الحديث الرابع
أخرج البخاري(1) ومسلم(2) من طريق الزهري عن عروة عن عائشة: أن فاطمة والعباس عليهما السلام أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول اللهً وهما حينئذ يطلبان أرضيهما من فدك وسهمهما من خيبر.
فقال لهما أبو بكر: سمعت رسول اللهً يقول: ((لا نورث ما تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد من هذا المال)) قال أبو بكر: والله لا أدع أمراً رأيت رسول اللهً يصنعه فيه إلا صنعته.
قال: فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت.
النكارة في هذه الرواية
نكارة بينة من وجهين:
الوجه الأول: أن رسول اللهً كان يحب أهله ويرحمهم ويرفق بهم، وكانت فاطمة عليها السلام بمنزلة بضعة منه يريبه ما يريبها، فلو صح الحديث لكانً قد بلّغ الحديث أهله وبينه لهم وأسمعهمن ولا سيما فاطمة؛ لأنها حوله، والمسألة تخصها أعظم من غيرها؛ لأن لها النصف وحدها، وهي حول الرسول، مستعدة للتعلم منه في دينها، ولقبول ما جاء به والعمل به.
مع ما جاء في رواية البخاري وغيره أن رسول اللهً سارَّ فاطمة فبكت، ثم سارَّها فضحكت وأنه في ذلك أخبرها باقتراب أجله وأنها أول أهله لحوقاً به.
وعلى هذا فقد علم أنه يموت قبلها، وأنها تعتقد أنها وارثته لقول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}[النساء:11] فكيف يتصور مع هذا أن يكتم عنها: (أنه لا يورث وأن ما تركه كله صدقة)؟ حتى يوقعها في مطالبة أبي بكر بالإرسال أولاً، ثم بإتيانه بنفسها ثانياً؟ ومجادلته واتهامه والتألم من منعه لها وهجرها له حتى ماتت رضي الله عنها؟!
مع أنه لو بيّن الرسولً لها أنها لا ترث، وأن جميع ما تركه صدقة لقبلت ذلك ورضيت به وانشرح له صدرها -لكمال إيمانها- وسلمت تسليماً، وسلمت من المطالبة والخصومة والأذى باعتقادها أنها مظلومة.
وهل يتصور من رسول اللهً الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم، وبنته فاطمة سيدة نساء أهل الجنة من صفوة المؤمنين، فرحمتها لكونها منه بمنزلة البضعة من لحمهً وهي بنته لم يخلف ولداً غيرها، ولكونها من صفوة المؤمنين وخيارهم(3) فهل يتصور منه -مع هذا- أن يكتم عنها هذا الكتمان الذي يؤديها إلى هذه المحنة.
__________
(1) صحيح البخاري ج8 ص3.
(2) صحيح مسلم ج12 ص80.
(3) انظر الفائدة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة من الخاتمة الآتية.
ومع ذلك يعطي خصمها الحجة، ويعلمه -دونها- ما يدحض حجتها، ويسوغ له إغضابها؟!
فيجمع أبوها عليها حرمان الميراث، وحرمان تعليم الصواب فيما يخصها، وهي في أمس الحاجة إليه، وقد علم أنه يموت قبلها، فتجتمع عليها المصائب والمحن في موته الذي هو أعظم المصائب على كل مسلم، فضلاً عن ابنته، ويضاف إلى ذلك حرمانها ميراثه، بحيث تصير بصورة الأجنبية عنه.
ثم يضاف إلى ذلك اعتقادها أن خصمها قد كذب على رسول اللهً وخالف كتاب الله ورد حكم الله، وذلك مما يحزن كل مؤمن يعلم صدوره، فضلاً عن بنت رسول اللهً، أو مصيرها في مشكلة واضطراب.
وسبب ذلك كله كتمان أبيها عنها، وإعداد الحجة بيد خصمها، وهي لا تعلم.
هذا لا يكون أبداً، وحاشا رسول اللهً.
فهذه نكارة فاضحة للراوي، والأولى بها الزهري.
الوجه الثاني: أن مقتضى أول الحديث: أن المال ينقلب صدقة بموت رسول اللهً فلا يبقى على ما كان عليه حين كان له، يأخذ منه نفقة سنة ويتصدق بالفضلة.
ومعنى آخر الكلام يصنع كما كان يصنع رسول اللهً حين كان له.
