الكتاب : الزيدية_قراءة في المشروع وبحث في المكونات |
كلمة شكر
أقدم خالص الشكر والامتنان لكل من أسهم في خروج هذا البحث بشكله الحالي وأخص بالشكر سيدي الوالد العلامة بدر الدين الحوثي، وسيدي الوالد العلامة عبد الرحمن شايم.. وغيرهم من الأفاضل. وأتحمل وحدي مسؤولية الآراء الواردة فيه
تصدير
هناك حاجة ماسة لتفعيل دور الفكر في حياة الناس لدى النخبة التي يفترض أن تكون من أولويات مهامها رسم صورة المستقبل، وتقديم الرؤى والدراسات، وتحديد مواضع القصور والخلل، والانتقال بالأمة من واقع مستسلم وساحة لتجارب الآخرين إلى صاحبة فعل تصنع الحدث في ظل استقلالية كاملة. وهناك مشكلة أو التباس حول موضوع تقديم الرؤى والأفكار لدى الوسط الفاعل في المجتمع بمختلف توجهاته، فالبعض لا يزال يصر على تقديم نفسه من خلال شعارات عامة، ومجموعة من الخطوات والإجراءات، أو من خلال مجموعة من المبادئ والمفاهيم الإسلامية التي هي أقرب للشعارات منها للمفاهيم، مستغلاً عمق التدين لدى الناس ليقدم تلك الشعارات تحت مظلة عاطفية واسعة، هذا في حين أن الوضع الفكري والسياسي المتخلف ــ الذي كان نتيجة لقدوم النموذج الغربي الذي نزل في كل الأماكن وتواجد على كل الساحات، وفي غياب النموذج الإسلامي الوطني كتجربة تراكمية في الواقع ورؤية فكرية قد أدى إلى ضياع الهوية واختفاء الشخصية الوطنية وتخبط في المشروع الثقافي ـ جعل الخروج بمشروع سياسي تحتضنه دولة شبه أمر مستحيل. وللأسف فإن هذا الوضع لم يدفع بتلك النخب الإسلامية والسياسية إلى مراجعة التأريخ اليمني بكل تجاربه المتعددة والمتنوعة، واكتفت بالنظرة إليه بسذاجة سياسية مبطنة بقطيعة غير مبررة، وفي الوقت الذي ينظر العالم فيه إلى تأريخنا بجدية كبيرة، ويحاول التدقيق فيه لكي يعرف من خلاله طبيعة المجتمع اليمني ومقوماته وخصائصه، حتى يمكنه
التعامل معه الدخول إليه وتفسير تصرفاته وتوجهاته في هذه اللحظة التي يتعامل الآخرون معنا من خلال ماضينا وموروثنا الفكري والسياسي نجد أننا نصنع بيننا وبينه قطيعة، ونضع جداراً أملساً بيننا وبين فهم أنفسنا، وأيضاً بيننا وبين الاستفادة من الثروة الفكرية لدينا. والدراسة القيمة التي يضعها (مركز الرائد للدراسات و البحوث) بين أيديكم هي محاولة جادة في عرض مكثف للمشروع الفكري والسياسي للزيدية، إضافة إلى قضايا أخرى تتعلق بهذه الدراسة، مثل: سبب التسمية بـ(الزيدية) والعلاقة بكل من الإمام زيد، وأهل البيت، والمعتزلة، والفرق التي نسبت إلى الزيدية، أيضاً فيه لمحة عن كل من الزيدية المعاصرة وتأريخ المرحلة التأسيسية لها، مع ذكر لأهم مصادر هذا الفكر، إضافة إلى مجموعة أخرى من القضايا، وقد شمل البحث مجموعة من الإشارات لقضايا مهمة مثل: علاقة الثقافة والفكر وتأثيرهما على الواقع الاجتماعي والسياسي، الطائفة والمدرسة الفكرية، سلبية المذهبية المعاصرة، الموازنة بين ضرورة الاجتهاد لتجديد المعرفة وبين أهمية التقليد لاستقرار التشريع، وغيرها. بعض هذه القضايا توسع فيها قليلاً، والأخرى