مريداً للضدين في حالة واحدة، وذلك محال، ويجب أن يكون الواحد منا إذا أراد أن يرزق (1) أموالا وأولادا، أن القديم أيضا مريدا (2) لذلك، وهذا فاسد، فثبت بطلان القول بأنه مريد لنفسه، وإذا بطل ذلك ثبت أنه مريد بإرادة محدثة.
[ مراد الله من المكلفين الطاعات ]
فإن قيل: ما الذي أراد الله تعالى من جميع المكلفين عندكم من الكافر، والفساق (3)؟
قيل له: الذي أراد الله تعالى من جميع المكلفين برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، هو الطاعات، الفرائض منها والنوافل، ولا يجوز أن يريد شيئا من القبائح.
ألا ترى إلى قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } [النساء:26-28]. وقال: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة:185]. وقال: { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } [غافر:31]. فنفى عن نفسه إرادة القبائح، وبيَّن أنه مريد للطاعة، وكذَّب الله تعالى من أراد إضافة الشرك إلى الله ووبخهم على ذلك، فقال تعالى: { وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } [النحل:35]. وقال: { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ }
__________
(1) في المخطوطة: أن يردف. ولعل الصواب ما أثبت.
(2) خبر ليكون. ولعلها: مريد.
(3) لعلها: الفاسق.

[الأنعام:148]. ومما يدل على أن الله لا يريد القبائح أنه لو أرادها لوجب أن يكون العصاة مطيعين، وذلك محال، لأن المطيع إنما يكون مطيعاً لوقوعه إذا فعل مراده (1)، وأيضا فإن إرادة القبيح قبيحة، والله تعالى لا يفعل القبائح، فثبت أنه لا يفعل إرادة الكفر والفسوق والمعاصي، فإذا لم يفعل إرادتها لم يكن مريدا لها، وليس يلزمنا ما تظنه المجبرة من أنا قد حكمنا على الله بالضعف، متى قلنا إنه غير مريد لما (2) وجد من القبائح، لأنه إذا وجد ما كان القديم غير (3) مريد له، لا يؤثر ذلك في أحواله.
ألا ترى أن كل من مضى من اليهود والنصارى إلى الكنائس والبِيَع، لا يوجب ضعفًا للمسلمين والإمام، وإن كان ذلك غير مراد لهم، لأن ذلك لا يؤثر في أحوالهم.
فإن قيل: أوليس المسلمين قد قالوا ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وهذا خلاف مذهبكم، لأن عندكم أن الله تعالى أراد الطاعات من الكفار، مع أنها لم تكن، وهو غير مريد للمعاصي الكائنة منهم؟
قيل له: إن المسلمين أرادوا بذلك ما يريده الله تعالى من أفعال نفسه، دون أفعال غيره.
ألا ترى أن غرضهم بهذا القول وصف إقراره وثبات امتداحه، وقد علمنا أن وقوع ما يريده الواحد منا من أفعال عبادته، لا يدل على قدرته.
ألا ترى أن العبد قد يفعل ذلك مع ضعف سيده، وإنما يدل على اقتدار المريد ما يقع من المراد، إذا كان من أفعاله، فوجب أن يكون غرض المسلمين ما بيَّناه، فإذا صح ذلك لم يجب له فساد مذهبنا.
__________
(1) لعل هنا سقطا.
(2) في المخطوطة: لها. مصحفة.
(3) في المخطوطة: غيره مريدا له. ولعل الصواب ما أثبت.

