على الله توكلنا، وبه اعتصمنا، ورضي الله عن الصحابة، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، الراعين حرمة الذرية، المميزين لهم على جميع البريّة، وسلّم وكرم.
أما بعد: فإن الرسالة الخارقة، وصلتنا منقلبنا من المغرب، في شهر شوال سنة ثمان وستمائة، وابتدأنا بصدر جوابها في شهر ربيع الأول سنة تسع وستمائة، وسبب تراخي المدة كثرة الأشغال وتراكمها كما يعلم ذلك من شاهد الحال، أو صدق المقال.
..إلى قوله: وقد طابق اسمها معناها؛ لأنها خرقت عادة المسلمين..إلى قوله: فقد أصاب صاحبها في اسمها وإن أخطأ في معناها، ومن نظرها بعين النصفة عرف حقيقة ما قلناه منها المدح لنفسه وأهل مقالته، وأنهم أهل السنة والجماعة، وجرّد ذلك عن الأدلة القاضية بصحة دعواه.
..إلى قوله: ومنها ذمه لما ورد من جهتنا من الرسالة المتضمنة للآثار النبوية، المأثورة عن جميع علماء البرية، بعد تعييننا لها بكتبها ومواضعها وشيوخها وطرقها.
..إلى قوله: رام للصحابة النصرة بسب جماعة العترة، واستثنى من اعتقد إمامة المشائخ، وأحدٌ منهم لا يعتقد ذلك بشهادة المسلمين والمعاهدين، والاستثناء إخراج بعض من كل، فكان كالمستثني عشرة من عشرة.
..إلى قوله: فرأينا التفرغ لجوابه في بعض الأحوال، أولى من كثير من الأشغال ؛ فإن اهتدى لم نكره هدايته، وإن استحب العمى على الهدى كنا قد خرجنا من عهدة ما يلزم من النصيحة للمكلفين، ولعل غيره يستبصر بما لم يبصر به {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ(125)} [التوبة].
فأما السب والأذية فممَّا لا جواب فيه من قبلنا تشريفاً لنصابنا، وحراسة لأنسابنا،
ويشتموا فترى الألوان مسفرة .... لا عفو ذلّ ولكن عفو أحلام

واعتذاره(1) بأن سبَّه لنا نصرةً للأصحاب، وتعرّضاً للثواب، عذر غير مخلص عند ذوي الألباب، اليوم ولا غداً عند رب الأرباب؛ لأنهم ـ سلام الله عليهم ـ أولى الخلق بالهدى والصواب، وأعرف الخلائق بعلم الكتاب.
...إلى قوله - عليه السلام -:
لا تسبنني فلستَ بسِبِّي .... إن سِبّي من الرجال الكريمُ
ما أبالي أنبّ بالحَزْن تيس .... أم لحاني بظهر غيب لئيمُ
..إلى قوله - عليه السلام -:
علينا نزل العلم ومنا انتشر .... أُرِيْه السُّها ويريني القمر
ما ظنك ببيت عَمَرَهُ التنزيل، وخدمه جبريل، هجرته الشياطين المردة ، وعمَّرته من الأولياء الحفدة، فكم من قاطع ما أمر به الحكيمُ أن يُوصل، ناسٍ هولَ اليوم الأطول.
..إلى قوله - عليه السلام -: قال بزعمه أصِلُ الأولَ وأقطَعُ الآخرَ، كأنه لم يعلم استحكام عقد الأواصر، كما روينا عن أبينا النبي الصادق العربي: ((كل نسب وسبب منقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي(2))).
__________
(1) - اعتذاره: مبتدأ، خبره عذر غير مخلص، وخبر إنَّ محذوف تقديره واقع أو نحوه، ونصرة وتعرضاً مفعولان لأجلهما، فتأمل.
(2) - ... أخرجه الحاكم والطبراني والبزار من حديث عمر، ورواه ابن إسحاق، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن عمر.
وأخرجه الطبراني عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر، عن عمر.
