الكتاب : الزهري حديثه وسيرته
المؤلف : السيد العلامة بدرالدين الحوثي
المحقق :
الناشر : (مؤسسة الإمام زيد بن علي(ع) الثقافية)

الحمدلله رب العالمين، القائل في آيات الذكر الحكيم: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ، وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ}[الزمر:32-33].
والقائل جل شأنه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}[آل عمران:104].

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد الأمين القائل: ((من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار))(1)، والقائل: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين))(2) وعلى آله الطيبين الطاهرين، الذين قال الله فيهم: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33] والقائل فيهم رسوله الأمين: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً، كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض))(3).
وبعد..
__________
(1) حديث صحيح ، رواه الإمام أبو طالب عليه السلام في الأمالي : 117 ،والبخاري : 1/162 فتح ، وابن القيم في تهذيبه : 5/248 ، وأورده صاحب اللالئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة عن نحو سبعين صحابياً ، وفي بعض ألفاظه ( متعمداً ) ، وبعضها بدون
(2) أخرجه الإمام زيد بن علي عليه السلام في مسنده، وعنه القاضي جعفر في الأربعين العلوية :11، وذكره ابن القيم في مفتاح السعادة : 1/163، 164، وأخرجه العلامة محمد ابراهيم الوزير في كتابه الروض الباسم: 1/21ـ23.
(3) حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة معنى ، ورد بأسانيد صحيحة عن بضعة وعشرين صحابياً، انظر لوامع الأنوار: 1/52، أخرجه الإمام زيد بن علي عليهما السلام في المجموع: 404 ، والإمام علي بن موسى الرضا في الصحيفة: 464، والإمام الهادي إلى الحق عليه السلام في مقدمة الأحكام: 40، والدولابي في الذرية الطاهرة 166 رقم (228 )، والبزار 3/89 رقم (864) عن علي عليه السلام. وأخرجه مسلم 15/179، والترمذي5/622 رقم: 3788، والطحاوي في مشكل الآثار:4/368ـ369، وغيرهم كثير.

فإن علم الحديث ينقسم إلى قسمين، قسم يتعلق بالسند، وقسم يتعلق بالمتن، فأما ما يتعلق بالسند فالضبط والعدالة، واتصال السند عند من يشترطه.
وأما يتعلق بالمتن فعدم الشذوذ والعلة، ولها تفاصيل ليس هذا موضعها.
ويعتبر علم الجرح والتعديل من أهم مواضيع علوم الحديث المتعلقة بالسند، والكاشفة عن صحته من سقمه، ومقبوله من مردوده، ويستمد شرعيته من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا…}[الحجرات:6] وقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ((اذكروا الفاسق بما فيه، لكي يحذره الناس)).
وفي الوقت الذي أوجب فيه الإسلام ضرورة التبين عند سماع الخبر، وذكر الفاسق المستمر على فسقه بما فيه، لكي يحذره الناس حذر من مغبة التسرع في ذم المؤمنين، أو الوقوع في أعراضهم لمجرد الشك والتخمين، فقال وفي نفس السورة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}[الحجرات:11-12].

ومن هنا ندرك أهمية الجرح والتعديل، وأنه مسلك خطير، ومزلق سحيق، لذا لا بد أن يكون المشتغل به أو الباحث فيه عارفاً مطلعاً، وورعاً منصفاً، لأن أعراض الناس حفرة من حفر النار، والباحث بإنصاف في ذلك له من الله أجر كبير وثواب عظيم، وهو ممن جعله الله من عدول الأمة، الذين يحملون العلم فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
علماء الجرح والتعديل:
ولو فتشنا عن أصناف المشتغلين بالجرح والتعديل، لوجدناهم صنفين، أحدهما التزم بضوابط الإسلام في الجرح والتعديل، فلم يقدح إلا ببيان وبرهان، ولم يعدل إلا على ثقة واطمئنان، والآخر اتخذه فرصة لبث نفثات سمومه، وتوزيع أوهامه واتهاماته وظنونه، فعدل ذا وقدح ذاك على غير أساس متين، أو مستند سليم، فجرح كثيراً من العدول، ووثق كثيراً من المجروحين، وملأ كتبه بالأهواء والنزعات النفسية، ومن طالع كتب الجرح والتعديل وجد ذلك واضحاً وضوح الشمس.
فكم من صالح ورع جرحوه بأسباب هي في الحقيقة أساس من أسس العدالة والإيمان، وكم من فاسق مارق عدلوه وهو مجروح كذوب اللسان.
وصار كل من يأتي بعدهم يأخذ بأقوالهم، ويعتمد عليها، تقليداً لأسلافه، واتباعاً لأشياخه، وانقياداً لنزعاته وأهوائه، غير فاحص لما قالوه أو متثبت فيما نقلوه، فضلّ وأضلّ.
ومن أقرب الأمثلة وأشدها منزلة قاعدتهم المعروفة (جرح الشيعي مطلقاً وتوثيق الناصبي غالبا) .
هذه القاعدة التي لا يمكن تجاوزها أو التخلي عنها لديهم، ومن خلالها جرحوا كثيراً من الأئمة، وفضلاء الأمة كجعفر الصادق عليه السلام، والحسن بن زيد، وأويس القرني، وابن عقدة الكوفي، وأبي خالد الواسطي، وأبي حنيفة بن النعمان، وإبراهيم بن الحكم الكوفي، وأحمد النيسابوري، وعبدالرزاق الصنعاني، وغيرهم من خيرة الأمة وصفوة الشيعة.

