أن رسول اللهً هو المعلّم لا يحتاج إلى أن يعلّمه عمر، فقول عمر: احجب نساءك، يكون تطفلاً وقلّة أدب مع رسول اللهً وخصوصاً تكرار ذلك مراراً عديدة كما يشعر به لفظ: (كان) مع جعل خبر كان جملة فعلية مبدوءة بالفعل المضارع، فإن ذلك يدل على التجدد والاستمرار في الظاهر، فهو بعيد أن يتجرأ عليه عمر؛ لما فيه من قلّة الأدب وقلّة الحياء والإشعار بتقصير رسول اللهً في صيانة نسائه عن الغاية اللائقة به.
ولكن الزهري متّهم بأنه يريد أن يصور عمر بصورة الشريك لرسول اللهً في أمره، أو أن له منزلة عظيمة عند رسول اللهً تخوله أن يعترض على رسول اللهً ويكرّر الاعتراض.
فصل
ومثل هذا ما أخرجه البخاري(1) من طريق الزهري عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما مات عبدالله بن أبي بن سلول دُعِيَ له رسول اللهً ليصلي عليه، فلما قام رسول اللهً وَثَبْتُ إليه، فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أُبي، وقد قال يوم كذا: كذا وكذا، أُعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله، وقال: أخِّر عني يا عمر، فلما أكثرت عليه قال: إني خيّرت فاخترت -إلى قوله-: فلم نمكث إلا يسيراً حتى نزلت الآيتان من براءة: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} إلى قوله: {وَهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة:84] قال: فعجبت من جرأتي على رسول اللهً. والله ورسوله أعلم.
النكارة
في قوله: وثبت إليه، وقوله: أُعدّد عليه، وقوله: فلما أكثرت عليه؛ لأنها تدل على أنه لجّ في الجدال بعد ما قال له رسول اللهً: ((أخّر عني)) يدل على جرأة شديدة يبعد صدورها من عمر على رسول اللهً لأن رسول اللهً له جلالة عظيمة وهيبة لا يناسبها أن يصنع معه اللجاج واللداد.
مع كون رسول اللهً أعلم بالصواب وأهدى للحق.
__________
(1) صحيح البخاري ج5 ص206.
وفي الأفعال المذكورة واللجاج في الجدال وتكرار التعداد تنزيل لرسول اللهً عن درجة المعلِّم -بكسر اللام- إلى درجة المعلَّم -بفتح اللام- ورفع لعمر عن درجته إلى درجة أن يتصدّى ليعلّم رسول اللهً.
وهذا بعيد أن يحتمل لعمر، وإن يسكتَ عليه الحاضرون من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وغيرهم.
وليس كذلك مجرّد التنبيه الذي في الرواية الأخرى التي من غير طريق الزهري بلفظ: فقام عمر، فأخذ بثوب رسول اللهً فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك ربّك أن تصلي عليه، فقال رسول اللهً: ((إنما خيّرني الله فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}))[التوبة:80].
فهذا تنبيه لتجويز السهو في متعلّق الحكم كما صدر من بعضهم تنبيه أنه صلى خمساً.
وأخرج البخاري في صحيحه(1) عن أبي هريرة قال: صلى بنا رسول اللهً إحدى صلاتي العشاء -إلى قوله-: فصلى بنا ركعتين ثم سلّم فقام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع بده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه ووضعه خدّه الأيمن على ظهر كفّه اليسرى، وخرجت السَّرَعان من أبواب المسجد فقالوا: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر فهأبا أن يكلّماه...إلى آخره.
ففي هذه الرواية دليل على هيبة رسول اللهً إلى حد أنه يعسر على أبي بكر وعمر أن يسألاه: هل قصرت الصلاة؟ فإذا قال: لماذا؟ قالا: لأنك صليت ركعتين، كما في الرواية نحو هذا عن ذي اليدين.
فإذا كانا قد هأبا أن يكلّماه في هذه الحادثة، فكيف لا يهاب عمر أن يثب إليه ويعترض عليه ويجادله ويكثر عليه؟!