ورواه ابن السكن في صحاحه من طريق الحسن بن الحسن بن علي، عن أبيه، عن عمر.
ورواه البيقهي أيضاً، ورواه أبو نعيم في الحلية عن ابن عمر، عن أبيه، ورواه أحمد والحاكم من حديث المسور بن مخرمة يرفعه ((أن الأسباب تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري)).
ورواه الطبراني في الكبير من حديث ابن عباس.

..إلى قوله - عليه السلام -: زعم أنه انتصر لأبي بكر وعمر وعثمان، وعَدّ تقديمنا لعلي - عليه السلام - مجانباً للإيمان، وأكّد ذلك بالسبّ والبهتان، فحفظ الصحابة بتضييع القرابة، ولم يعلم أن حق الأمة على منازلها مرتب على حق أهل البيت المجللين بالكساء، المصطفين على الرجال والنساء؛ فإن تقَطّع قلبه أسفاً وحسداً فما ذنبنا في ذلك {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا(54)} [النساء].
وكذلك ما قال رسول الله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - من الذمِّ لذامهم، والخبر عن حال باغضهم في ابتداء خلقه، وأنه لغير رِشْدة، أو حملته أمه في غُبَّرِ حيضة، أو كان من لا خير فيه من الرجال؛ فذلك قول رسول الله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - وهو عن الله(1)
__________
(1) - ... أخرج محمد بن سليمان الكوفي بسنده إلى الباقر رفعه إلى النبي - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((لا يبغضن أهل البيت إلا ثلاثة: رجل وُضع على فراش أبيه لغير أبيه، ورجل أتت به أمه وهي حائض، ورجل منافق))، وله شواهد.
أخرج الإمام المرشد بالله بسنده إلى علي - عليه السلام - قال: سمعت رسول الله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - يقول: ((من لم يعرف حق عترتي والأنصار والعرب فهو لإحدى ثلاث: إما منافق، وإما لزنية، وإما حملت به أمه في غير طهر)).
وأخرجه أبو الشيخ، ذكره ابن حجر في تتمة الصواعق ص(233) الطبعة الثانية سنة (1385هـ) وفي هامشها: الحديث أخرجه الباوردي وابن عدي والبيهقي. انتهى.
وأخرجه الدارقطني.
قال العقاد في عبقرية الإمام علي - عليه السلام - صفحة (175): أحاديث النبي - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - في فضل علي ومحبته متواترة في كتب الحديث المشهورة، منها ما انفرد به، وهو حديث الخيمة الذي رواه الصديق ـ رضي الله عنه ـ حيث قال: رأيتُ رسول الله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - خيم خيمة وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: ((معشر المسلمين، أنا سِلْم لمن سالم أهل الخيمة، حرب لمن حاربهم، وليّ لمن والاهم، لا يحبهم إلا سعيد الجد، طيب المولد، ولا يبغضهم إلا شقي الجدّ، رديء الولادة))، انتهى.
وقد نظم ذلك كثير من أوليائهم، قال الصاحب بن عباد:
أُحبّ النبي وآل النبي .... لأني ولدتُ على الفطرةِ
إذا شكّ في ولد والد .... فآيته البغض للعترةِ
وللإمام الشافعي أبيات في هذا المعنى، أوردتها في المنهج الأقوم، صفحة (39)ط/1.
وعنه - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((استوصوا بأهل بيتي فإني مخاصمكم عنهم غداً، ومن أكن خصمه أخصمه، ومن أخصمه دخل النار)) أخرجه الملا وابن سعد.
وقال - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((لا يبغض أهل البيت أحد إلا أدخله الله النار)) أخرجه الحاكم في المستدرك، والذهبي في التلخيص، وقال: على شرط مسلم، وابن حبان، وصححه.
وأخرج الحاكم والذهبي عن ابن عباس عنه - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((فلو أن الرجل صفن بين الركن والمقام، فصلى وصام، ثم لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمد دخل النار)) وغير ذلك كثير، يضيق عنه البحث.