اكتفى بالإشارة إليها. ولما كان الفكر الزيدي جزءاً من مكونات المجتمع اليمني تأريخاً وحاضراً، حيث أنه حكم اليمن أكثر من ألف عام، فإن ممارسة القطيعة معه لن تعمل إلا على تعزيز مشكلة فقدان الهوية التي نعاني منها، وبذلك فإن فهم هذا الفكر على أي صفة كان، والتعمق في تجربته التأريخية مهما كان شكلها، وطرح كل ما يتعلق بهذين الأمرين للحوار والنقاش والأخذ والرد والإضافة والحذف والنقد والتقويم من الأهمية بمكان في عملية تشكيل هويتنا الوطنية، أما والحال أنه كان فكراً إسلامياً منطلقاً من مكانة العقل العالية في فهم الوجود، وإدراك المصالح والمفاسد، وفهم الشريعة وتنزيلها إلى الواقع، وممارساً قدراً كبيراً من القيم السياسية التي ننشدها جميعاً، ونتطلع
إلى تفعيلها في واقعنا وطناً وأمة، أقول أما والحال ذلك فإنه يمكن حينها أن يسهم في تكوين مشروع نهضة للوطن، بل وللأمتين العربية والإسلامية، وبالتالي فإن القطيعة معه ليست فقط إرباكاً في الهوية، وإنما تفوِّت على اليمن فرصة الاستفادة الذاتية مما لديه، كما تفوِّت عليه فرصة أن يكون له دور يتجاوز حدودها الوطنية والإقليمية.
وقد تبنى مركز الرائد هذه الدراسة لأنه يرى أنها يمكن أن تحقق هدفين معاً، تسهم في طرح القضايا التي لا بد منها في عملية تشكيل الهوية اليمنية المتوازنة، وثانياً لأنها قدمت فكر الزيدية بوصفه مشروعاً فكرياً وسياسياً في سياق المشكلة الحضارية التي تعاني منها الأمة، مقترحة ذلك المشروع كجزء ضروري من أي حل، وبهذا أبعدت الفكرة عن إطارها الطائفي الضيق، فأخرجتها من كونها قضايا مجردة غرضها الأساسي تكوين هوية، ولا علاقة لها بالواقع اليمي المعاش إلى قضايا غرضها الأساسي تغيير رؤيتنا جميعاً ـ زيدية وغير زيدية ــ للحياة، وطريقة تعاملنا معها. وإذا كان يمكن للفكر الزيدي أن يلعب دوراً حضارياً على مستوى الأمة، فإن أولى من يستفيد منه هو اليمن الذي رعى هذا الفكر وحافظ عليه عبر أحد عشر قرناً، وإذا كان لليمن أن يكون له دور حضاري فاعل على مستوى العالم فإنه لا غنى له عن استلهام هذا الفكر في مسيرته الحياتية. لقد جاء ولادة هذه الدراسة في اللحظة الزمنية المناسبة. وذلك بعد مضي أكثر من عقد من الزمن على الوحدة اليمنية المباركة، التي حملت في رحمها تباشير التعددية السياسية والحزبية، وجعلت من الديمقراطية توأمها الحي الذي لا يمكن الفصل بينهما إلا بموتهما معاً، لقد أصبح من الضروري في هذه المرحلة أن تبحث اليمن عن مشروعها الفكري الذاتي، وأن تؤسس لدروها الحضاري، إن هذين الأمرين لا يتعلقان بفريق معين أو جماعة معينة أو منطقة معينة، بل يعنيان كل مواطن يمني يريد رسم مستقبل حياته وحياة الأجيال من بعده، وكل وطني