ووثقوا كثيراً من شرار الأمة كخوارجها، وموارقها، ونواصبها، أمثال عكرمة البربري، وحريز بن عثمان الحمصي، وإبراهيم الجوزجاني، وعنبسة بن سعيد بن العاص، وغيرهم من الأشرار، كقتلة عمار، والدعاة إلى النار.
ورووا عن عمران بن حطان مادح قاتل أمير المؤمنين عليه السلام، بقوله قبّحه الله:
ياضربة من تقي ما أراد بها .... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
قال الذهبي: (فإن عمران صدوق في نفسه، وقال العجلي تابعي ثقة)(1) ، ورووا كذلك عن مروان بن الحكم الأموي، الذي حكى الذهبي عنه أنه كان يسب علياً كل جمعة(2) ، وقال ابن حجر: (مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية يقال له رؤية، فإن ثبتت فلا يعرج على من تكلم فيه)(3) ، كما رووا عن سعد بن عمرو بن أبي وقاص، قاتل الإمام الحسين عليه السلام ، قال عنه الذهبي: (هو في نفسه ثقة غير متهم، لكنه باشر قتل الحسين وفعل الأفاعيل)(4) ، وقال أيضاً: (صدوق ولكن مقته الناس، لكونه أميراً على الجيش الذي قتل الحسين)(5) .
أليس من العيب أن يكون هؤلاء من العدول الثقات، ويكون أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من المجروحين غير الأثبات، {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا}[الكهف:5].
__________
(1) الميزان: 276.
(2) سير أعلام النبلاء: 3/277.
(3) هدي الساري: 1/164.
(4) الميزان:2/258.
(5) الميزان: 2/258.

تساؤل!
وفي هذه الحالة لا بد أن يكون أصحاب الجرح والتعديل بين أمرين لا ثالث لهما: إما إن يلتزموا بحب أمير المؤمنين عليه السلام كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وما جرى على الشيعة جرى عليهم، وإما أن يبغضوه، فينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق))(1) والمنافق كاذب بشهادة رب العالمين، إذ يقول تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}[المنافقون:1].
هذا الكتاب:
ولما أدرك سماحة السيد العلامة المجتهد الولي بدر الدين بن أمير الدين الحوثي ــــحفظه الله تعالىـ هذه الصنائع المذمومة، والقواعد المشؤومة؛ قام بتأليف هذا الكتاب الذي بين يديك الكريمتين، متناولاً فيه سيرة وأحاديث (محمد بن مسلم بن شهاب الزهري) الذي يعتبر أبرز رجالهم في صحاحهم، والمعتمد لديهم في مروياتهم، وقد أوجدوا حوله هالة من القداسة، وشحنوا كتبهم وأسانيدهم بمروياته، وتجنبوا الرواية عن معاصرية من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، كالإمام جعفر الصادق، والإمام الحسن بن زيد عليهما السلام، بل تخطوا ذلك وتعدوه، فحاولوا توهينهما وتضعيفهما تبعاً للأهواء، وإملاءات الأمراء.
__________
(1) هذا من الأحاديث المشهورة ، المجمع على صحتها ، ورد في كثير من كتب الحديث ، وله شواهد ومتابعات إليك بعضها : أورده المفسر الحبري في تفسيره الملحقة : 350 ، وعنه فرات الكوفي في تفسيره ، وأخرجه مسلم :1/ 60، والترمذي : 5/ 593، وغيرهم كثير .