بل ذلك دليل على نكارة الرواية التي انفرد بها الزهري فهو المتّهم بها.
__________
(1) صحيح البخاري ج1 ص123.
فصل
ومن ذلك ما أخرجه البخاري(1) ومسلم(2) من طريق الزهري عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهً: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}))[البقرة:260].
النكارة في هذه الرواية
نكارة مكشوفة لأن إبراهيم عليه السلام لا يشك في إحياء الموتى، لكمال عقله ونظره ومعرفته بالله وبقدرته وعدله وحكمته وصدق وعده واختصاصه بكمال معرفة المعجزات التي تكون للأنبياء ومشاهدة الآيات العظيمة، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}[الأنعام:75] فكيف يجوز أن يشك في إحياء الموتى؟ وهو استسلم لحكم الله وسلّم لأمره وأذعن لذبح ولده! والذي رمى به أعداء الله في النار، وروي أنه قال له جبريل عند ذلك -وهو في الهواء-: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.
فهل يبلغ بأحد يقينه بالله وتوكله عليه إلى هذا الحدّ؟ بل لأمر ما اتخذ الله إبراهيم خليلاً: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}[الأنبياء:51].
حاشا إبراهيم عليه السلام.
ولكن الزهري متّهم بوضع هذه الرواية لتهوين أمر الشكّ؛ لأنه قد روى عن عمر في قصة الحديبية التي رواها ما يشعر بأن عمر كان قد شكّ في النبوة، كما نذكره بعد هذا.
فأما قول إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}[البقرة:260].
فله احتمالان:
__________
(1) صحيح البخاري ج5 ص163.
(2) صحيح مسلم ج2 ص183.
أحدهما: ولكن ليطمئن قلبي: بمعنى ليأمن قلبي من الخواطر التي لا تنافي صريح الإيمان، ولكنه يكرهها ويخاف أن تحدث له إذا لم يكن قد شاهد إحياء الموتى، وتفسير الاطمئنان بالأمن يناسب ما في آية صلاة الخوف، {فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ}[النساء:103]الآية من سورة النساء، وفي آية سورة البقرة: {فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ}[البقرة:239]الآية.
الاحتمال الثاني: ليسكن قلبي ويستريح عن تكرار النظر وتذكّر دلائل البعث إذا صار إحياء الموتى ضرورياً لا يحتاج قلبي فيه إلى النظر، وتفسير الاطمئنان بهذا يناسب الاطمئنان في حديث المسيء صلاته، نحو: ثم اركع حتى تطمئن راكعاً.
فجعل الآية دليلاً على حدوث الشك والارتياب في قلب إبراهيم عليه السلام نكارة في رواية الزهري.
ثم إنها تلزمهم فيها نكارة أخرى، حيث جعل صاحب المقام المحمود الذي روى القوم في شفاعته تلك الروايات التي ذكروا فيها تعذر الشفاعة من الأنبياء وقصورهم عنها إلا محمدً وجعلوا سبب تعذّرها من إبراهيم عليه السلام ما رموه به من الكذبات الثلاث -بزعمهم- وحاشاه.
فكيف كان محمدً أحق بالشك؟ وهو الذي سيكون أحق بالشفاعة من جميع الأنبياءٍ؟!
فهذه نكارة في رواية الزهري.
فأما تأويلهم لها بأن المعنى: نحن أحق بالشك من إبراهيم لو شكّ، وعلى هذا فليس فيها إثبات الشك، بل المعنى: لو شكّ إبراهيم لكنا أحق بالشكّ منه، لكنه لم يشكّ فلسنا أحق بالشكّ.
فالجواب: أن هذا تأويل لا يستقيم، إلا بزيادة (لو) التي هي حرف امتناع لامتناع؛ لأنها هي التي قلبت المعنى من الإثبات إلى النفي، ومثل هذا لا يصحّ، ولو صحّ ذلك لصحّ تقدير (ما) النافية قبل الحديث فيكون: ما نحن أحقّ بالشكّ، وهذا تأويل تعسّف.