فصل
[ الله غير مريد للقبائح ]
فإن سأل سائل فقال: ما الدليل على أن الله تعالى لا يفعل شيئا من القبائح؟
قيل له: الدليل على ذلك أنه تعالى قد ثبت:
ـ استغناؤه عن جميع القبائح.
ـ وكونه عالماً بقبحها.
ـ وعالم باستغنائه عنها.
والعالم بقبح القبيح متى استغنى عنه، لا يجوز أن يختاره على وجه من الوجوه.
فإن قيل: فَلِمَ قلتم إنه سبحانه مستغنٍ عن جميع القبائح؟
قيل له: لأنه لا يخلو من أن يستحيل عليه عز وجل الشهوة ونفور النفس، أو لا يستحيلان عليه؟
فإن استحالا عليه ثبت استغناؤه عن جميع الأشياء، لأن المحتاج إنما يحتاج إلى إدراك ما يشتهيه، أو دفع ما تنفر نفسه عنه، فمن استحالت عليه الشهوة ونفور النفس، استحالت عليه الحاجة. والحي إذا استحالت عليه الحاجة ثبت استغناؤه عن الأشياء. فإن صح عليه الشهوة ونفور النفس ـ تعالى عن ذلك ـ استغنى بالحسن عن القبيح، لأن المحتاج ليس يحتاج إلى الشيء على الوجه الذي يقبح دون الوجه الذي يحسن، وإنما يحتاج إليه فقط. وفي كلا (1) الأمرين ثبوت استغناء القديم تعالى عن المقبحات.
فإن قيل: ولم قلتم إنه عالم بقبح المقبحات، وعالم باستغنائه عنها؟
قيل له: قد قدمنا الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يكون عالماً بعلم، وإذا بطل أن يكون عالماً بعلم، ثبت أنه تعالى عالم لنفسه، ومِن حكمِ العالم لنفسه أن يعلم المعلومات كلها، على جميع الوجوه التي يصح أن تعلم عليها.
__________
(1) في المخطوطة: كل. ولعل الصواب ما أثبت.

فإن قيل: فهل تقولون إن ما يقبح عندكم فعله، يقبح من الله تعالى فعله؟
قيل له: نقول إنه يقبح فعله من القديم تعالى، متى فعله على الوجه الذي إذا فعلناه عليه قَبُحَ منا. والذي يدل على ذلك أن الذي يقبح إنما يقبح لصفة ترجع إليه، لا لصفة ترجع إلى الفاعل.
ألا ترى أن المؤمن (1) فيه صفاته الراجعة إليه، مثال ذلك أن الخبر يقبح لكونه كذباً، فلو خرج عن كونه كذبا لحَسُنَ، وكذلك الضرب، قد يقبح لتعرِّيه من المنافع، فلو حصلت فيه المنافع لحَسُن.
فبان بذلك أن الموجِب لقبح الفعل هو ما يرجع إلى الفعل من الأحكام، فإذا كان ذلك كذلك وجب أن يقبح من القديم تعالى ما يقبح منا، إذا فعله على الوجه الذي لكونه عليه قبح منا فعله.
[ هل يُعذب الله من لا ذنب له ]
فإن قيل: فهل يجوز أن يعذب الله أطفال المشركين في الآخرة؟
قيل له: لهم لا يجوز.
فإن قيل: فما الدليل على ذلك؟
قيل له: لأنه لا يحسن أن يُعاقب إلا من يستحق العقاب، بارتكاب المعاصي، أو بالإنصراف عن الواجبات، أو بفعل. وقد علمنا أن الأطفال لم يرتكبوا شيئا من المعاصي، ولا انصرفوا عن شيء من الواجبات، وقد (2) قال الله تعالى: { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [الأنعام:164، الإسراء:15، فاطر:18، الزمر:7]. وقال: { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف:49]. ولا ظلم أقبح من تعذيب الطفل، ولا جناية له اكتسبها، ولا جريرة اقترفها، ولا واجباً تركه.
__________
(1) هكذا في المخطوطة، ولعل في الكلام سقطا، والله أعلم.
(2) في المخطوطة: فقد.