إلى قوله - عليه السلام -: جهلت السورة، فعكست الصورة، كم بين من يشهد بما ورد فيه المؤالف والمخالف، ويُجمع على صحة النقل فيه جميع الطوائف.
..إلى قوله: روينا عن النبي - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - أنه قال: ((أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحبّ الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي ))، وهذا أمرٌ، والأمر يقتضي الوجوب.
قلت: ممن أخرجه الحاكم في المستدرك، واعترف الذهبي بصحته، وأخرجه غيره.
وفي الحديث فيهم - سلام الله عليهم -: ((قدّموهم ولا تتقدموهم، وتعلّموا منهم ولا تعلّموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا)).
قلت: هي في أحد أخبار الثقلين، وقد استوفيناها في لوامع الأنوار.
..إلى قوله - عليه السلام -: فقد أخطر بنفسه، وصار كما قيل في المثل: قيل للشقي هلّم إلى السعادة، فقال: حسبي ما أنا فيه، يظن أن سبه لذرية الرسول ينقصهم أو يضع منهم، ونقصُ ذلك عائد عليه، ووباله صائر إليه، فهو فيه كمن طعن نفسه ليقتل رِدْفه،
ما ضرّ تغلبَ وائل أهجوتها .... أم بُلْت حيث تناطح البحران
وأما جعله لصاحب بغداد وليجةً دون أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومحل الوراثة، فقد أَبَتْ ذلك عليه أخبارُ الصحاح إن اعتقد أنها صحيحة، في خبر الكساء، والبرد، والمباهلة، وغير ذلك من الأخبار، في تخصيصهم بأنهم عترته أهل بيته.
..إلى قوله - عليه السلام -: فأما ذريته فلا ينازعنا أحد في ذلك من أهل الدين، وقد كان شغب الحجاج في ذلك، ثم سلّم وانقطع ، إلا أن تكون بلية صاحب الخارقة أعظم من بليته، وقضيته أقبح من قضيته؛ ففي قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ(16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ(17)} [المرسلات]، ما يُذْهب همّ كل مؤمن حزين.

..إلى قوله - عليه السلام -: فأمَّا ائتمامك به فينبغي لمن كان على مثل حالك أن يكون إمامه كذلك، يوم ندعو كل أناس بإمامهم، فأنت في الائتمام وهو في الإمامة كما قيل في المثل السائر: وافق شنٌّ طبقه، وكما قال الشاعر:
هذا السوار لمثل هذا المِعْصَم
ولكن ما يكون حال الأعمى إذا قاده الأعمى، والضال إذا كان دليله الضال.
..إلى قوله - عليه السلام -: كيف يصحب الخائف الخائف، ويؤم الظنين الظنين، ويقيم الحدودَ المحدودُ، وينفذ الأحكامَ المحكومُ عليه؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون من ضلال هذه الأمة، وجفوتها لأهل بيت نبيها، ولكن كيف يُستعظم ذلك من أمة قتل ابنُ دعيّها ابنَ نبيها ، فما ذرفت عيونها، ولا وجفت قلوبها، ولا أوحشها حوبها، هذا وبرد الإسلام قَشِيب، وأصاغر الصحابة يستعظمون وخطَ المشيب.
ولما قُبض رسول الله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - مرضيّ الفعل، مشكور العمل، قد أنقذ الخلائق من شفا الحفرة، ونجاهم من بحار الهلكة، وأضفى عليهم ستر الإسلام الحسن الجميل، لم يبق منهم عنق مكلّفٍ إلا وفيه له - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - منّة الهداية، والمِنَّةُ لله، كان من أمْر فاطمة ـ عليها السلام ـ السلالة المرضيّة، والنسمة الزكيّة، والجمانة البحرية، والياقوتة المضيئة، ما كان من النزاع في الإرث(1)، وبعد ذلك في أمر النحلة لفدك وغيره ما شاع في الناس ذكره، وعَظُم على بعضهم أمْره، حتى قال قائلهم:
وما ضرّهم لو صدقوها بما ادّعت .... وماذا عليهم لو أطابوا جنانها
وقد علموها بضعةً من نبيهم .... فلم طلبوا فيما ادعته بيانها
__________
(1) - أخرج نزاعها في الإرث؛ والنحلة؛ ودفنها ليلاً؛ وأنها ماتت ـ عليها السلام ـ هاجرة لأبي بكر: البخاري ومسلم وغيرهما، وهو معلوم بين الأمة.

