الحكم على أي صفة كان. وأما النظرية الإثنا عشرية فقد عملت عكس ذلك؛ حيث سلبت الشرعية عن كل نظام قائم صلح أو فسد، عدل أو جار، فكل ما سوى إمامة المعصوم لا تجوز، ولكنها إذ سلبت الأنظمة كل مشروعية لم تتقدم آنذاك برؤية بديلة يمكن تحقيقها. فلم يكن ممكنا ـ في غالبية الأقطار المسلمة ـ وجود تجربة متوافقة مع المثال المنشود. وكيف ذلك؟ وهناك نظرية تجيز الأمر الواقع، وتأمر بالانصياع له، وأخرى ترى في كل ما هو قائم جوراً وضلالة واغتصاباً لحق إمام غائب، حتى وإن حُكم بالعدل، وأقيم القسط. فكيف والحال هكذا يُخلق الحافز الكافي لصنع واقع متوافق مع الحالة المثلى التي ينشدها الجميع؟ ولذلك نجد أن الإسلام ــ في أغلبيته السكانية ــ عاش أكثر زمنه خارج الدولة؛ أي خارج الحياة العامة، واقتصر دوره على التقنين لها دون الأخذ بزمامها. فلم يكن اعتماد الدولة على الفقهاء نابعاً من قناعتهم بمرجعية الإسلام بقدر ما كان بسبب غياب مصدر آخر للتقنين. في ظل هذا الغياب التشريعي والتاريخي نجد أن الحاجة إلى إبراز النظرية والتجربة السياسية الإسلامية للزيدية تتجاوز مجرد التاريخ إلى إيجاد امتداد تاريخي عميق لأي توجه يسعى إلى عودة الإسلام إلى الحياة العامة للأمة، هذا من جهة. ومن جهة أخرى إلى إبراز أصالة النظرية السياسية المنشودة، وانتمائها إلى الفكر الإسلامي قبل الاصطدام بالحضارات الأخرى التي ألجأتنا إلى إعادة النظر في كل شيء. 3. إن المسار العام لتلك التجربة كان إيجابياً: لقد أنتجت لنا مجموعة كبيرة من نماذج متميزة من الحكام، جمعوا بين العلم والعمل، والتقوى والعدل، وخشية الله والحكمة في الأمر والنهي. هذه الإيجابية تغير من الفكرة الشائعة التي حصرت وجود خلفاء راشدين في ثلاثين سنة من التأريخ الإسلامي، فنجد أنه في كل مرحلة تاريخية وجدت نماذج تُحتذى وتُقتدى.
4. إن التجربة ثرية بالدروس التي يمكن أن نستفيد منها اليوم: تقدم التجربة السياسية دروساً في إنتاج رجال دولة، وفي كيفية تطبيق العدل، وإعمال الشريعة. وتؤكد لنا التجربة حقيقة أنه أي فكرة مهما كملت فإن القائمين عليها بشر، ولا بد أن يعتري تنزيلها ما يعتري البشر من النقص. وضْعُ هذه الحقيقة يؤدي بنا إلى الاهتمام بوضع أنظمة تغطي ذلك النقص، والذي أدى في كثير من الأحوال إلى عدم استمرارية تلك التجربة. إن التجربة السياسية للزيدية جزء من تاريخ الأمة الإسلامية، وليس من تاريخ الزيدية فحسب. بل هي جزء من تاريخ جميع الحركات التي اتفقت معها في أهدافها السياسية، مهما كان دينها أو مذهبها . ومما يحسن ذكره هنا أن كلمة "زيدية" في أول أمرها لم يكن لها دلالة مذهبية أو فكرية بقدر دلالتها السياسية. فقد كانت تشير إلى كل من اتفق مع الإمام زيد بن علي 122هـ في دعوته الإصلاحية إلى دفع الظالمين، ونصر المستضعفين، ورعاية المال، والحق العام، والحريات السياسية. فكان من وافقه في تلك يسمى زيدياً، وإن اختلف مع الإمام في رؤيته الفكرية أو الفقهية. إن هذا التاريخ هو لِتجربة إنسانية إسلامية تمثلت في مرحلة ما ضمن فئة من المسلمين، ويجب أن تخرج من إطارها الديني والمذهبي؛ لتكون ملكاً لجميع الأمة والإنسانية؛ فالقيم السياسية الأساسية لا تختص بدين، ولا مذهب، ولا حدود؛ فالأمن والعدل والعلم والرفاه ــ وهي من القيم السياسية الأساسية ــ أمور مطلقة عن كل قيد، فلا يوجد عدل سُنِّي، وآخر شيعي، ولا يوجد فقر على الطريقة الإسلامية وآخر على الطريقة الكفرية، ولا يوجد جهل عربي وآخر عجمي، وبالتالي فأي حركة كان شعارها الأبرز تحقيق تلك القيم ملك للناس جميعاً باختلاف أفكارهم وأصولهم العرقية أو القومية، وأما الشعارات الفرعية لتلك الحركة، فالغالب أن لا يتفق عليها الناس، وهذا أمر طبيعي، ولا يضرُّ أصل القضية في شيء.