فأبو بكر يريد إبقاء المال دون صرفه في مصارف الصدقة مع أنه قد صار على هذه الرواية صدقة كله.
وكأن المهم هو حرمان فاطمة والعصبة لا غير، وتوفير المال لأزواج النبيً لعائشة وحفصة وسائرهن لا باسم صدقة لهنّ بل باسم أن رسول اللهً كان ينفق عليهن من هذا المال، ومن الواضح أنه ينفق على نسائه من ماله؛ لأنه ماله، وأنه على هذه الرواية قد صار صدقة بموته، فبطل سبب الإنفاق عليهنّ منه.
فهذا تناقض ظاهر، يؤكد هذا ويوضحه ما أخرجه البخاري في صحيحه في تفسير سورة الحشر(1) عن الزهري عن مالك بن أوس بن حدثان عن عمر رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسولهً مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول اللهً خاصة ينفق على أهله منها كفاية سنة، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله. انتهى.
__________
(1) صحيح البخاري ج6 ص58.
وأخرج البخاري في باب المزارعة(1) عن نافع أن ابن عمر (رض) أخبره عن النبيً عامل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع، فكان يعطي أزواجه مائة وسق ثمانون وسق تمر وعشرون وسق شعير، فقسم عمر خيبر، فخير أزواج النبيً أن يُقطِع لهن من الماء والأرض، أو يمضي لهنّ، فمنهن من اختار الأرض، ومنهن من اختار الوسق، وكانت عائشة اختارت الأرض.
ونحوه في صحيح مسلم(2).
فهاتان الروايتان تؤكدان أن المال له خاصة ينفق منه على نسائه، ورواية الزهري تذكر أن أبا بكر يعمل في مال رسول اللهً كما كان يعمل حين كان ملكه، وأن المال قد انقلب صدقة بموت رسول اللهً.
وهذا تناقض ونكارة في الرواية رواية الزهري، وأكد ذلك إعطاء عائشة الأرض مع ما تكرر في روايات الزهري: ((إنما يأكل آل محمد في هذا المال)) وفي الرواية في الحديث الثالث: يعني مال الله.
الغرض الذي يتهم به الزهري
هو في هذا كالذي قبله.
__________
(1) صحيح البخاري ج3 ص68.
(2) الصحيح ج10 ص209 و ص210.
الحديث الخامس
أخرج البخاري في صحيحه(3) ومسلم(4) من طريق الزهري عن عروة عن عائشة عقيب حديث ميراث فاطمة: فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها، وكان لعلي من الناس وجهٌ، حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجهَ الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك كراهية لمحضر عمر، فقال عمر: لا والله لا تدخل عليهم وحدك.
فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي والله لآتينهم، فدخل أبو بكر.
فتشهد علي، فقال: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك، ولكنك استبددت بالأمر علينا، وكنا نرى لقرابتنا من رسول اللهً نصيباً.
حتى فاضت عينا أبي بكر، فلما تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده لقرابة رسول اللهً أحب إليّ أن أصل من قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فلم آل فيها عن الخير، ولم أترك أمراً رأيت رسول اللهً يصنعه فيها إلا صنعته.
فقال علي: موعدك العشية للبيعة، فلما صلى أبو بكر الظهر، رقى المنبر فتشهد، وذكر شأن علي وتخلفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر.
وتشهد علي، فعظم حق أبي بكر وحدث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكاراً للذي فضله الله به، ولكنا كنا نرى لنا في هذا الأمر نصيباً، فاستبد علينا فوجدنا في أنفسنا.
فسر بذلك المسلمون وقالوا: (أصبت) وكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر بالمعروف. انتهى.
وقد أعرب في البخاري (فاستبد) بفتح التاء والباء وهو الذي يقتضيه السياق، وفي مسلم بضم التاء وكسر الباء مبني للمجهول ويظهر أنه من تصرفهم في الروايات بأهوائهم.
__________
(3) الصحيح ج5 ص83.
(4) صحيح مسلم ج12 ص77.
النكارة في هذا
نكارة بينة لمن فكر في هذا الحديث:
أولا: في قوله: (استنكر عليّ وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر وبيعته) فإن علياً عليه السلام كان همه إرضاء ربه لا إرضاء الناس، فكيف يبايع لإرضاء الناس واستصلاح نظرهم إليه وبسط وجوههم! وقد كان أجل من أن يبايع لأجل ذلك، في حال علمه أنه على الحق وليس لأبي بكر حق في البيعة، ولا لشيعته حق في أن يرضيهم بالبيعة.