فمرضت سِراً، ودُفنت ليلاً، فلسنا والحال هذه نستعظم من صاحب الخارقة ما أظهر من الأذى، ونشر من البذى، وأظهر الجهل بأهل بيت النبوة، وذلك لا ينقّصهم.
ويظهر الجهل بي وأعرفه .... والدرّ درٌّ برغم من جهله
..إلى قوله - عليه السلام -:
وهبني قلت هذا الصبح ليل .... أيعمى العالمون عن الضياءِ
إلى قوله - عليه السلام -: كيف يذم قوماً فُرضت عليهم الصلاة في الصلاة(1)، ومُثّلوا بباب حطة وسفينة النجاة.
إلى قوله - عليه السلام - في تفسير ابن عباس: ما أنزل الله تعالى في القرآن {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} ، إلا وعلي أميرها وشريفها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - في غير آية، وما ذكر علياً إلا بخير(2)، ولا تعرض شبهة عند أحد من أهل البصائر أن كل آية في القرآن تتضمن مدحاً وتعظيماً وتشريفاً للمؤمنين أو للمسلمين مجملاً إلا وأمير المؤمنين علي - عليه السلام - درّة تاجها، ونور سراجها، ولا وقع وعْدٌ للسلمين في العقبى، ولا نصرة في الدنيا، إلا وهو مقصود عند جميع الأمة؛ فإن شرك معه غيره مدّع فببرهان يتوجّده أيستقيم أم لا ؟
__________
(1) - الأخبار في تعليم الصلاة بلفظ: ((قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد)) معلومة مروية في الست وغيرها؛ فمن صلى في الصلاة أو في غيرها وترك ذكر آله فقد خالف السنة المأمور بها، المجمع على صحتها، والحقيقة أنه لا يصدق عليه أنه صلى عليه - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - لمخالفته الكيفية التي علّمهم.
(2) - أخرجه الطبراني وابن أبي حاتم وغيرهما، ونقله ابن حجر، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: ما نزل في أحد في كتاب الله ما نزل في علي، وعنه أيضاً: نزل في علي ثلاثمائة آية، أخرج ذلك ابن عساكر وغيره.

..إلى قوله - عليه السلام -: وكذلك أمر الله سبحانه وتعالى نبيه - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - أن ينوّه باسمه، ويدل على فضله بقوله وفعله ، ويبين لأمته أنه القائم بخلافته، والمنصوص على إمامته، وأكد الأمر فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ، ولما علم ما في قلوب أقوام من الضغائن آمنه من شرهم بما أوضح من عصمته، بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]، فامتثل أمر ربه، وبيّن بقوله وفعله ، وميزه من أمته؛ أما القول فلا ينحصر لو أردنا حصره في هذا الكتاب.
فقد بيّنا ما روته العامة على انحرافها عنه - عليه السلام - خاصة، فروينا ما لا يمكنه إنكاره في باب الإمامة.
..إلى قوله - عليه السلام -: ولسنا نخاف في الله أحداً، ولا نخاف معه، وقد نشرنا الدعوة في الآفاق، وأبدينا صفحتنا لأهل الشقاق والنفاق، والمجاهرة بالعداوة في جميع الآفاق، كصاحب بغداد ومن دونه، ممن يعتزي إليه، فذلك أكبر دليل على رفع التقية، فكيف بنا في صاحب الخارقة وأجناسه من البرية.
ولم نقدم علياً من تلقاء أنفسنا، وإنما قدمه الله ورسوله فقدمناه، وألزمنا الله سبحانه ونبيه - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - ولاءَهُ فالتزمناه.