فإن قيل: أليس يحسن من الله تعالى إيلامهم في الدنيا، وكذلك إيلام البهائم، وسائر ما لا تكليف عليه، فما أنكرتم أن يحسن منه تعالى تعذيب أطفال المشركين في الآخرة؟
قيل له: إنما يحسن من الله تعالى إيلام الأطفال والبهائم في الدنيا، لأمرين:
أحدهما: أنه استصلاح للمكلفين.
والثاني: أن الله سبحانه وتعالى معوِّض لهم على ما نالهم من الآلام، وحل بهم من الأسقام، عوضا يربى، والآخرة ليست دار تكليف، فيستصلح بإيلامهم غيرهم، ولا هم يعوضون على ما تلحقهم من الآلام عند من أجاز ذلك، فوجب أن لا يكون حكم تعذيبهم في الآخرة مثل حكم إيلامهم في الدنيا.
[ أفعال العباد ليست من خلق الله ]
فإن قال قائل: فما الدليل على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله، وأن العباد هم الذين يحدثونها؟
قيل له: الدليل على ذلك بأنها تقع بحسب أحوالهم، ودواعيهم، وهم الذين يستحقون عليها المدح والذم، فثبت تعلقها بهم، ولا وجه يصح من أجله تعلق الفعل بالفاعل إلا الحدوث، فواجب أن تكون هذه الأفعال محدثة من جهة العبيد، دون جهة الله تعالى، فبان أنها غير مخلوقة لله تعالى. وأيضا فقد ثبت أن من فعل الظلم يكون ظالماً، ومن فعل الكذب يكون كاذباً، ومن فعل العدل يكون عادلاً، ومن فعل الصدق يكون صادقاً، فلو كان الفاعل لها لوجب أن يكون ظالماً بظلمنا، وكاذباً بكذبنا، وعادلاً بعدلنا، وصادقاً بصدقنا، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فإن قيل: أليس الله يخلق الولد، ولا يكون والداً (1) والحركة ولا يكون متحركاً؟! وما أنكرتم أن يخلق الله الظلم ولا يكون ظالماً، والكذب ولا يكون كاذباً، والصدق ولا يكون صادقاً به، والعدل ولا يكون عادلاً به؟
__________
(1) سقط من المخطوطة: والداً. وجواب السؤال يقتضيها فأثبتناها.

قيل له: ليس يشتبه الأمران، لأن الظالم اسم لمن فعل الظلم، والصادق اسم لمن فعل الصدق، فمن فعل الظلم والكذب والعدل والصدق، لا بد من أن يكون ظالما وكاذبا وعادلاً وصادقاً، والمتحرك ليس اسما لمن فعل الحركة، بل هو اسم لمن حلَّته، والوالد (1) ليس اسما لمن فعل الولد، وإنما هو اسم لمن وُلِدَ المولود على فراشه، فلا يجب أن يكون مَن فَعَلَ الحركة والولَدَ متحركاً والداً.
فإن قيل: فهل تقولون إن الإستطاعة قبل الفعل؟
قيل له: نعم. والذي يدل على ذلك أنها لو كانت مع الفعل لكان الله قد كلف عباده ما لا يطيقون، لأنه قد كلف الكفار أن يؤمنوا، فلو كانت الإستطاعة مع الفعل لكان الكافر غير مستطيع للإيمان، وقد ثبت أن تكليف ما لا يطاق قبيح، فوجب أن يكون الذي يؤدي إليه من القول فاسداً. وأيضا فلو كانت الإستطاعة مع الفعل لكان من يتوضأ أبداً بالماء، غير قادر على التوضؤ به، ولو كان غير قادر على التوضؤ به، لوجب أن يكون التيمم جائزا له، لأن المسلمين قد أجمعوا على أن من لم يقدر على التوضؤ بالماء جاز له التيمم، وفي هذا أن الواجد للماء لو صلى طول عمره بالتيمم، أجزاه!! وأيضا فلو كانت الإستطاعة مع الفعل لكان يجب أن يكون الإنسان لو أكل الميتة طول عمره لم يأكل إلا المباح، لأن عندهم أن آكل الميتة لا يقدر على أكل غيرها، والمسلمون قد أجمعوا على أن من لم يقدر إلا على أكل الميتة فأكلها مباح، وهذا المذهب أكثر فساداً من أن يحتاج فيه إلى الإكثار.
- - -
__________
(1) في المخطوطة: والولد. والصواب ما أثبت.

