وهذه الكلمة مصحّفة والأصل: (وبقي ما له في الناس نظير) يعني في العلم، والدليل على ذلك أن خلاصة التهذيب أصلها وأصل تهذيب التهذيب واحد، وهو تهذيب الكمال، لكنّ (الخلاصة) مختصرة، وتهذيب التهذيب مبسوط، وهذه الكلمة غير موجودة في تهذيب التهذيب، مع أن لها أهمية توجب ذكرها لو كانت موجودة في تهذيب الكمال، لتوفر داعي مؤلف تهذيب التهذيب إلى الرفع من شأن الزهري؛ لأنه من أئمته، فلما لم يذكرها دلّ على أنها غير موجودة في أصلها الذي هو تهذيب الكمال، فدلّ على أن الأصل: (كان الزهري من أسخى الناس وبقي ما له في الناس نظير).
يؤكد ذلك أن ترجمة الزهري في كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم مبسوطة، وفيها مدح له كثير بالعلم والحفظ وليس فيها تلك الكلمة، بل فيها بسنده عن ابن القاسم قال: سمعت مالكاً يقول: بقي ابن شهاب وما له في الدنيا نظير، وقد بحثت بعد هذا في (تهذيب الكمال) نفسه فما وجدت فيه تلك الكلمة.
فظهر أن كلمة (الخلاصة) فيها تصحيف (بقي) إلى (تقي) باختلاف النقط(1).
ولعل الناسخ بعد أن توهم أنها تقي بالتاء المثنّاة، ظن الصواب كتابتها بالألف بعد الياء لأنها عنده منصوبة لكونها خبر (كان) فكتبها (تقياً) لاعتقاده أن كتابتها تقي بالتاء المثناة وبدون ألف غلط محقق.
__________
(1) هذا ما حققه السيد العلامة الحوثي دام علاه، وهو الحق.
... والموجود في مطبوعة تهذيب الكمال ج26 ص(436) هو:
... 1- قول عمر بن عبد العزيز: لم يبق أحد أعلم بسنة ماضية منه.
... 2- عن مكحول: ما بقي على ظهرها أحد أعلم بسنة ماضية من الزهري.
... وفي ص(440) عن مالك: كان ابن شهاب من أسخى الناس.
... وليست لكلمة (تقياً) أثر في ترجمته هناك، مع أنه الأصل لكتاب الخزرجي، فلاحظ..

هذا، مع أن رواية (الخلاصة) عن مالك مرسلة وغريبة فهي مردودة لنكارتها، ويؤكد ما ذكرناه ما رواه الخطيب في كتابه الكفاية في علم الرواية(1) بإسناده عن ابن أبي أويس قال: سمعت خالي مالك بن أنس يقول: إن هذا العلم دين، فانظروا عمّن تأخذون دينكم، لقد أدركت سبعين عند هذه الأساطين -وأشار إلى مسجد رسول اللهً- يقولون: (قال رسول اللهً) فما أخذت عنهم شيئاً، وإن أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أميناً، إلا أنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ويقدم علينا محمد بن مسلم بن عبيدالله (ابن عبدالله بن شهاب) وهو شاب فنزدحم على بابه. انتهى.
ومعنى هذا أنه ترك العبّاد والنسّاك بمسجد رسول اللهً الأمناء، وعدل إلى الزهري وهو شاب، وذلك لأن الزهري من أهل هذا الشأن.
فكان خلاصة الكلام أنه ترك العبّاد وعدل إلى الزهري، وذلك يشعر بأن الزهري ليس من العبّاد وأنه لا يستقيم مع ذلك أن يصفه مالك بأنه: (تقي ما له في الناس نظير) لأن من كان في التقوى منقطع النظير لا بد أن يكون من العابدين؛ لأن الباعث على التقوى باعث على العبادة وهو الخوف والرجاء والرغبة في الشكر وتعظيم الله جل جلاله، فتأكد أن مالكاً لم يصفه بالتقوى المذكورة، وأن ما في (الخلاصة) عنه تصحيف.
فإن قيل: إن تعظيم القوم للزهري، واتّخاذهم له إماماً في الحديث يدلّ على أنه عندهم من أهل الفضل في الدين.
قلنا: لا نسلم ذلك:
فقد رووا عن بعض أئمتهم ما يدل على خلاف ذلك، ففي كتاب المجروحين لابن حبان(2) عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: لم نجد الصالحين أكذب منهم في الحديث.
وروى ابن حبان هنالك أيضاً عن عمرو الناقد عن وكيع أنه قال وسأله رجل فقال: يا أبا سفيان، تعرف حديث سعيد بن عبيد الطائي عن الشعبي في رجل حجّ ثم حجّ قال: من يرويه؟ قلت: وهب بن إسماعيل، قال: ذاك رجل صالح وللحديث رجال. انتهى.
__________
(1) الكفاية في علم الرواية ص159.
(2) المجروحين لابن حبان ج1 ص67.