هذا حديث الغدير ظهر ظهور الشمس، واشتهر اشتهار الصلوات الخمس، وخبر المنزلة، وحديث حذيفة: ((علي خير البشر ))، وحديث عمار وأبي ذر عن النبي - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -.

وقوله لعلي - عليه السلام -: ((من أطاعك فقد أطاعني، ومن عصاك فقد عصاني ))، وكقوله: ((علي مني وأنا منه ))، وكقوله: ((أوحي إليّ في علي أنه سيّد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين(1)))..إلى غير ذلك مما رويناه مسنداً ومرسلاً، ومبَيَّناً ومجملاً، فهذا تقديمه بالقول.
__________
(1) - ... أخرجه الحاكم في أول صفحة (138) من الجزء الثالث، وقال: صحيح الإسناد، وأخرجه الباوردي وابن قانع وأبو نعيم والبزار وصاحب الكنز، وأخرجه ابن النجار بلفظ: ((وولي المتقين))، وأخرجه أبو نعيم بلفظ: ((مرحباً بسيد المسلمين وإمام المتقين))، وشواهد كثيرة.
انظر البسائط: كمناقب أحمد بن حنبل ومسنده، وخصائص النسائي، وتخريج الشافي، وشرح الغاية، ولوامع الأنوار.
وفي هذا المعنى قوله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((أول من يدخل من هذا الباب إمامُ المتقين، وسيّد المسلمين، ويعسوب الدين، وخاتم الوصيين، وقائد الغر المحجلين))، فدخل عليٌ، فقام إليه مستبشراً فاعتنقه، وجعل يمسح عرق جبينه، وهو يقول: ((أنت تؤدي عني، وتسمعهم صوتي، وتبين لهم ما اختلفوا فيه من بعدي))، أخرجه أبو نعيم في حليته عن أنس، وقوله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - وقد أشار بيده إلى علي - عليه السلام -: ((إن هذا أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وهذا الصديق الأكبر، وهذا فاروق هذه الأمة، يفرق بين الحق والباطل، وهذا يعسوب المؤمنين))، أخرجه الطبراني في الكبير من حديث سلمان وأبي ذر، وأخرجه البيهقي في سننه، وابن عدي في الكامل من حديث حذيفة.
وغير هذا كثير لا يسعه المقام، والمخرجون لهذه الأخبار الشريفة من أئمة الحديث وثقاتهم، دَعْ عنك رواية أئمة العترة وأوليائهم.

وأما الفعل فإنه لم يولّ عليه أحداً قط في جيش ولا سريّة إلا وهو أميرها ، يأمر بطاعته، ويحذر عن مخالفته، وهو صاحب رايته في كل زحف، حتى سأله جابر بن سمرة: يا رسول الله، من يحمل رايتك يوم القيامة ؟
فقال: ((ومن عسى أن يحملها إلا من يحملها في الدنيا، علي بن أبي طالب )).
وأخذ براءة من أبي بكر ودفعها إليه، وقال: ((لا يبلّغها أحد عني إلا أنا أو رجل مني ))، وأخرجه عند المباهلة، وأجراه مجرى نفسه دون غيره بنصّ ربه؛ لأنه لا يفعل من تلقاء نفسه، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)} [النجم]، وآخى بينه وبين نفسه لما آخى بين الصحابة، وقال: ((هو أخي في الدنيا والآخرة(1))).
__________
(1) - أخبار المؤاخاة كثيرة شهيرة، وكانت المؤاخاة مرتين، في كلتيهما جعله الرسول - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - أخاه، وقد أخرجه باللفظ الذي ذكره الإمام: ((أنت أخي في الدنيا والآخرة)): الحاكم في صفحة (14) من الجزء الثالث من المستدرك عن ابن عمر من طريقين صحيحين على شرط الشيخين.
وأخرجه الذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته، وأخرجه الترمذي فيما نقله ابن حجر في صفحة (73) من صواعقه.