قلة الدراسات
مما يؤسف له قلة الدراسات عن هذه المدرسة. وما كان الأمر صدفة، أو عفوياً. فمع تقصير الزيدية أنفسهم في إبراز فكرهم، بل وتقصيرهم في إبراز الدور الكبير الذي يمكن لهذا الفكر أن يقوم به في نهضة هذه الأمة، وتوجه كثير منهم إلى توجهات طائفية لا تخدم الأمة؛ ومع صعوبة الوصول إلى مصادر هذا الفكر لكون أغلبه ـ لظروف غير طبيعية ـ ظل حبيس المكتبات الخاصة والعامة بشكل مخطوط، لا يصل إليه إلا القلة من الناس ذوي الهمم العالية، أو ذوي الحظ الجيد. والأدهى من ذلك عدم المعرفة بحجم وطبيعة المادة العلمية الزيدية الموجودة، مما يحير أي باحث يريد أن يخوض غمار هذا الفكر، مع كل ذلك إلا أنه كان هناك تغييب متعمد ومقصود لهذا الفكر. أغلب أسباب التغييب مخاوف لا أساس ولا واقع لها. وللتغييب جذور تاريخية تعود إلى القرن الأول حيث جرت عادة الدولة، ومن ثَم كثير ممن تبعها من العلماء على اتخاذ مواقف عدائية من كل ما يمت لأهل البيت " بصلة. فأما الدولة فقد عالجت الأمر من خلال التضييق في المعائش، أو الحبس، أو التنكيل الجسماني وصولاً إلى القتل في كثير من الأحيان. وأما علماء الدولة فقد حكموا على كل من يمت بصلة إلى فكر أهل البيت، أو رجالاتهم بالتبديع تارة، والتضليل أو التكفير تارة أخرى.
التقارب الإسلامي وطرح مثل هذه القضايا
قد يقال: إن إثارة هذه القضايا تضرُّ بالتقارب بين المسلمين، خصوصاً إذا اقترنت بنقد المذاهب الأخرى صراحة. نحن نقدِّر القلق من استمرار ظاهرة بثِّ الفرقة بين المسلمين، مع ذلك لا نرى في عرض الرؤى المختلفة ما يؤدي إلى ضرر بذاته. إن المسلمين مختلفون؛ وهذه حقيقة لا مناص منها، ولكنها ليست الداهية العظمى ولا المصيبة الكبرى، بل إن مشكلتنا هي في طريقة تعاملنا مع اختلافنا. إننا بين إحدى ثلاثة: داعي فرقة صراحة من خلال التأكيد على الهوة الموجودة بين المسلمين. أو داعي وحدة من خلال المطالبة بفتح حوارات في أصول القضايا المختلف عليها بغرض التوصل إلى وفاق حولها. وبين أولئك يوجد من يدعو إلى التعايش على أحد معنيين: أولهما: تعايش سلبي يعمل على تجاهل القضايا المختلف فيها. أو إنكار وجودها، أو التقليل من أهميتها. ثانيهما: تعايش إيجابي يعمل على تحييد أثر الاختلافات بين المسلمين مع إقرار بأهمية المسائل المختلف فيها. إن الدعوة إلى الفرقة شر. والدعوة إلى التعايش السلبي خطأ؛ لأنه لا يعمل إلا على إبقاء الجمر تحت الرماد. وأكثر الأعمال للتقارب بين المسلمين منصبة على هذا النوع. هذا واضح في مؤتمرات ومؤلفات مشاريع التقريب بين المذاهب الإسلامية. ما يسوغ موقفهم هو صعوبة العمل على التعايش الإيجابي، وأصعب منه العمل نحو الوحدة. ينبغي الدعوة إلى "الوحدة"، فإن لم تكن فـ"التعايش الإيجابي". والوحدة المطلوبة هي في القضايا الكلية التي لا يصح أن نختلف عليها. فالدين قد رسم لنا اتجاهاً ووضع لنا طريقاً عريضاً للسير إلى ذاك الاتجاه. وعلينا أن نسير فيها معاً، ونتنوع ونتعدد ضمن ذلك الطريق العريض، بمعنى آخر يكون التنوع والتعدد في القضايا التي تتعلق بالحياة وتختلط بها، فيكون تنوعاً تبعاً للتنوع في الحياة، وأما القضايا التي تتعلق بالاتجاه وهي الإيمان بالله واليوم الآخر وتفاصيل ذلك فلا معنى ولا فائدة في الاختلاف حولها. وإلى حين أن