فإن قيل: ليس المراد [من] التأويل هذا، وإنما نعني إن إبراهيم لم يشكّ، فقول رسول اللهً: ((نحن أحقّ بالشكّ)) لا يقتضي أنه شك لجواز أن يكون الشك جائزاً على إبراهيم، لكنه غير واقع، ويكون على محمدً أجوز مع أنه لم يشك أيضاً، وليس في ذلك حاجة إلى تقدير (لو).
فالجواب: أن هذا لا يصح أن يفسر به: ((نحن أحق)) لأن معناه أن إبراهيم كان حقيقاً بالشك ومحمدً أحق منه، إذا كان فعل التفضيل يقتضي المشاركة بين المفضّل والمفضّل عليه وزيادة للمفضّل، وإلا فهو يقتضي أن محمداًً حقيق بالشك، وهذا أكثر من نسبة جواز الشك إليه، بل معناه: أنه مظنّة للشكّ.
وحاشاهما، بل كلاهما بعيد من الشكّ، لا يجوز عليه؛ لأجل العصمة، فبطل التأويل، وظهرت نكارة الروايات، وقويت تهمة الزهري.
فصل
فأما رواية الزهري في قصة الحديبية فأخرج البخاري(1) من طريق الزهري روايته عن مروان بن الحكم والمسور عن عروة بن مسعود أنه قال لرسول اللهً: فإني -والله- لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشوأبا من الناس خليقاً أن يفروا عنك ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص ببظر اللات، أنحن نفرّ عنه؟!
وفي هذا نكارة؛ لأن أبا بكر لم يكن هو الحقيق بأن يجيب بهذا الجواب المبدوء بهمزة الإنكار، إنما يليق بمن قد عرفت منه البطولة والثبات في المواطن الشديدة، أما أبو بكر فقد انهزم في خيبر وحنين، فلا تليق به المبادرة بهذا الجواب، بل غيره أحقّ به، لو سلم من ذكر البظر ومصّه.
ووجه التهمة للزهري أنه يحبّ تعظيم أبي بكر وعمر وتصويرهما وزيري رسول اللهً وكبيري الصحابة، وأنهما في ثبات وصلابة الدين بحيث يفضلان سائر الصحابة، وأنهما خاصة الخاصة لرسول اللهً ليتقرر أنهما أحق الناس بخلافته، فهذه تهمة للزهري حيث جاء بالرواية المنكرة لينصر بها بدعته.
__________
(1) صحيح البخاري ج3 ص179.
وأخرج البخاري في هذه الرواية: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات، اكتب بيننا وبينكم كتاباً، فدعا النبيً الكاتب فقال النبيً: ((اكتب بسم الله الرحمن الرحيم)) قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري -إلى قوله-: فقال المسلمون: لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم -إلى قوله-: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فقال سهيل: والله، لو كنا نعلم إنك رسول الله ما صددناك عن البيت.
وفي هذه الرواية تهمة بحذف ذكر علي عليه السلام في هذا الموضع، وهو مذكور في رواية غير الزهري ذكراً مكرراً دون أبي بكر، وذلك في صحيح البخاري(1) وفي مسلم(2).
وأخرج البخاري في رواية الزهري المذكورة في هذا الفصل: فقال عمر: فأتيت نبي اللهً فقلت: ألست نبي الله حقّاً؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحقّ وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلِمَ نعطي الدنيّة في ديننا إذاً؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قلت: أوليس كنت تحدّثنا: إنا سنأتي البيت فنطوف به؟! قال: بلى فأخبرتك إنا نأتيه العام؟ قال: قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوّف به.
قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى، قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلِمَ نعطي الدنيّة في ديننا إذاً؟ قال: أيها الرجل، إنه لرسول اللهً وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله، إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدّثنا: إنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به.
قال الزهري: قال عمر: فعملت لهذا أعمالاً. انتهى.
__________
(1) الصحيح ج3 ص167 و ص168، و ج4 ص71، وج5 ص85.