وقال: - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((هذا أخي، وابن عمي وصهري وأبو ولدي)): أخرجه الشيرازي في الألقاب، وابن النجار عن ابن عمر.
وقال له - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((أنت أخي وصاحبي)): أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب بسنده إلى ابن عباس.
وقال له - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((أنت أخي ورفيقي في الجنة)) أخرجه الخطيب.
وقال له - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((وأما أنت يا علي فأخي وأبو ولدي ومني وإليّ))، أخرجه الحاكم في الجزء الثالث، واعترف الذهبي بصحته.
وقال له - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((أنت أخي ووزيري، تقضي ديني، وتنجز موعدي، وتبرئ ذمتي)) أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عمر.
وكان علي - عليه السلام - يقول: (أنا عبدالله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر، لا يقولها بعدي إلا كاذب) أخرجه النسائي في الخصائص، والحاكم، وابن أبي شيبة، وابن أبي عاصم، وأبو نعيم.
وقال علي - عليه السلام -: (والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارث علمه، فمن أحق به مني) أخرجه في المستدرك، والذهبي مسلماً بصحته.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: آخى رسول الله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - بين المهاجرين، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، وقال في كل واحدة منهما لعلي: ((أنت أخي في الدنيا والآخرة)).
وممن أخرج أخبار المؤاخاة بين الرسول وبين علي ـ صلوات الله عليهما وآلهما وسلامه ـ: أحمد بن حنبل في المناقب، وابن عساكر في تاريخه، والطبراني، والبيهقي، في مجمعيهما، والباوردي في المعرفة، وابن عدي، وغيرهم.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده، والإمام النسائي في خصائصه، والحاكم في مستدركه، والذهبي في تلخيصه معترفاً بصحته، وغيرهم من أصحاب السنن، بطرق مجمع على صحتها، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - قال في حديث طويل: ((لا يذهب بها ـ أي براءة ـ إلا رجل هو مني وأنا منه))، وأنه قال - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((أنت وليي في الدنيا والآخرة))، وأنه قال - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس بعدي نبي، إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي))، وأنه قال له - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((أنت ولي كل مؤمن بعدي ومؤمنة))، وفيه قال ابن عباس: وسد رسول الله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - أبواب المسجد غير باب علي، وكان يدخل المسجد جُنُباً وهو طريقه، ليس له طريق غيره.
وأنه قال رسول الله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((من كنت مولاه فإن مولاه علي))، والحديث طويل اختصرته، وقد ذكر فيه خبر الراية، وأنه أول الناس إسلاماً، وخبر الكساء، وشراء علي نفسه ليلة نام على الفراش، وشواهده لا تحصى.
وقال - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا ـ مخاطباً لبني عبد المطلب في خبر الإنذار ـ))، أخرجه بهذه الألفاظ:
ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي في سننه ودلائله، والثعلبي، والطبري، في سورة الشعراء في تفسيريهما، والطبري أيضاً في الجزء الأول من تاريخه صفحة (217)، وأبو جعفر الإسكافي في نقض العثمانية مصححاً له، والحلبي، وغيرهم.
وأخرج الطبراني في الكبير بسنده إلى سلمان، قال: قال رسول الله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((إن وصيي، وموضع سرّي، وخير من أترك بعدي، ينجز عدتي، ويقضي ديني علي بن أبي طالب)).
وأخرج محمد بن حميد الرازي، عن بريدة، عن رسول الله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((لكلّ نبي وصي ووارث، وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب))، وأخبار المؤاخاة والوصية كثيرة.
انظر: البسائط، كتخريج الشافي لشيخنا علامة العترة الحسن بن الحسين الحوثي ـ رضي الله عنهما ـ ولوامع الأنوار.
