة لمجتمعنا. ولكن لما كانت تلك الروح تستمد وجودها بل وأيضاً فناءها من طبيعة الرؤية الكونية السائدة، فلا بد لنا أولاً وقبل كل شيء من النظر فيها وما تقدمه لنا من عناصر محركة، أو مُثْبَطِّة، لنعزز من الأولى، ونتخلص من الثانية. وما يؤسف له أنه وجدت ضمن مفاهيمنا الدينية المؤسسة لرؤيتنا الكونية مجموعة من المثبطات الحضارية التي كان لها دور حاسم في الحد من طبيعة حركتنا الحضارية. بعض هذه المفاهيم لم يَعد لها حضور في الثقافة الدينية العامة، وأخرى بقيت محافظة على موقعها ودورها في تشكيل الواقع اليومي للمسلمين إلى اليوم.

ولا مناص لنا إذا ما أردنا التقدم أن نبدأ بها، تقييماً وتصحيحاً، لأنه بغير ذلك، فسيبقى وجودها مُعِيْقاً لجميع الخطوات التي نحاولها خروجاً من محنتنا. لا يعني هذا عدم مراعاة الثقافة الاجتماعية السائدة، فهي حتماً تؤثر بشكل كبير على واقعنا. وبالنظر إلى بعض ما هو سائد، يمكن إدراك ذلك بداهة. فقد انتشرت بيننا بعض مفاهيم عامة، بعضها يرجع إلى الثقافة الدينية، والآخر منه إلى ممارسات سلبية تحولت مع الوقت إلى ثقافة سائدة. من ذلك ثقافة "البحث عن سبب خارجي لفشلنا"، ومنها ثقافة "الانتظار لمن يُخَلِّصُنا"، و ثقافة "التقليل من شأن الإنجاز من حيث هو"، وجعل الشأن لما فيه مكتسبات مادية. وهذه الفكرة جعلت العيش ينصرف عن الإنجاز والانتاج والإبداع. كما أنها أعاقت من أن يكون الوجود الفردي خارج ذاته هدفاً لذاته، وصار العيش للنيل والاستهلاك، وأصبح السعي لأن توجد الأمور في الذات، بأن نأخذ منها أكبر قدر ممكن. وثقافة تعتبر "أن السلطة في الشخص، وليست في القانون". وثقافة تجعل "الولاء للأسرة والعشيرة، مقدماً على الولاء للمصلحة العامة". وثقافة تجعل "المشاهير خبراء في كل شيء" ...إلخ إن ثقافات من هذا النحو لا شك أنها تؤثر سلباً على حركة المجتمع للأمام.

كما أن إعطاء الأولوية للقضايا الدينية لا يعني تجاهل أهمية وتأثير التشريعات والقوانين. فلا شك أنها معيقة إذا لم تواكب حاجات الناس، ولكنها دوماً كانت الإطار الذي تتحرك ضمنه وخلاله الأمم، وليست الباعثة إليه. بالتالي فإن غاية ما يقوم به التشريع المتخلف هو إعاقة الحركة، ولكنه لا يمنع منها، كما أنه لا يدفع إليها. توجيه الاهتمام يجب أن يأتي أولاً إلى خلق الحركة، وحينها سنجد أن التشريعات تتطور تلقائياً وفق الشروط الموضوعية القائمة. وتجربة الأمم من حولنا تدلنا على أن التشريعات مهما تخلفت، لم تكن سبباً في منع التقدم، وإنما عرقلته أحيانا. إن أول وأهم خطوة في التغيير لا بد من أن تبدأ بمراجعة الرؤية الكونية السائدة، وتقييم تماسكها وشمولها وقدرتها على توفير فهم واضح وسليم للحياة، ثم مراجعة آثارها الثقافية المباشرة، ثم العمل على صياغة رؤية مؤسسة على أصولنا الدينية والتاريخية، يتحقق من ورائها هدفان معاً: أولهما: توفر الهوية اللازمة لتأسيس استقلال نفسي عن التبعية الغربية وإنجاز تكليفنا أمام الله تعالى. ثانيهما: إنشاء رؤية قادرة على أن تحرِّك المجتمعات الإسلامية نحو التقدم بنفس القدر من القوة التي أمكن للتغير الفكري الغربي أن يغير من مساره التاريخي.
ما أقوله هنا مبني على افتراضات:
1. أن رؤيتنا للعالم تتطلب مراجعة شاملة ودقيقة، لأنها تؤسس لمفاهيم ثقافية مُعِيْقَة للحركة الإيجابية للمجتمع.
2. كما أفترض أنه يمكن لرؤية أخرى للعالم غير الرؤية الغربية أن تُوَفِّر لنا الشرط اللازم للتقدم النوعي.
3. كما أرى أنه ما لم نعمل على هذا الأمر، فإن أملنا في التقدم ضعيف للغاية.
أمام ضرورة المراجعة وإعادة الصياغة هناك عقبات:
1. الاعتماد غير المتحفظ على الغير في التفكير الديني، بمعنى آخر التقليد، وتقديس العلماء وآرائهم، وخصوصاً من مضى منهم.