ثانيا: لا حاجة به إلى الإرسال إلى أبي بكر ليعتذر إليه من التخلف عن البيعة، مع أنه يعلم أنه على حق في تخلفه، وأنه إنما أراد البيعة للاضطرار لانقباض وجوه الناس، أو إعراضها؛ لأنه يكفي أن يبايع فيرضى بذلك الناس ويسلم تنكرهم.
ولا يصح أن يقال: إنه أرسل إلى أبي بكر ليبايعه سراً فلم يرض أبو بكر إلا أن تكون البيعة بمحضر من الناس.
لأنا نقول: إن هذه الرواية تدل على أن علياً أراد البيعة لإرضاء الناس، وذلك يستلزم إعلانها من أول الأمر؛ لأن البيعة في السر لا ترضيهم إذا لم يعلموها، فإن كان المقصود أن تسر ثم تبلغ إلى الناس فلا معنى لإسرارها؛ لأن الغرض من أول الأمر ظهور بيعته للعامة.
ثالثاً: إن هذا الكلام الذي في الراوية أمكنته ثلاثة:
أوله عند أبي بكر حين جاءه الرسول، وتحاور هو وعمر في أن يصير أبو بكر وحده أو يصير إلى علي ومعه غيره للخوف من فتك علي به.
وأوسطه الكلام في بيت علي عليه السلام بزعم هذه الرواية، وقد ذهب أبو بكر وحده.
وآخره في المسجد.
فكيف تكون عائشة حاضرة في الثلاثة الأمكنة لتروي الكلام بتمامه أوله وأوسطه وآخره، وهي امرأة مأمورة بالبقاء في بيتها، ومستبعد دخولها بيت علي واطلاعها على ما يجري فيه من المحاورة، ومستبعد في ذلك الحين تدخلها في السياسة ومسايرة الأحداث والتنقل للبحث عما يجري، ومخالطة الأجانب مع هيبة أبيها وقرب العهد برسول اللهً وبعهد صيانة نسائه وسترهن ووقورهن في بيوتهن وبعدهن عن مخالطة الأجانب وحضور مجالسهم لغير حاجة، بل لمجرد الفضول والتعاطي لما هو من شأن الرجال خاصة.
رابعاً: إن الإعتذار بأن يقول: إنا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، يكون إقراراً بأن تخلّفه عن البيعة مع علمه بأن الحق لأبي بكر دون علي عليه السلام وبذلك يكون واجب الطاعة يحرم التخلّف عنه ثلاثة أشهر، في معنى الخلاف والشقاق، كما تشعر به الرواية هذه نفسها، فيكون ذلك إقراراً من علي عليه السلام بأنه كان مخطئاً في التخلّف عن البيعة في تلك الأشهر الماضية.
وهذا لا يتصور من علي عليه السلام لأن همه إرضاء الله تعالى ورغبته فيما يرضيه، ولا يلتفت في جنب ذلك إلى أمر دنيوي، ولا يصده عن الحق ما يصد غيره من الأغراض النفسية، حاشاه.
وهذا واضح عند من يعرف عليا عليه السلام، وإنما ينفق مثل هذه الرواية عند الأموية وأضرابهم وشيعتهم.
مع أن أبا بكر لو كان في الفضل على علي إلى هذا الحد لكان يحتج عليه عند ابتداء تخلفه عن البيعة أو يسأله: لِمَ تخلّف؟ فإذا أجاب بأنه استبد، اعتذر عن الاستبداد في أول الأمر قبل أن يطول الاستبداد أو تطول مدته، وحذراً من أن يسبب تخلف علي عليه السلام لريب في قلوب بعض الناس، فإن علياً كانت له المكانة العظمى، وإذا سارع إلى البيعة كان أقوى لأمر أبي بكر.
والرواية هذه تشير إلى معنوية علي عليه السلام بحيث يرضي العامة وفاقه ويسخطها شقاقه، وأنه لم يكن حقيراً لا يلتفت إليه ولا يبالى بتخلّفه ولا حضوره، بل كان تخلفه أمراً هاماً، فإن كان أبو بكر يجهل سببه، فكيف لا يسأله عنه؟ ليعرف ما هو المانع عن المسارعة؟ ليرفع المانع إذا كان مما يسهل رفعه؟ لأن الحزم يقتضي ذلك.