وقد ألّف في إثبات الوصية لأمير المؤمنين - عليه السلام - القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني صاحب نيل الأوطار مؤلفاً سماه العقد الثمين، وقد طبع في ضمن الرسائل اليمنية، ورَدّ على ما روي في البخاري ومسلم عن عائشة، ولفظ ما روياه: ذُكر عن عائشة أن النبي - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - أوصى إلى علي ـ رضي الله عنه ـ فقالت: من قاله ؟..إلى قولها: فكيف أوصى إلى علي ؟
قال بعض العترة: قد تعلم أن الشيخين ـ يعني البخاري ومسلماً ـ قد رويا في هذا الحديث وصية النبي - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - إلى علي من حيث لا يقصدان، فإن الذين ذكروا يومئذ أن النبي - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - أوصى إلى علي لم يكونوا خارجين من الأمة، بل كانوا الصحابة أو التابعين..إلى آخر كلامه.
قلت: وهذا واضح، ويأبى الله إلا أن يخرج الحق على ألسنة منكريه، ومثل هذا ما روياه عن طلحة بن مصرف، قال: سألت عبدالله بن أبي أوفى: هل كان النبي - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - أوصى؟
قال: لا.
قلت: كيف كتب على الناس الوصية ثم تركها ؟
قال: أوصى بكتاب الله.
انظر كيف تناقض كلامه لما صدمته الحجة، أثبت الوصية بعد أن نفاها، وقد نبَّه على هذه المناقضة المنصور بالله عبدالله بن حمزة في الشافي، والقاضي الشوكاني في العقد الثمين.
والحق أبلج ما تخيل سبيله .... والحق يعرف أولوا الألباب
ولولا ضيق المقام، لسقتُ من الأخبار النبوية وأقوال الصحابة والتابعين المروية ما كثر وطاب، وهذا ما يقطع ريب كل مرتاب وإلى الله المرجع والمآب.

وزوجه ابنته فاطمة - ابنة الوحي - بأمر الله، سيدة نساء العالمين، مع كثرة خطابها..إلى قوله: فانتظر أمر الله فيها، فأمره بزواجها من علي - عليه السلام - بعد أن عقد بها في السماء بأمر الملك الأعلى، فلها عقدان: عقد سماوي، وعقد أرضي، وقال لفاطمة في حديث طويل: ((زوّجتك أعلمهم علماً، وأقدمهم سلماً(1))).
ولم ينقم منه طول صحبته، ولا أنكر عليه شيئاً من قوله ولا فعله مدة حياته، بل أنكر على مَنْ شكاه في فعله، كخالد بن الوليد، ورسوله بريدة، وقال: ((ما لكم ولعلي، علي مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة(2))).
__________
(1) - أخرج الحاكم بإسناده إلى ابن عباس، وأبي هريرة، والطبراني، والخطيب، عن ابن عباس، وأخرج محمد في المسند، قوله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - لفاطمة ـ عليها السلام ـ: ((أما ترضين أني زوجتك أول المسلمين إسلاماً، وأعلمهم علماً، وأنك سيدة نساء أمتي، كما سادت مريم نساء قومها، أما ترضين يا فاطمة أن الله اطّلع على أهل الأرض فاختار منهم رجلين، فجعل أحدهما أباك، والآخر بعلك))، وله شواهد كثيرة.
منها: ما أخرجه أحمد في الجزء الخامس من المسند، من حديث معقل بن يسار، قوله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((أو ما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً))، وغير ذلك كثير.
(2) - أخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والنسائي، عن بريدة قوله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟)) قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)).
وأخرج أبو داود بالإسناد الصحيح عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم - لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ: ((أنت ولي كل مؤمن بعدي)).
وقال - صَلّى الله علَيْه وآله وسلّم -: ((إن علياً مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي)) أخرجه أحمد بن حنبل عن عمران، والحاكم والذهبي في التلخيص مسلّماً بصحته، وابن أبي شيبة، وابن جرير وصححه.
وأخرجه الترمذي كما ذكره ابن حجر في الإصابة، وله طرق كثيرة، فمن كان قابلاً للحق ففيه كفاية، ومن كان معانداً فلا ينفع فيه شيء:
وليس يصحّ في الأذهان شيء .... إذا احتاج النهار إلى دليلِ

5 / 9
ع
En
A+
A-