2. ما يقرب من الإهمال للأثر الجوهري والعلاقة العميقة بين الرؤية الكونية والتقدم الاجتماعي والسياسي، وهذا من التيارات الدينية والليبرالية على السواء. فيتفق الطرفان إلى حد ما على أولوية التغييرات التشريعية والعرفية متجاهلين أثر الرؤية الكونية. ثم يشدد التيار الليبرالي على ضرورة الأخذ بالمفاهيم الغربية من حيث إنها نجحت في ظروفها. وهي رؤية العاجز عن خلق المفاهيم اللازمة لتغيير واقعه، والمستمدة من خصوصية فلسفته، واختلاف ظروفه. كما نجد التيار الديني العام يشدد على اعتقاد أن العودة إلى الله تعالى من خلال تعميق التقوى وزيادة الطاعات ستحل الأمور بنصر الله وتأييده وتَدَّخُلِهِ. وهذه رؤية سلبية ناشئة عن ثقافة قدرية، وتغفل تماماً أن التقوى حالة نفسية، ولا بد منها في حركة الإنسان نحو الله تعالى في هذه الحياة، ولكنها ليست حالة فكرية تفسر له وجوده ودوره وإمكانياته، ومساحة الحركة المتاحة لديه،والجهة التي ينبغي أن يتحرك إليها. وهذه الأخيرة هي التي يتم بها بناء الحضارات، ومن خلالها تتقدم الشعوب.
. قناعة، لدى بعض من يرى ويدرك أهمية وأثر تلك العلاقة بين الرؤية الكونية وبين التقدم، بأنه لا يوجد بديل للرؤية الغربية للعالم إذا ما أردنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه ولو بعد حين، وبأن الرؤية الإسلامية للحياة فيها عناصر شلل ذاتية، لا يمكن تجاوزها إلا بالخروج عن الدين نفسه. وبالتالي فالأولى طرح صياغة تعزل تلك الرؤية عن الحياة.
4. الواقع السلبي الذي نحن فيه، والذي يجعل من دور الفكر دوراً تسويغياً، إما للواقع وإما للانفعالات ضده. في حين أن الفكر في الحالات الطبيعية يكون هو المحفز للفعل والمحدد له.

5. طبيعة مقاومة المجتمع للتغيير في قِيَمِهِ وثقافاته المتأصلة. أمام هذه العوائق للمراجعة والتغيير ثم إعادة الصياغة، فإن أحسن ما يمكن الحصول عليه إن لم يتم تغييراً جوهرياً هو أن يعيش الناس نوعاً من الانفصام حيث يعتقدون رؤية كونية رجعية كنظام اعتقاد، وفي الوقت نفسه تَبَنِّي مفاهيم ثقافية تقدمية باعتبارها ضرورة معيشية. ولأن مثل هذه الحالة التوافقية غير ممكنة البقاء والاستمرار عملياً، فإن الخيارات الحقيقية هي:
1. أن تفقد الرؤية الكونية الدينية السائدة اتصالها بالحياة، وتفقد قيمتها التفسيرية والتوجيهية للمجتمع والفرد، وتتحول إلى عقيدة صماء معزولة تماماً مما حولها من قضايا الناس.
2. أن يكون هناك صراع متواصل بين العناصر التقدمية الثقافية التي تتطلبها الحياة منَّا، وبين العناصر الرجعية التي تفرضها الرؤية الكونية علينا. إذا تجاوزنا تلك العقبات فإنه يمكن آنذاك أن ننقذ الرؤية الكونية بأن نعيد لها دورها ونفوذها الذي يمكن أن تحرك به الجبال، وذلك بأن نعيد الانسجام بينها وبين متطلبات الحياة وخصوصاً في هذه الأوقات الحرجة. وأود هنا أن أشير إلى التجربة المسيحية في الغرب. إن ما حصل للنصرانية هو الأمر الأول. ونحن لن يصيبنا إلا ما أصاب غيرنا إذا ما توافقت الأسباب. إن النصرانية لما لم يمكنها أن تقدم رؤية عملية للحياة، تحولت لدى المتدينين من الغربيين إلى نظام اعتقاد لا علاقة له بالحياة مطلقاً، ولا محل له خارج الكنيسة، والجمعيات الخيرية الدينية، والمعاهد الثيولوجية العقائدية. وأما الحياة، فَمُقَامَة ومُؤَسَسَّة على مفاهيم وأفكار تتناقض في أغلب أحوالها مع المفاهيم والأفكار النصرانية. وأرى أننا ما دمنا لم نُزِِلْ ما شَابَ ثقافتنا الإسلامية فإننا سنتجه بهذا الاتجاه بشكل لا مناص عنه.

3 / 15
ع
En
A+
A-