مع أنه لو لم يكن في ذلك إلا المقاطعة لكان ينبغي لأبي بكر تجنبها إن كانت قرابة رسول اللهً أحب إليه أن يصلها من قرابته، كما في هذه الرواية نفسها، فكيف يترك علياً وشأنه؟ دون سؤال، ولا تعرُّف لسبب التخلّف، ولا اعتذار من الاستبداد يوم السقيفة، ولا محاولة لصلاح الشأن؟ والله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا الله وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ}[الأنفال:1].
مع أن سبب التخلف في هذا الحديث الذي يرويه الزهري سبباً أمرٌ تسهل إزالته والاعتذار عن أوله، فيصلح الشأن وينقطع الخلاف من أول الأمر.
هيهات! هيهات! لم يكن الأمر كما توهمه هذه الرواية، ولو كان مما يسهل علاجه لبادر إليه أبو بكر؛ لأنه يدّعي أنه خليفة رسول اللهً ويحاول اجتماع الأمة تحت أمره، ومقتضى ذلك، السعي له بكل وسيلة ممكنة فضلاً عن أن يسأله: لماذا تخلف؟ فإذا قال: استبددت علينا يوم السقيفة، اعتذر عن ذلك وطلبه المشاركة في الأمر بوزارة يتولاها أو غير ذلك ما يصير له نصيباً في الأمر، فيذهب بذلك ما في نفسه من الاستبداد ومن حيث أنه يرى لنفسه نصيباً في الأمر، كما في هذه الرواية نفسها، وبذلك يحصل الوفاق فوراً.
إذا عرفت هذا عرفت أن الرواية منكرة نكارة بينة، وأن علياً عليه السلام لم يكن مع ثباته على الحق والصدق ليقول: إنا عرفنا فضلك، ولا ليعتذر عن التخلّف؛ لأن الحق معه في التخلف وغيره، ولا ليعتذر من الحق ويوهم أنه باطل ثم يستغفر، كما في الرواية ليوهم أنه كان مذنباً في التخلف.
فتلخص أن هذه الرواية تنسب إلى علي عليه السلام أنه أقر بأنه كان على باطل في تخلفه عن بيعة أبي بكر وأنه ارتكب الباطل؛ لأنه وجد في نفسه، وذلك يدل على أنه في هذه الرواية وجد في نفسه حرجاً من الحق، ولم يسلم له تسليماً في مدة التخلف، بل أجاب داعي النفس فترك الحق لأجله كما هو معنى قول الراوي: (فاستبد علينا فوجدنا في أنفسنا) لأن هذا الكلام على ما في الرواية جاء تعليلاً للتخلف أي فوجدنا في أنفسنا فتخلفنا مع علمنا بفضل أبي بكر، وأن الحق له آتاه الله!
هذا ملخص الرواية.
فأي نكارة أبين من هذا؟ وكيف لا تكون فاضحة للراوي؟ وهو أحق بما ذكر من العيوب والمساوي؟
خامساً: أن الولاية العامة وخلافة الرسولً لا تخلو من أن يكون علي أحق بها كما هو الواقع، أو أبو بكر كما يدعي:
فإن كان الحق لأبي بكر فلا يتخلف عنه علي عليه السلام لاعتقاده أن له نصيباً في الأمر؛ لأن النصيب لا يكون عذراً في ترك الطاعة لمن هو أولى بالأمر، إنما العذر أن يكون علي أحق بالأمر، فكيف يعتذر علي عليه السلام بما ليس عذراً؟ وهو أقضى الأمة وأعلمها بالحق، فيعتذر بما يعلم أنه ليس عذراً، وأنه ليس إلا إقراراً يحق أبي بكر، ودعوى أن له نصيباً وأنه وجد في نفسه، فيسجل على نفسه الخطأ واتباع الهوى.
وهذا ليس اعتذاراً وإنما هو افتضاح.
مع أنه لا ملجئ إلى ذلك بل يكفي منه أن يبايع ليرضى عنه الناس.
حاشا عليا عليه السلام حاشاه.
سادساً: قول الراوي: فسُر بذلك المسلمون، وقالوا: (أصبت) وكان المسلمون إلى علي قريباً حين راجع الأمر بالمعروف.