تتحق الوحدة، فلا بد من التعايش الإيجابي. والسبيل إليه يكون بالعمل على كلٍ مما يلي:
1. أن ننفي عن القضايا المختلف فيها أثرها في تصنيف الناس؛ وحصر التصنيف في النص الشرعي. فمهما لم نجد نصاً يوجب لاختلافنا أثراً كان الواجب علينا أن نبقى على الأصل. فحتى لو اختلفنا في قضايا أصولية، أو في قضايا الإلهيات الكبرى، فإن ذلك وحده لا ينتج وجوباً شرعياً للحكم بالتكفير أو التضليل. إنَّ كل من آمن بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر فالأصل والضرورة الشرعية تحكم أنه مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. إنَّ إخراجه من هذه الدائرة يتطلب دليلاً شرعياً قطعياً في ثبوته وقطعياً في دلالته. هذا يعني أنه مهما اعتقدتُ خطأ وشناعة قول مسلم فإن اعتقادي هذا يجب أن لا ينتج حكماً شرعياً بتكفيره، ما لم يكن هناك نص قطعي يوجب على صاحب تلك المقالة بعينها الكفر. هذا مع إبقاء حق التعبير عن الرأي مصوناً، فلا يعني هذا الكلام السكوت عما يراه أحد خطأ.
2. التذكير المتواصل بقول الله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}[الممتحنة:8]، وهي تدل على أن الاختلاف في الدين ليس مانعاً للبر والإحسان. وقد يؤخذ من الآية أيضاً أنه لا يكفي الاختلاف في الدين لإيقاع العداء، وإنما لا بد أن يرافقه الظلم.
3. مواجهة الأساليب غير المتوازنة في التعامل مع المخالف.
4. ضرورة إبراز وتصنيف القضايا المختلف عليها، والتي تميزت بها المذاهب وذلك لتحقيق الأغراض التالية: أ. لكي يكون الاختلاف على قضايا موجودة وليس على قضايا وهمية. وهنا يجب الابتعاد عن المجاملة قدر الإمكان.
ب. لفتح مجال البحث فيها، وذلك بتحديد موطن وطبيعة الاختلاف بشكل دقيق، ثم لتحديد أدلة كل فريق، وذلك سيُمكِّن الجميع من الوصول إلى حقيقة مهمة، وهي أننا نختلف على قضايا ليست من القضايا الواضحة 100%، مما يعني فسح المجال لحسن الظن.
جـ. لتحييد أثرها في بث الخلاف. فالاختلاف بمجرده لا مشكلة فيه. المشكلة حين يتحول الاختلاف إلى شقاق. ويجب بحث أسباب التحول، وذلك لتجنبه. لا شك في أن تحقيق ما سبق سيحتاج إلى مراحل وإلى زمن وإلى جهود، ولكن الخطوة الأولى هي وضوح الرؤية، ووضوح الهدف، ووضوح المطلب. على ضوء ما سبق ذكره، فإن هذا التعريف لن يضر التقارب بين المسلمين، بل يمكن أن يفيد في التقارب، وذلك لأنه يعمل على إبراز المختلف عليه تحقيقاً للأهداف المذكورة سالفاً.