ذكره ابن حبان في النوع الخامس من أنواع الجرح في الضعفاء فقال فيه: ومنهم -أي من الرواة- من كبر وغلب عليه الصلاح والعبادة وغفل عن الحفظ والتمييز...إلى آخره.
وهذه طريقة تلبيس؛ لأن الذي يسبب الغفلة هو الكبر والضعف، فأما الصلاح فهو بالعكس يدعو إلى الحفظ؛ لأن الإيمان يسبب الرغبة في العلم والحرص عليه بقدر الإيمان وقوته، وإذا قوي الحرص على العلم كان ذلك سبباً لحفظه، ولأن الصالحين تكون أذهانهم موجهة للعلم ولا تشغلهم العبادة عن العلم؛ لأن العلم هو الذي به تقوم العبادة فليس معنى العبادة مجانبة العلم والإعراض عنه، بل معناها العمل بالعلم، والحاجة إلى العلم تستمر حتى الموت، فالمؤمن لا يعتقد أن قد استغنى عنه، بل يعتقد أنه لا بد منه في العبادة، وأن من العبادة التعليم، وإفادة من سأل، والذي ظهر أن الصالحين ابتعدوا عن السلطان، ولم يساعدوه على ما يهواه في أسلوب الحديث من الزيادة والنقصان فاضطروا إلى السكوت، ومنع الناس من التعلم منهم وقيل: ليسوا من أهله.
كما روى مسلم في أول صحيحه والخطيب في الكفاية(1) بسنده عن ابن أبي الزناد عن أبيه قال: أدركت بالمدينة مائة، كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم شيء من الحديث، يقال: ليس من أهله. انتهى.
وكان أبو الزناد في عهد الأموية، ومع ذلك كان الصلاح والدين فائقاً في أهل البيت وشيعتهم، كما يعرف باستقراء التاريخ، وكان المخالفون لهم في الغالب أقرب إلى السلطان وإلى الدنيا، فكانوا مظنة أن يجعلوا الصلاح غير مرجّح لقبول الرواية؛ لأن أهل البيت وشيعتهم يروون خلاف مذهب القوم في الفضائل وغيرها، ومنهم من هو مشهور بالفضل يعسر على القوم جرحه إلا بأنها أدركته غفلة الصالحين!
__________
(1) الكفاية للخطيب ص159.

فاعرف هذا ولا تغتر بقول ابن حبان وأضرابه، بل اتهمهم في باب الجرح والتعديل، فهم يميلون إلى تقوية مذهبهم بتعديل رجالهم وتضعيف خصومهم، ومع ذلك عداوة المذهب، فهي باعث على الجرح شديد، وكذلك الحسد، وكذلك الرغبة في إسعاد السلطان وموافقة هواه، نسأل الله العصمة والتوفيق.
نعم، وبمجموع ما ذكرناه في الزهري تتأكد الروايات الدالة على ميله إلى الدنيا وركونه إلى الذين ظلموا، فصار متهماً بمساعدتهم في الحديث بما ينفق عند العامة ولا يبطل ثقته عندهم.
وفي مسند أحمد بن حنبل(1) حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا روح حدثنا إسحاق حدثنا عمرو بن دينار، وحدثنا عبدالرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن أبي موسى عن وهب بن منبه عن ابن عباس أن النبيً قال: ((من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن)). انتهى.
وأخرجه أبو داود في سننه(2) وأخرجه النسائي(3) بلفظ: ((من اتبع السلطان افتتن)).
وقال ابن حجر في شرحه على البخاري(4): وفي حديث عمر في مسنده للإسماعيلي من طريق أبي مسلم الخولاني عن أبي عبيدة بن الجراح عن عمر رفعه قال: ((أتاني جبريل فقال: إن أمتك مفتنة من بعدك، فقلت: من أين؟ قال: من قبَل أمرائهم وقرائهم يمنع الأمراء الناس من الحقوق فيطلبون حقوقهم فيفتنون ويتبع القراء هؤلاء الأمراء فيفتنون)) الحديث.
وأخرج الإمام أبو طالب عليه السلام في الأمالي(5) بسنده عن أنس قال: قال رسول اللهً: ((اتقوا العابد الجاهل والعالم الفاسق)).
وأخرج هنالك بسنده عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللهً: ((الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا)).
قيل: وما دخولهم في الدنيا يا رسول الله؟ قال: ((اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم)).
__________
(1) مسند أحمد ج1 ص357.
(2) سنن أبي داود ج3 ص111.
(3) سنن النسائي ج7 ص196.
(4) فتح الباري ج13 ص4.
(5) الأمالي ص156 باب ذكر علماء السوء والتحذير منهم.