باب النبوة
إن سأل سائل: فقال ما قولكم في النبوة؟
قيل له: نقول إن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله تبارك وتعالى، إلى كافة خلقه، ونقول إن كل ما أتى به من عند الله فهو حق، وما أخبر به فهو صدق، ويقر بنبوته جميع الأنبياء الذين أخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بنبوتهم، والدليل على ذلك ما أظهره الله تعالى على يديه من المعجزات الدآلة على نبوته، [منها] إشباعه الناس الكثير بالطعام اليسير (1)، ومنها
__________
(1) عن إياس بن سلمة عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة فأصابنا جهد حتى هممنا أن ننحر بعض ظهرنا، فأمر نبي الله فجمعنا تزوادنا فبسطنا له نطعاً فاجتمع زاد القوم على النطع، قال: فتطاولت لأحرزه كم هو، فحرزته كربضة العنز ونحن أربع عشرة مائة، قال: فأكلنا حتى شبعنا جميعاً ثم حشونا جُرُبنا، فقال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: فهل من وضوء؟ قال: فجاء رجل بأدواة فيها نطفة فأفرغها في قدح، فتوضأنا كلنا ندغفقه دغفقة أربع عشرة مائة، قال: ثم جاء بعد ذلك ثمانية، فقالوا: هل من طهور؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فرغ الوضوء. أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الضيافة، في باب استحباب خلط الأزواد إذا قلَّت.
وعن جابر بن عبد الله قال: لما حفر الخندق رأيت برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمصاً فانكفأت إلى امرأتي فقلت لها: هل عندك شيء ؟ فإني رأيت برسول صلى الله عليه وآله وسلم خمصاً شديداً فأخرجت لي جراباً فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن، قال: فذبحتها وطحنت ففرغت إلى فراغي فقطعتها في برمتها ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه، قال: فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله إنا قد ذبحنا بهيمة لنا وطحنت صاعاً من شعير كان عندنا فتعال أنت ونفر معك، فصاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: يا أهل الخندق إن جابراً قد صنع لكم سواراً فحيهلا بكم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينتكم حتى أجيء، فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدم الناس حتى جاءت امرأتي فقلت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت لي، فأخرجت له عجينتنا فبصق فيها وبارك، ثم عمد إلى من برمتنا فبصق فيها وبارك، ثم قال: إدعي خابزة فلتخبز معك، وأقدحي من برمتكم ولا تنزلوها وهم ألف، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجينتنا لتخبز كما هي. أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الأشربة، في باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه.

إجابة الشجرة له حين دعاها (1)، ومنها تسبيح الحصى في يده (2)، وغير ذلك مما يكثر عده وإحصاؤه ، ومعظم ذلك كله هو القرآن.
__________
(1) عن عبادة بن الوليد قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ساق الحديث ... إلى أن قال: ثم مضينا حتى أتينا جابر بن عبد الله رضي الله عنه في مسجده وهو يصلي ... إلى أن قال جابر: سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزلنا وادياً أفيح، فذهب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقضي حاجته فاتبعته بأداوة من ماء، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم ير شيئا يستتر به فإذا شجرتان بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليَّ بإذن الله، فانقادت معه كالبعير المخشوش الذي يصانع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليَّ بإذن الله فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمنصف مما بينهما لآم بينهما - يعني جمعهما - فقال: التئما عليَّ بإذن الله فالتأمتا ... إلى أن قال جابر: فحانت مني لفتة فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقبلا وإذا الشجرتان قد افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق ... الحديث. أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الزهد، في باب حديث جابر الطويل.
وعن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: بما أعرف أنك نبي ؟ قال: إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد إني رسول الله ؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: ارجع فعاد، فاسلم الأعرابي. أخرجه الترمذي 2/285.
وعن ابن عمر قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأقبل أعرابي فلما دنا منه قال له رسول الله: أين تريد؟ قال: إلى أهلي، قال: هل لك في خير؟ قال: وما هو؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، قال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال: هذه السلمة، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي بشاطئ الوادي، فأقبلت تخد الأرض خداً حتى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاثاً فشهدت ثلاثا أنه كما قال، ثم رجعت إلى منبتها ورجع الأعرابي إلى قومه وقال: إن اتبعوني أتيتك بهم، وإلا رجعت مكثت معك. أخرجه الدارمي في سننه 1/9.
(2) أخرجه أبو نعيم في دلائل النبوة.