التعدد المذهبي
أود في هذا السياق أن أبين وجهة نظر حول التعدد القائم في المذاهب التشريعية والعقائدية. لا يقلل أحد من أهمية وإيجابية وجود التعدد الفكري الذي يعكس التنوع الموجود بين أفراد المجتمع وظروفهم. يذهب البعض إلى أن تعدد المذاهب الإسلامية الفقهية والعقائدية كما هو اليوم يعكس حالة من تلك التعددية الفكرية الإيجابية بين المسلمين. وعليه فإن بقاء هذه الحالة أمر مرغوب ومحمود، وغاية الطموح والأمل هو التعايش السلمي بين أبناء تلك المذاهب، وتجاوز مظاهر التكفير والتفسيق والتضليل التي شتت المسلمين قروناً من الزمان مع الإبقاء على وجود المذاهب من حيث اسمها، ومن حيث مضمونها. فيبقى المنهج الفقهي الشافعي بإزاء الحنفي، ويبقى المنهج العقائدي الإثنا عشري بإزاء الأشعري، وتبقى التسميات المتعددة أيضاً. إزاء هؤلاء هناك من يرى أن الوضع القائم اليوم يخالف المشروع، لأن الأصل الذي كان عليه السلف هو عدم وجود مدارس فكرية، ذات مناهج متميزة في فهم النصوص، واستنباط الأحكام، وبالتالي فلا بد من تجاوز هذه المذاهب جميعاً، والعودة إلى الينابيع الصافية من الكتاب والسنة. ما أذهب إليه يؤيد المذهبية فكرةً، ولكنه ينقدها ممارسةً. إن التنوع المذهبي كما هو اليوم قد يعكس تعددية فكرية، ولكنه قطعاً لا يعكس تعددية فكرية تنطلق من واقع العصر وقضاياه، بقدر ما يعكس التعدد الذي نشأ قبل ما يقرب من 12 قرناً من الزمان. وبهذا الاعتبار، فإنها ليست حالة إيجابية، بقدر ما هي تأطير لتفكير المسلمين بأطر ثابتة وقارَّة صنعت لتعالج ظروفاً غير ظروفنا، وواقعاً غير واقعنا. إن التعددية الإيجابية إنما تكون انعكاساً للتنوع الموجود في الفهم ووجهات النظر بين الناس، وأيضاً في الظروف التاريخية القائمة. أما ما هو موجود اليوم فتجميد للتنوع الذي وجد في مرحلة زمنية محددة هي مرحلة التأسيس للمذهب، وفي فهمٍ ووجهة نظر محددتين، هي تلك التي للمؤسسين للمذهب، ثم فرض ذلك
القالب الزمني على جميع الأزمنة التي تلت، وقسر وجهة النظر تلك على كل العقول الذي أتت. إن استقرار المذاهب على ما هي عليه طوال 12 قرناً بالرغم من التغيرات الجذرية التي مرت بها المجتمعات الإسلامية، وبالرغم من ظهور عباقرة فاق بعضهم مؤسسي المذاهب في قدراتهم العلمية، وفي أدواتهم البحثية، لأمر جدير بالنظر. إن التعدد الفكري له عوامل متعددة، بعضها يعود إلى عوامل فردية تتمثل في تميز عبقرية فكرية وتفرد جاذبية شخصية لدى عالم من العلماء. وأخرى إلى عوامل سياسية حيث يسعى أطراف في صراع سياسي إلى تسويغ مواقفهم المتنوعة بالاستناد إلى رؤى فكرية. وأخرى إلى عوامل اجتماعية حيث يكون اختلافها مدعاة لاختلاف الأوليات التي تبحث، أو الإجابات التي تقدم. وجميع هذه العوامل، وغيرها، تتسم بسمة أساسية وهي أنها متغيرة دوماً. وعليه فما كان منها سبباً للتنوع في مرحلة ما، قد زال، وتغير بحيث إن المفترض أن تكون قد ظهرت مدارس ومذاهب أخرى تعكس التنوع الجديد القائم. والحالة الطبيعية والصحية هو أن يستمر لذلك التغير في نشوء المذاهب بحيث لا يستقر الحال لأكثر من ثلاثة أجيال أو أربعة على الأكثر. ولا يعني هذا إلغاء الأفكار السابقة، وإنما النظر إليها لا بوصفها أفكاراً ننتمي إليها، وإنما بوصفها أفكاراً نستفيد منها في تأسيس الحالة الفكرية الملائمة مع تفكيرنا، ومع واقعنا. ومع أن الغاية هي تجاوز المذهبية، إلا أن هذا الأمر لا يتأتى إلا من خلال التعرف عليها. وذلك لأنه لا يمكن لنا الانطلاق الصحيح إلى واقع جديد إلا من خلال فهم واقعنا الحالي. فالمستقبل يبدأ "الآن"، وما لم يكن لنا حاضر راسخ، وماض عريق، فلا مستقبل لنا. ففهم أطروحات المذاهب الإسلامية القائمة، والاطلاع على تاريخها، لا بد منه حتى في مرحلة مذاهب إسلامية حديثة باعتبار أنها تمثل اجتهادات وتجارب لا بد من الاستفادة منها. فالفكر عندما يتطور فإنه يستند إلى الأفكار التي سبقته،
ولكنه يتجاوزها، أو يعيد صياغتها بما يلائم ظروفه التي يعيش بينها. وأي مدرسة فكرية ناشئة ستضع أمامها الاتجاهات السابقة لها، وسوف تختار منها ما يحقق شرطين أساسين:
* أن تكون تلك القضايا مما يعالج الواقع القائم إيجابياً.