(2) صحيح مسلم ج12 ص135، و ص136، و ص137، و ص139.
فهذه الرواية تفهم أو توهم أن عمر قد شكّ في نبوة محمدً فلا يبعد أنها حملت الزهري على وضع: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم))(1) لتهوين الشك، حتى لا يعاب على عمر.
فصل
ومما يتّهم به الزهري في عمر.
ما أخرجه البخاري(2) ومسلم(3) من طريق الزهري عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا: جاء رجل إلى النبيً فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه وكان أفقه منه فقال: صدق، اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي يا رسول الله، فقال النبيً: قل، فقال: إن ابني كان عسيفاً في أهل هذا فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم، وإني سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم.
فقال: ((والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، المائة والخادم رد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، ويا أنيس، اغد على امرأة هذا فسلها فإن اعترفت فارجمها))، فاعترفت فرجمها.
__________
(1) المذكورة في الحديث في بداية الفصل.
(2) صحيح البخاري ج8 ص34.
(3) صحيح مسلم ج11 ص205.
اعلم أنه لا نكارة في طلب حكم الله، ولا في طلب حكم الله في كتابه، فإنه حق وصدق، لكن من المستبعد التركيز على أن يكون القضاء بكتاب الله والاهتمام على تخصيص القضاء بكتاب الله، مع أن العادة في الخصومة طلب حكم الله من دون اشتراط أن يكون في كتاب الله؛ لأن غرض الخصمين هو فصل الخصومة بينهما بحكم الله بدون قيد أن يكون في كتاب الله؛ لأنهم يكونون مشغولين بالخصومة عن اقتراح أن يكون الحكم بكتاب الله، مع أنهما بحضرة رسول اللهً ليس لهما حق في الفرار من سنته، ولا يقرّهما رسول اللهً على ذلك؛ لأنه هضم للسنة وتوهين لاعتبارها، ولا حق لهما في اشتراط أن يكون الحكم بكتاب الله، كما لا حق لهما أن يكون الحكم بما في بعض القرآن دون بعض؛ لأن الواجب هو الحكم بما أنزل الله سواء في الكتاب أم في السنة، فظهر بمجموع ذلك بُعد هذه الرواية عن الصحة وأنها منكرة.
ثم إن ظاهر الرواية أن الحكم ترتّب على الدعوى دون جواب الخصم؛ لأنه في الرواية قال عقيب ذكر الدعوى: فقال: والذي نفسي بيده...إلى آخره، والحكم لا يكون إلا بعد سماع جواب الخصم.
ثم إن في الحكم: ((وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام)) وهذا لا يكون على مجرد الدعوى، بل ولا على اعتراف الأب، بل لا بدّ من أربعة شهود أو الإقرار أربع مرات من الابن نفسه لا من الأب، وكذلك في الحكم الإرسال إلى الزوجة لسؤالها، وهذا لا يكون من رسول اللهً لأنه تجسّس ولأنها ما دامت مستترة بستر الله فلا يطلب منها كشفه عنها، وهذا لأن الدعوى عليها من أب الولد فلا موجب لسماع دعواه؛ لأنه فضولي.
وإذا كان رسول اللهً قد ردّ ماعزاً الأسلمي حتى أقرّ أربع مرات، كما في البخاري(1) فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه حتى أقر أربع مرات، ونحو ذلك في مسلم(2).
__________
(1) صحيح البخاري ج8 ص21 و ص22.
(2) صحيح مسلم ج11 ص201 و ص203.
وفي البخاري(1) ومسلم(2) من طريق الزهري: فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، فتنحّى تلقاء وجهه، فقال له: يا رسول الله إني زنيت، فأعرض عنه، حتى ثنّى ذلك عليه أربع مرات، فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه رسول اللهً فقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: فهل أحصنت؟ قال: نعم، فقال رسول اللهً: ((اذهبوا فارجموه)).