وروى المرشد بالله عليه السلام في الأمالي مثله(1).
وفي كنز العمال(2) عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللهً: ((تعوذوا بالله من جبّ الحزن -إلى قوله في آخر الحديث-: وإن من شر القراء من يزور الأمراء)).
أفاد في كنز العمال أنه أخرجه ابن عساكر.
وفي كنز العمال أيضاً(3) عن ابن عباس قال: قال رسول اللهً: ((إنها ستكون أمراء يعرفون وينكرون فمن ناواهم نجا، ومن اعتزلهم سلم أو كاد، ومن خالطهم هلك)) أفاد أنَّه أخرجه ابن أبي شيبة.
فتحصل من هذه الجملة أن الزهري في ميله لأمراء الأموية ومخالطته لهم متهم بالنصرة لهم والمعاونة والمساعدة بالروايات التي تسوغ عند العامة، ولا تجرح فيه عند خاصة أتباعه وأشباهه وأضرابه، ولا سيما بالزيادة في الروايات التي قد روى أصلها غيره، والنقص وتوليد السند كما سبق مثال ذلك في الفصل الأول.
ومما يقوي أن الزهري مظنة المعاونة لهم ما أخرجه في كنز العمال(4) عن الزهري أنه قيل له: كنا لا نزال نحسن الظن بالرجل من أهل القرآن وأهل المساجد ثم تخالف قال: ذلك النقص.
__________
(1) الأمالي ج1 ص68.
(2) كنز العمال ج10 ص166 ح1348 باب التحذير من علماء السوء الطبعة الثانية.
(3) كنز العمال ج5 ص474 الحديث المرقم2122، الطبعة الثانية.
(4) كنز العمال ج11 ص243 ح1097.

ثم قال: إن الناس كانوا في حياة رسول اللهً أهل سنّة، ولم يكن لهم كثير عبادة، ولكنهم كانوا يؤدون الأمانة ويصدقون النيّة، فلما مات رسول اللهً هبط الناس درجة، وكانوا على شريعة من أمرهم مع أبي بكر وعمر، فلما مات عمر هبط الناس درجة، وكاونوا مع عثمان حسنة علانيتهم فلا بأس بحالهم حتى قتل عثمان انهتك الحجاب، وكان الناس في فتنتهم استحلوا الدماء فتقاطعوا وتدابروا حتى انكشفت عنهم، ثم ألفهم الله في زمن معاوية فكانوا أهل دنيا يتنافسون فيها، ويتصنعون لها، ثم حضرتهم فتنة ابن الزبير، فكانت الصيلم، ثم صلحوا على يدي عبدالملك بن مروان فأنت منكر معهم ما تذكر من حسن ظنك بهم وخلافهم فليس يزال هذا الأمر ينتقص... إلى آخره.
أفاد في كنز العمال أنه أخرجه ابن عساكر.
وهذا كلام من لم يجعل لأمير المؤمنين علي عليه السلام وشيعته وزناً، بل جعل عهدهم عهد فتنة، وسوّى في ذلك بينهم وبين الفئة الباغية، ثم زاد على ذلك فأشار إلى أن عهد معاوية -بعد ما تم له الأمر بقتل أمير المؤمنين ومصالحة الحسن- عهد نعمة وخير باجتماع الأمة تحت دولة معاوية؛ لأنهم في نظره قد تخلصوا من الفتنة حين غلب الباطل، ولم يبق للحق في ذلك العهد دولة في الحقيقة، فكانوا -بزعم هذا القائل- في عهد خير، ألفهم الله عليه، وإنما كانوا في النقص الديني الذي جرت به العادة؛ لأن الناس لا يزالون ينقصون، فكانوا في ذلك العهد أبناء دنيا يتنافسون فيها ويتصنعون لها، ثم حضرتهم فتنة ابن الزبير، وألغى ذكر مصيبة كربلاء، ومصيبة الحرة لكبر عارهما وإثمهما على يزيد، فذكرهما غير موافق لهوى الأمويين في عهد الزهري.
ثم قال: ثم صلحوا على يدي عبدالملك.