يريد من اليمن أن يكون منطلقاً لنهضة الأمة. وواضع هذه الدراسة شخصية تحمل الهم الإسلامي والهم اليمني، وقد درست العلوم الشرعية والتحقت بالحياة المعاصرة في جوانبها الأكاديمية والسياسية، ويقطع النظر عن النتائج التي توصل إليها، أو المنقولات التي طرحها، وسواء اتفقنا معه أو اختلفنا، فقد حاول أن يضع الفكر الزيدي في السياق الذي نريده ويبقى علينا، بصفتنا مجتمع حي ذات اهتمامات عالية، أن نتفاعل مع تلك المحاولة، وأن نتناول مضامين البحث ونثريها بالنقاش والحوار وصولاً إلى رؤية أعمق وطرح أشمل. والله من وراء القصد. عبد الله هاشم السياني رئيس مركز الرائد22/9/2003م.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على سيدنا ومولانا محمد، وعلى أهل بيته الطاهرين الذين قضوا بالحق وبه يعد لون، وعلى الصحابة الراشدين والتابعين المخلصين. الحديث عن الزيدية قد يكون من حيث إنها طائفة، أو من حيث إنها مدرسة فكرية سياسية. البحث عنها "طائفةً" يعني الكلام في تاريخ مجتمع تكوَّن على أساس الانتماء لفكرة. البحث عنها "مدرسةً" يعني البحث عن أفكار وحياة جماعة من المفكرين. في الحالتين نحن نعرض أفكاراً وننظر في تاريخ أشخاص. عند النظر إلى الزيدية طائفياً، فإن دور الفكرة ينتهي مع تكوُّن هوية اجتماعية سياسية. فيصير زيدياً من انتمى إلى تلك الهوية بقطع النظر عن وعيه بالأصول الفكرية لتلك الهوية. وعليه فموضوع البحث سيركز على كل من أثَّر فيهم. عند البحث عن المدرسة الزيدية فإن الفكرة هي البداية والنهاية. والتاريخ ليس إلا تاريخ رجال قدموا للفكرة بمختلف الطرق. الطوائف الإسلامية موجودة، كما المدارس الفكرية الإسلامية. لعلنا نغمض أعيننا عن أولوية الانتماء الطائفي القائم بيننا، وعن آثاره المقيتة، ولكننا نعلم وجودهما. الطائفية ليس لها إلا أغراض سياسية اجتماعية. تسعى للتميُّز لكي تكسب مشروعية وجود موقع سياسي أو اجتماعي متناسب مع ذلك التميز. لا مشكلة في وجود جماعات سياسية اجتماعية متميزة في المجتمع المسلم. المشكلة في أن يكون أساس تميز تلك الجماعات الانتماء إلى مدارس فكرية دينية. لا يصح أن يظن مسلم من الطائفة "أ" أن مسلماً من الطائفة "ب" يستحق مواقع ومصالح مختلفة، لمجرد اختلاف رأيه، بل المسلمون سواسية في ذلك، والاستحقاق بينهم لا يكون إلا وفق الكفاءات والجهد، والتميز بينهم ينطلق من الاختلاف السياسي الاجتماعي الذي يعم أثره على الكل. أي انتساب فكري لا يصح أن يستتبعه أي تميز سياسي أو اجتماعي، وغرضه الأساس تحديد موقف فكري حيال القضايا الكبرى التي تهم الأمة، وتقديم مشروع سياسي ينفع الأمة
بجميع أطيافها وأطرافها. ما يلي بحث مختصر حول المدرسة الفكرية الزيدية. يشير إلى مجموعة من القضايا التي تسهم في إلقاء بعض الضوء على أصولهم الفكرية ورؤيتهم السياسية، إضافة إلى توضيح بعض المسائل التي تطرح حول تاريخهم ورجالاتهم.
لمعرفة هذه الأمور لا بد من الاطلاع على مجموعة من القضايا، أبرزها: 1. المشروع الفكري السياسي وفق رؤية الزيدية. 2. الاجتهاد عند الزيدية. 3. الزيدية والإمام زيد. 4. الزيدية والصحابة. 5. الزيدية والحنفية، والمعتزلة. 6. استعمالات كلمة "زيدية" في المراجع والمصادر. 7. فرق الزيدية. 8. أهل البيت. 9. الإمامة. 10. مصادر الزيدية. 11. الزيدية اليوم و لمحة عن جذورها التاريخية.