[ إعجاز القرآن ]
فإن قيل: ومن أين علمتم أن القرآن معجز؟
قيل له: إنا قد علمنا ضرورة ذلك أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أتى به، وتحدى العرب وقرَّعهم بالعجز عن الإتيان بمثله، فإن العرب لم يعارضوه، وقد علمنا أنه لا يجوز أن يكون تركهم للمعارضة إلا للعجز، لأنه قد ثبت حرصهم على إبطال أمره، وتوهين شأنه، حتى بذلوا مهجهم وأموالهم، وقتلوا أبنآءهم، وآبآءهم. ومعلوم بكمال العقل أن من تحداه خصمه بأمر من الأمور، وقرعه بالعجز عن الإتيان بمثله، فلا يجوز أن يعدل عن الإتيان بمثله، إلى ما هو أشق منه، إلا إذا تعذر عليه ذلك، ولا التباس في أن القتال أشق من معارضة الكلام، فلولا أنهم عجزوا عن المعارضة لم يجز أن يكونوا قد عدلوا عنها إلى القتال، وثبت بذلك عجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن، فإذا ثبت عجزهم وثبت عجز جميع البشر ـ إذ العرب هم الغاية في الفصاحة والطلاقة ـ فثبت أن القرآن معجز.
فإن قيل: وكيف يدل المعجز على أن من أُظهر على يديه فهو نبي؟
قيل له: لأن المعجز كالتصديق.
ألا ترى أن من يدعي النبوة يقول: اللهم إني إن كنت صادقا فاقلب هذه العصا حية، وأنطق هذا الذئب، وما جرى مجراه، فإذا فعل ذلك عند ادعائه (1) غاية دعواه، كان ذلك الفعل تصديقاً له، وقد ثبت أن تصديق الكاذب قبيح، وأن الله لا
__________
(1) في المخطوطة: دعائه. ولعل الصواب ما أثبتنا.

يفعل القبيح، فثبت أن من صدَّقه الله بإظهار العلم عليه، صادق فيما ادعاه من النبوة، ولما بيناه قلنا إن المجبرة لا يمكنها الإستدلال بالمعجز على نبوة من ظهر عليه، لأن عندهم أن الله تعالى يفعل كل فعل يشار إليه، قبيحاً كان أو حسناً، وأن له أن يضل عباده فما (1) يؤمِّنهم أن يصدِّق الكاذبين في ادعاء النبوة.
[ أخبار النبي صدق ]
فإن قيل: ولم قلتم إن جميع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم صدق؟
قيل له: لأنه قد ثبت كونه رسولاً لله تعالى، وقد ثبت أن الحكيم لا يجعل رسوله من يكذب أو يفتري في شيء يؤديه عنه، فهذا دليل على صدقه عليه السلام في جميع ما يؤديه عن الله تعالى.
فأما ما يدل على صدقه في سائر ما يخبر به عنه، فإجماع المسلمين على أن تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع ما يخبر به عن الله واجب (2)، فثبت أنه صادق في جميع ما يخبر به، وفي جميع ما يدل على صدقه في جميع أخباره أن الكذب ينفر الأُمة، والله تعالى لا يبعث رسولا على وجه يقتضي تنفير أُمته، فثبت أنه لا يبعث إلا من يعلم أنه لا يكذب في شيء مما يخبر به.
ألا ترى انه تعالى جنَّب نبيه الغلظة والفظاظة، لما علم أنهما يؤديان إلى التنفير، فقال تعالى: { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران:159]. فإذا ثبت وجوب صدقه صلى الله عليه وآله وسلم، ثبت وجوب ما أخبر بوجوبه من الصلوات والزكوات والصيام والحج وسائر الشرائع، وكل ما أخبر بتحريمه منه.
- - -
__________
(1) في المخطوطة: فيما. ولعل الصواب ما أثبت، والله أعلم.
(2) في المخطوطة: فواجب. ولعل الصواب ما أثبتناه.

5 / 8
ع
En
A+
A-