فانظر كيف قال: (صلحوا على يدي عبدالملك؟) ولم يقل: كانوا أهل دنيا يتصنعون لها؛ لأن عهد عبدالملك الذي يريد الزهري التقرب إليه، فجعل عهده عهد صلاح تخلفت فيه عادة النقص التي كانت في الماضي بالصورة التي ذكرها، وحل مكانها الصلاح بالنسبة إلى عامة الناس، ولذلك صار السائل يستنكر النقص واختلاف حسن الظن بالرجل؛ لأن السائل في عهد الصلاح وقلة النقص الذي بدأ من بعد موت رسول اللهً وسيكون بعد موت عبدالملك إلى زمان الجاهلية الآخرة.
وانظر كيف لم يجعل عهد علي عليه السلام عهد صلاح بالنسبة إلى علي عليه السلام وأصحابه؟ وكانوا جمعاً كبيراً جمّاً غفيراً، لا يترك ذكرهم لقلتهم، وهم أهل الحق والصبر والجهاد والزهد في الدنيا، وإن كانوا في هذه الخصال متفاوتين، وكان كثير منهم في آخر عهد علي عليه السلام متخاذلين متواكلين، فهذا عيب فيهم لتقصيرهم في نصح إمام المسلمين علي بن أبي طالب، فهو عيب نسبي بالنسبة إلى الناصحين منهم، لا بالنسبة إلى أعدائه عليه السلام وعلى ذلك فليسوا أصحاب فتنة، بل هم أهل الحق العاملين بقول الله تعالى: {فقاتلوا التي تبغي}[الحجرات:9] وإن تفاوتوا في مقادير العمل بالآية، وإنما أهل الفتنة هم البغاة من الناكثين والقاسطين والمارقين.
فتأمل، كيف كان في كلام الزهري خلط البريء بالمذنب، ولبس الحق بالباطل، وجعل تلك كلها فتنة تابعة لقتل عثمان؟ وذلك مما يعجب الأمويين في عهد الزهري، فتأمل وقس على ذلك، وعلى ما سبق في الفصل الأول من رواياته التي يتهم فيها بمساعدة بني أمية.
وهنا ننقل بعض كلام للإمام القاسم بن محمد عليه السلام في الزهري تتميماً للفائدة قال عليه السلام في الاعتصام في كتاب الزكاة في باب أحكام الأرضين في فصل فيما يملك رسول اللهً قال عليه السلام: (فأما الزهري فلا يختلف المحدثون وأهل التواريخ في أنه كان مدلساً، وفي أنه كان من أعوان ظلمة بني أمية، وقد أمروه على شرطته)(1).
__________
(1) الاعتصام 2/160.

قال: (وفي علوم الحديث للحاكم رضي الله عنه: قيل ليحيى بن معين: الأعمش خير أم الزهري؟ فقال: برئت منه إن كان مثل الزهري، إنه كان يعمل لبني أمية)(1).
وروى أبو جعفر عن الزهري: أنه قال لعلي بن الحسين سلام الله عليهما: (كان معاوية يسكته الحلم وينطقه العلم).
فقال عليه السلام: كذبت يا زهري، كان يسكته الحصر، وينطقه البطر(2).
وروى جرير بن عبدالحميد عن محمد بن شيبة قال: شهدت مسجد المدينة فإذا الزهري وعروة بن الزبير يذكران علياً فنالا منه.
قال الإمام عليه السلام: قلت: وبالله التوفيق قد تقدم عن النبيً: ((إن علياً عليه السلام لا يبغضه إلا منافق)).
وقد تقدم عن النبيً أنه قال: ((سباب المؤمن فسق)).
__________
(1) في علوم الحديث للحاكم ص54: (إن يحيى بن معين سأله إنسان: الأعمش مثل الزهري؟ فقال: برئت من الأعمش أن يكون مثل الزهري، الزهري يرى العرض والإجازة، وكان يعمل لبني أمية، وذكر الأعمش فمدحه، فقال: فقير صبور مجانب للسلطان، وذكر علمه بالقرآن وورعه)، وفي ميزان الاعتدال للذهبي قال في ترجمة خارجة بن مصعب1/625: (قال أحمد بن عبدويه المروزي: سمعت خارجة بن مصعب يقول: قدمت على الزهري وهو صاحب شرطة بني أمية، فرأيته ركب وفي يده حربة، وبين يديه الناس في أيديهم الكابركوبات (آلة من آلات اللهو) فقلت: قبح الله ذا من عالم فلم أسمع منه). انظر كتاب (رؤية الله بين العقل والنقل).
(2) الفلك الدوار: 226.