* وثانيهما أن تكون أسسها الاستدلالية قوية. على ضوء ما سبق، فإنني أرى أن أي مشروع يعمل على إبقاء الحالة المذهبية كما هي عليه يعمل في اتجاه غير صحيح. سواء كان من حيث التركيز على أحقية مذهب واحد، أم من حيث التشديد على حق الاختلاف في المذاهب.
المشروع الفكري السياسي وفق رؤية الزيدية
يقدم الزيدية رؤية دينية للحياة تنطلق من مسلمات العقل وثوابت القرآن الكريم، تبين موقعنا في هذه الحياة، وترسم لنا المسار العام الذي يجب علينا أن نسير فيه. بحيث تشكل تلك الرؤية منطلقاً وإطاراً للحركة والتقدم. منطلقاً من حيث إنها تدفعنا للحركة، وإطاراً من حيث إنها تحدد وجهة تلك الحركة، وتشير إلى مقوماتها. وأي حركة واعية في هذه الحياة، سواء أكانت حركة فردية، أم جماعية، أم حركة حضارة برمتها، لا بد من أن تستند إلى رؤية للحياة، وخلاف ذلك دلالة على تدنٍ في الوعي من جهة، وعلى الارتكاز على النزعات الغرائزية، والانفعالات الظرفية التلقائية في توجيه دفة الحياة من جهة أخرى. مقدمةً لاستعراض موجز لتلك الرؤية، سأقوم أولاً بإشارة مجملة إلى أثر الثقافة على الواقع الحضاري بكل أبعاده الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ثم بيان بعض مظاهر ثقافة الشلل التي سادت وحكمت المجتمعات المسلمة عبر قرون من الزمان. قطعاً، ليس الغرض مجرد سرد لرؤية فكرية وسياسية لمذهب من المذاهب، بل الطموح هو إلى أن ينظر في ما يمكن أن تقدمه هذه الرؤية لحركة الأمة نحو الأمام، ولذلك كانت هذه المقدمة لازمة.
البدايات
مع وجود ظروف تاريخية مميزة توفرت للأمة الإسلامية في عصر النبي÷ وبعده، ومع ما أنعم الله عليها من فكر إلهي باعث ناهض، دافعٍ للإنسان نحو تحقيق ذاته وترقية أحواله،وإيجاد أسس لأمة عظيمة، إلا أن الواقع السياسي الجائر الذي عانت منه الأمة إبان سقوط الخلافة الإسلامية عام 41هـ، أخذ يضرب في تلك الأسس، وعلى وجه الخصوص الجانب الفكري منه. فنشأت عبر القرون التي تلت ثقافة تميت وتشل وتخدر. كان للأسطورة والخرافة والتفكير اللاعقلاني والكهنوت مساحة ملحوظة فيها. قُدِّس السلطان، ونُبِذ التفكير، ومُنِع الحوار. وابتعدت الأمة عن النظرة الفاحصة، وغاب عن ساحتها العقل المستقل. إضافة إلى سقوط الخلافة وما تلاها من تفاعلات سلبية، حصل أمر آخر شكل منعطفاً حاداً لمسار الأمة الفكري هو إعلان الوثيقة القادرية في 17محرم من العام 409هـ ، فعندها أعلن الخليفة العباسي الملقب بالقادر بالله منشوره الشهير الذي منع به التفكير والاجتهاد وكفَّر فيه المعتزلة واستباح دماءهم. وقد سارع هذا القرار في تدهور الأوضاع الفكرية والثقافية للأمة الإسلامية، فشاعت الخرافة والأسطورة والدروشة والمهدوية والانتظار والخمول، وتعزز كل ذلك من خلال كتابات متعددة ظهرت عبر القرون. ازداد الأمر سوءا مع نشوء الدولة العثمانية التي أوقفت الانهيار المحتوم بقوتها العسكرية، ولكن بغير أن تعالج أسبابه. ويمكن القول إنها بتأخيرها موعد الانهيار قد أضرت بالأمة من حيث لا تدري. ففي وقت سيطرتها على زمام الأمور سياسياً، أخذ الغرب يتحرك نحو الأمام، ولكن سرعته في البدء كانت تجعل من اللحاق به أمراً يسيراً في فترة قصيرة. ولكن الذي حصل أننا لا تقدمنا، ولا سقطنا سقوط اليقظة، فلما أتى المحتوم من الإنهيار كانت المسافة بيننا وبين الغرب قد اتسعت بشكل فلكي. سادنا اليوم الفقر، والجهل، والظلم، والاستبداد. تخلينا عن الفعل واستسلمنا للانفعال. أصبحنا نقتات على فضلات خصومنا