مسوغات الاهتمام بالمدرسة الفكرية الزيدية
تميزت المدرسة الزيدية بأمرين: مشروع فكري سياسي؛ وتجربة في إسقاط ذلك المشروع على أرض الواقع. ــ مشروعها الفكري السياسي يتضمن رؤية دينية عقلانية يمكن بشيء من التوظيف والتطوير والتجسيد على أرض الواقع أن تشكل أساساً لحركة الأمة نحو نهضتها وعزتها. هذا في مقابل ما ساد بين الأمة من أفكار تشل طاقتها، وتضعف من عمق توجهها نحو ربها، وتعرقل دورها في بناء وتوجيه الحضارة الإنسانية عموماً. ــ تجربتها في إسقاط مشروعها تجلى بالحركات السياسية الإصلاحية المتتابعة التي قاموا بها بدءا من ثورة الإمام زيد بن علي"عام 122هـ. أيضاً تظهر من الدول التي نشأت في كل من المغرب 172هـ، وطبرستان 250هـ، واليمن 280هـ. لتجربتهم أهمية تظهر من:
1. أنها تجربة مستندة إلى نظرية: فالتجربة الزيدية كانت في جميع مراحلها منبثقة عن نظرية سياسية إسلامية تنتمي إلى الإسلام في مراحل قوته. فلم تستورد، ولم يؤخذ بها لمواكبة الحضارات الغالبة. أسس النظرية هي: أ. المساواة العادلة بين الناس. ب. الأهمية العليا لإقامة نظام سياسي عادل. ج. وجوب المشاركة السياسية لكل أفراد الأمة؛ د. الدولة لا يجوز لها أن تكون طرفاً من أطراف الاتجاهات الاجتماعية. كانت النظرية تسعى لتجسيد نفسها في واقع الأمة؛ فتاريخها يكشف عن تجربة من تجارب الإسلام السياسي بمختلف ظروفه وأوضاعه عبر مئات السنين. إنها دراسة لفكرة تحركت في الواقع وتفاعلت معه. وبهذا تختلف عن دراسة التجارب السياسية الأخرى التي هي دراسات لتاريخ أنظمة حُكم تعاقبت عبر مراحل تاريخية مختلفة. إننا اليوم إذ نحاول بلورة نظرية إسلامية سياسية تطبيقها على الواقع بحاجة إلى تجارب تاريخية سابقة. ويكتمل الأمر أهمية حين نجد أصحاب تلك التجربة وروادها من العلم والديانة بمكان.
2. أنها تعالج مشكلة "فقدان الأصول التاريخية" التي تواجهها النظريات السياسية الإسلامية الحديثة: أي نظرية سياسية إسلامية معاصرة لا يمكنها أن تستند كلية على الرؤية التقليدية لتيار ما يُعرف بـ"أهل السنة والجماعة"، والتي سادت في الغالبية العظمى من دول العالم الإسلامي. ذلك لأنها تتضمن عنصراً لا يمكن القبول به وهو "شرعنة الأمر الواقع". فبقطع النظر عن مدى فساد الواقع السياسي، فإن ذلك العنصر يأمر المسلمين بطاعة القائمين بالأمر. ولعل أبرز ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله في هذا المعنى حديث يأمر فيه النبي بطاعة الحاكم ولو كان قلبه قلب شيطان، ولا يستن بالسنة ولا يهتدي بالهدى، ويضرب ظهور رعاياه، ويأخذ أموالهم. فقد أخرج مسلم في صحيحه(رقم الحديث (1847) عن حذيفة بن اليمان (قلت يا رسول الله إنا كنا بشر فجاء الله بخير فنحن فيه فهل من وراء هذا الخير شر ؟ قال: نعم، قلت: هل من وراء ذلك الشر خير؟ قال نعم، قلت: فهل من وراء ذلك الخير شر؟ قال نعم، قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهدي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس قال قلت كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت لك ؟ قال: تسمع وتطع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع) الحديث. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ومعروفة. ولا يمكن أيضاً الاستناد تماماً إلى الرؤية الشيعية الإمامية التقليدية؛ لأنها منعت من تحقيق مثالها السياسي المنشود؛ لما اشترطت أن يكون القائم به إماماً معصوماً، في الحين الذي قالت بغيبته. إن تلك الأفكار من أشد ما حال بين المسلمين وبين قيام واقع سياسي عادل. فالنظرية السنية مع كل ما فيها من مُثل إلا أنها أعاقت أي إمكانية لتنزيلها لما شرعت للأمر الواقع، واعتبرته مهما كان شكله ممثلاً لإرادة الله تعالى ومحرماً تغييره من أصله؛ وبذلك كان دورها التاريخي الأبرز إضفاء الشرعية على من تَربعَ سُدَّةَ