ويريد المؤلف ـ حفظه الله تعالى ـ من خلال هذا الكتاب أن يرشد أصحاب العقول إلى كيفية التعامل الصحيح مع قضية الجرح والتعديل، فالمشتغل به لا يكفيه أن يقول فيمن يريد جرحه: (رافضي جلد، شيعي جلد، كوفي، مبتدع، قدري) بل لا بد أن يبرهن على قوله، ويبين على دعواه، لأن هذه الألقاب أحدثتها الأهواء، ومصطلحات صنعتها السياسة، فإذا أراد الكلام في شخص ما، فلا بد أن يورد الحقائق والوثائق، الدالة على جرحه أو تعديله، وما هذه الرسالة التي بين يديك إلا أحد الأمثلة الصحيحة، التي ينبغي أن يسير عليها كل باحث منصف، إذ أنها تعتبر منهجاً علمياً دقيقاً، ونموذجاً حديثياً فريداً في مسألة الجرح والتعديل.
وقد اشتمل هذا الكتاب على فصلين، وخاتمة:
تناول في الفصل الأول روايات الزهري، وتقرير تهمته فيما يرويه.
وتناول في الفصل الثاني سيرة الزهري مع بني أمية، وموالاته لهم.
وتناول في الخاتمة إيراد بعض ما يتعلق بالفصلين، وجعله على شكل فوائد لا يمكن الإستغناء عنها.
والخلاصة: إن هذا الكتاب هام جداً، يحتاجه كل باحث منصف، غرضه الحق، جزى الله مؤلفه خير الجزاء، وحفظه من كل سوء ومكروه، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير, وإليك نبذة مختصرة عن المؤلف حفظه الله تعالى وأبقاه، وهو أشهر من نار على علم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطاهرين.

المؤلف في سطور
نسبه:
السيد العلامة المجتهد الولي الورع الزاهد المجاهد الصابر المفسر: بدر الدين بن أمير الدين بن الحسين بن محمد بن الحسين بن أحمد بن زيد بن يحيى بن عبدالله بن أمير الدين بن عبدالله بن نهشل بن المطهر بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن الإمام المتوكل على الله المطهر بن يحيى بن المرتضى بن المطهر بن القاسم بن المطهر بن محمد بن المطهر بن علي بن الإمام الناصر أحمد ابن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين سلام الله عليهم.
مولده ونشأته:
ولد 17 جماد الأولى سنة 1345هـ بمدينة ضحيان، ونشأ في صعدة، في ظل أسرة علوية كريمة تحب العلم، وتشغف مكارم الأخلاق، ربّته على الفضائل، وغذّّته بأحسن الشمائل، ومنذ نعومة أظفاره بكر إلى طلب العلم، فحصله بهمة عالية، وعزيمة سامية، ومن مشائخه ــــحفظه الله تعالىـ والده السيد العلامة المحقق التقي أمير الدين الحوثي المتوفى سنة 1394هـ، وعمه العلامة الكبير الولي الحسن بن الحسين الحوثي المتوفى سنة 1388هـ، وجل قراءته عليهما، وأجازه عدد من العلماء ذكرهم في كتابه (أسانيد الزيدية) وفي مقدمة كتابه (شرح أمالي الإمام أحمد بن عيسى) عليه السلام وهو أشهر من أن يعرف أو يترجم له، حيث يعتبر إماماً في العلم ، عكف على التدريس والتأليف ، وتتلمذ على يديه عشرات من العلماء وطلاب العلم ، وله اليد الطولى في الرد على المخالفين لعترة سيد المرسلين صلى الله عليه آله الطاهرين، وله العديد من المؤلفات المطبوعة والمخطوطة، يعمل حالياً في تفسير القرآن الكريم وقد أنجز ما يقارب نصفه، وله اجتهادات صائبة، وآراء ثاقبة، يسكن آل الصيفي بصعدة، وسكن خولان عامر، وصنعاء، ورحل إلى بعض البلدان العربية والإسلامية.

ثناء العلماء عليه:
أثنى عليه علماء عصره، وعلى رأسهم السيد العلامة المجتهد الولي مجد الدين بن محمد بن منصور أيده الله وقال في ترجمته له: (هو السيد العلامة رضيع العلم والدراسة، وربيب العلم والهداية وهو من العلم والعمل بالمحل الأعلى، وله من الفكر الثاقب والنظر الصائب الحظ الأوفر والقدح المعلى)(1).
وقال عنه في قصيدة له :
نجم الكرام الفذ بدر الدين .... نجل أئمة للمهتدين نجوم
لا غرو إن حاز السيادة ناشئاً .... فهو الكريم ومن نماه كريم
أهدى إلينا من فرائد فكره .... صافي عقوداً زانها التنظيم
أهلاً بنشر من شذاها طيب .... أرج يفوح عبيرها المختوم
فإليك يا بدر الهداية هذه .... عذراً فأنت بما تراه عليم
لا زلت في الألطاف يكلأك الذي .... أفضاله للعالمين عميم
يحيي رسوم العلم بعد دروسها .... يجني لك المنطوق والمفهوم
وعليك ما ابتسم الصباح بضوئه .... من ربنا التكريم والتسليم(1)
__________
(1) الإيجاز في الرد على فتاوى الججاز:18.

1 / 15
ع
En
A+
A-