وفي أمالي المرشد بالله: أخبرنا أبو القاسم التنوخي الصوري قراءة عليه قال: أخبرنا أبو يعقوب إسحاق بن سعد بن الحسن بن سعد الفسوي قراءة عليه وأنا أسمع، سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، قال: أخبرنا جدي حرملة بن يحيى، قال: أخبرنا أبو وهب قال: أخبرنا عبدالرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال أبو حازم: إن سليمان بن هشام بن عبدالملك قدم المدينة ومعه ابن شهاب، فأرسل إلى أبي حازم فدخل عليه، فإذا سليمان بن هشام متكئاً وابن شهاب عند رجليه قاعداً، قال: فسلّمت وأنا متكئ على عصاي.
فقال ابن شهاب: ألا تتكلم يا أعرج.
قال: قلت: وما يتكلم الأعرج، ليس للأعرج حاجة جاء لها فيتكلم، وإنما جئتكم لحاجتكم التي أرسلتم إليّ فيها، وما كل من يرسل إليّ آتيه، فلولا الفَرَقُ من شركم ما جئتكم.
فجلس سليمان بن هشام فقال: ما المخرج مما نحن فيه؟
فقال أبو حازم: أعاهد الله في نفسي لا يمنعني دريهماتك أن أقول الحق في الله.
قال: قلت: المخرج مما أنت فيه لا تمنع شيئاً أعطيته من حق أمرك الله أن تجعله فيه، ولا تطلب شيئاً منعته لشيء نهاك الله أن تطلبه.
قال ابن هشام: ومن يطيق هذا؟
قال: يطيقه من طلب الجنة وهرب من النار، وذلك فيهما قليل.
فقال هشام: ما رأيت كاليوم حكمة قط أجمع ولا أحكم.
قال ابن شهاب: فإنه جارٌ لي وما جالسته قط.
قال أبو حازم: إني مسكين ليست لي دراهم لو كانت لي دراهم جالستني.
فقال ابن شهاب: قرضتني.
قال: إياك أردت.
قال ابن شهاب: ألا تحدثني يا أبا حازم بشيء بلغني أنك وصفت به أهل العلم وأهل الدنيا.

قال: بلى، إني أدركت أهل الدنيا تبعاً لأهل العلم، حيث كانوا يقضى لأهل العلم بما قسم الله لهم حوائج دنياهم وآخرتهم، ولا يستغني أهل الدنيا من أهل العلم لنصيبهم من العلم، ثم حال الزمان فصار أهل العلم تبعاً لأهل الدنيا، حيث كانوا، فدخل البلاء على الفريقين جميعاً، ترك أهل الدنيا النصيب الذي تمسكوا به من العلم حين رأوا أهل العلم قد جاءوهم، وضيع أهل العلم جسيم ما قسم لهم باتباعهم أهل الدنيا.
قال الإمام: قلت، وبالله التوفيق: هذا تصريح بجرح الزهري، والجارح له هو أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج مولى الأسود بن سفيان التمار، المديني القاضي الزاهد أحد الأعلام، روى له الجماعة منهم البخاري ومسلم، ومن الدليل على جرحه قوله تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ}[المجادلة:22].
قلت: وأشار صاحب الكشاف إلى الاستدلال على جرحه بقول الله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}[هود:113]الآية؛ لأنه ذكر قصته السابقة في تفسير هذه الآية مثالاً للركون إلى الذين ظلموا.
قال الإمام في الاعتصام: وأخبار النبيً:
منها ما رواه في أمالي أبي طالب عليه السلام قال: أخبرنا أبي رضي الله عنه قال أخبرنا عبدالله بن أحمد بن سلام قال أخبرنا أبي أحمد بن سلام قال حدثنا محمد بن منصور عن موسى بن حكم عن محمد بن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السلام قال: قال رسول اللهً: ((الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا.
قيل: وما دخولهم في الدنيا يا رسول الله؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم)).

10 / 15
ع
En
A+
A-