فهذا الثبت في الحدود ومحاولة الستر على من أقر أول مرة بالإعراض عنه، فكيف يسأل من لم يقر؟ ليقرّ، ليجب عليه الحدّ إن اعترف؟
وقد أخرج البخاري(3) عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: لما أتى ماعز بن مالك النبيً قال له: لعلّك قَبَّلت أو غمزت أو نظرت...إلى آخره.
وهذا يؤكد بُعد رواية الزهري: ((اغد على امرأة هذا فسلها فإن اعترفت فارجمها)) فبينها وبين الحديث في ماعز مراحل ومسافات، فإذا كانً قد تأنّى بماعزٍ وأعرض عنه وقال له: ((لعلّك قبَّت...)) إلى آخره فبالأولى أن لا يسأل امرأة لم تقر أصلاً ولا جاءت لذلك، بل هي غائبة، وإنما قذفها رجل أجنبي فضولي.
ثم من البعيد أن يقول: فإن اعترفت فارجمها، والرجم لا يكون على مطلق الاعتراف حتى يكون أربع مرات بل ولا عقيب الإقرار من المرأة حتى يتبين عدم الحمل.
ومن البعيد إرسال رجل واحد لرجمها وهي قد تدافع عن نفسها فتصارعه أو تراجمه إذا لم يكن إلا واحداً.
فتأكدت النكارة في هذه الرواية بمجموع ما ذكرناه من الوجوه.
أما التهمة للزهري فيها فهو متهم بقصد نصرة عمر في إثبات الرجم ثابتة في كتاب الله كما هو ظاهر رواية البخاري(4) ومسلم(5).
فكأن الزهري خاف أن يعاب هذا على عمر؛ لأن القرآن محفوظ لا يضيع منه شيء لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر:9].
__________
(1) صحيح البخاري ج8 ص24.
(2) صحيح مسلم ج11 ص193.
(3) صحيح البخاري ج8 ص24.
(4) صحيح البخاري ج8 ص26.
(5) صحيح مسلم ج11 ص191.
وليس في الرواية عن عمر دعوى أنها كانت من القرآن ثم نسخت، بل دعوى أنها ثابتة في كتاب الله، وذلك يفهم أو يوهم أنها لم تنسخ تلاوتها وكونها قرآناً، وإنما ظاهر كلامه أنها لم تكتب في المصحف.
حتى أن في رواية عن عمر: أنه لولا أن يقول الناس زاد في كتاب الله، لكتبها في المصحف، وهذا يؤكد اعتقاده أن آية الرجم باقية من كتاب الله لم تنسخ، وإنما تركها الناس، وظنوا أنها ليست من القرآن، فترك عمر كتابتها في المصحف لخوف القالة، لا لأنها قد نسخت عن كونها من الكتاب.
فالزهري متّهم بقصد نصرة عمر بإثبات آية الرجم في كتاب الله برواية: (أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب...) إلى آخره.
وفيها: (صدق، اقض بيننا بكتاب الله) وفيها: ((لأقضين بينكما بكتاب الله)). والله أعلم.
ولعله زاد حرص الزهري على نصرة عمر في هذا الشأن ما أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده(1) بسنده عن الشعبي: أن عليّاً رضي الله عنه حين رجم المرأة من أهل الكوفة ضربها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: أجلدها بكتاب الله، وأرجمها بسنة نبي اللهً.
وفي مسند أحمد(2) حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سلمة بن كهيل عن الشعبي: أن عليّاً رضي الله جلد شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة وقال: أجلدها بكتاب الله، وأرجمها بسنة رسول اللهً.
وروى في المسند(3) بسند ثالث عن الشعبي قال: أُتي علي بمولاة لسعيد بن قيس محصنة قد فجرت قال: فضربها مائة ثم رجمها ثم قال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنّة رسول اللهً.
وروى مثل ذلك في رجل عن الشعبي عن علي عليه السلام: جلدته بكتاب الله، ورجمته بسنة رسول اللهً، وذلك في المسند(4).
__________
(1) المسند ج1 ص93.
(2) المسند ج1 ص107.
(3) مسند أحمد ج1 ص116.
(4) مسند أحمد ج1 ص116.