معنى هذا الكلام أن علياً عليه السلام أصاب حين رجع إلى البيعة والوفاق، وأنه كان قبل ذلك شاذاً عن المسلمين، وفي مذهب خارج عن سبيل المؤمنين، فجعل الراوي أبا بكر وأصحابه هم المسلمين، أما المخالفون لهم فكأنهم ليس لهم حظ في اسم الإسلام لقلتهم وقلة مكانتهم من الإسلام، وكأن علياً عليه السلام في هذه الرواية ليس إلا فرداً من عوام المسلمين ينعقد الإجماع بدونه، ويسمى المخالفون له باسم يجعلهم المسلمين لعدم اعتبار ذلك الفرد منهم تصغيراً له وتنزيلاً له منزلة المعدوم، فكأن المخالفين له هم كل المسلمين، وكأنه ليس جزءاً من الجملة بحيث يكون هو ومن معه بعض المسلمين، وأبو بكر ومن معه البعض الآخر على أقلّ تقدير، وعلى التنزل لهذه الرواية، وإلا فظاهرها إخراج علي عليه السلام قبل البيعة من الإسلام حيس سمى الراوي خصوم علي عليه السلام هم المسلمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فما أنكر الرواية هذه، وأبعدها عن الصواب!.
التهمة والغرض الباعث للراوي على هذه الرواية
هما كالتهمة فيما سبق من روايات الزهري وكالغرض الباعث له في الروايات السابقة، كما لا يخفى على الناقد البصير، وإلى الله المصير.
والزهري أولى بها من عروة؛ لأن عروة لو كان يرويها لتلاميذه على كثرتهم لرووها عن عروة، ولما اختص الزهري بها، ولأن الزهري أوردها في آخر حديث منع فاطمة عليها السلام ميراثها، وهو المعتني بهذه الرواية وجالب الروايات فيها، كما قدمنا، فهو أولى بالكل.
مع أن ذلك أوفق لحال الزهري لتقربه إلى بني أمية، وهذه الرواية وأمثالها مما يعجب ملوكهم وأمراءهم ويرفع درجة الزهري عندهم، فهو أولى بها؛ لأنه قد رواها ولم تثبت عن عروة، فلا يترك المتحقق لأجل المحتمل.
الحديث السادس
أخرج البخاري في صحيحه(1) ومسلم(2) كلاهما من طريق الزهري: أن المِسوَر بن مخرمة قال: إن علياً خطب بنت أبي جهل، فسمعت بذلك فاطمة، فأتت رسول اللهً فقالت: يزعم قومك أنك لا تغضب لبناتك، وهذا علي ناكح بنت أبي جهل.
فقام رسول اللهً فسمعته حين تشهد يقول: ((أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدّثني وصدقني، وأنّ فاطمة بضعة مني وإني أكره أن يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول اللهً وبنت عدو الله عند رجل واحد))، فترك علي الخطبة.
النكارة في هذه الرواية
نكارة جلية؛ لأن علياً عليه السلام لا يؤذي رسول اللهً ولا بنته عليها السلام التي هي بضعة منه، بل لا شك أن علياً عليه السلام كان أشد الناس اتباعاً للرسولً ولزوماً له ومحبة له ولما يحب وكراهة لما يكره، كما يقتضيه إيمانه.
ومقتضى الإيمان -كما في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه(3)- أن يكون الرسولً أحب إلى علي من نفسه وولده والناس أجمعين.
وكما يقتضيه قرابته وصهره وإحسان الرسول إليه من صغره، وتربيته كما اعترف بذلك ابن حجر في فتح الباري(4) حيث قال: إن علياً كان عنده كالولد؛ لأنه رباه من حال صغره، ثم لم يفارقه بل وازداد اتصاله بتزويج فاطمة. انتهى.
وكما يقتضيه تعليمه الطويل وإرشاده المستمر؛ لأن من شأن التلميذ حب معلمه الذي تعظم إفادته له ونعمته عليه ويطول بذلك إحسان الشيخ إلى تلميذه، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها.
وكما يقتضيه حب علي للفضيلة والكمال والخُلق العظيم، وهو يعلم أن رسول اللهً محل ذلك ومعدنه، ألا ترى أن من أحب العلم أحب العلماء، ومن أحب العدالة أحب أهلها، ومن أحب مكارم الأخلاق أحب أهلها، ومن أحب الحق أحب أهله، ومن أحب البطولة والشجاعة أحب أهلها.
__________
(1) صحيح البخاري ج4 ص212.
(2) صحيح مسلم ج16 ص4.
(3) صحيح البخاري ج1 ص9.
(4) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ج8 ص357.