أوصافه، وجب أن يكون مثلُه شبَهَه، فبطل بهذا أن يكون القديم تعالى موصوفا بهذه الصفات لمعاني، وثبت أنه قادر لنفسه، وعالم لنفسه، وبصير لنفسه، وقديم لنفسه. وإذا ثبت أنه عالم لنفسه، وجب أن يكون عالما بجميع المعلومات، إذ حكمه تعالى مع جميعها حكم واحد، وقد دل الله تعالى على ذلك بقوله: { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف:76]. فأخبر أن كل عالم بعلم فوقه عالم، فوجب أن يكون القديم تعالى عالما لا بعلم، وقوله تعالى: { أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [النساء:166]. لا يوجب إثبات العلم به، لأن معناه أنزله عالما به.
[ تنزيه الله عن شبه الخلق ]
فإن قيل: فهل يجوز عندكم أن يكون القديم يشبه شيئا من الأشياء؟
قيل له: لا يجوز ذلك، لأنه لو أشبه شيئا، لكان محدثا، لأن الذي يشبه المحدث يجب حدوثه، وقد دللنا على أنه تعالى قديم، وكل ما ذكرناه قد ورد به الكتاب، ونطق به القرآن، قال تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } [الأحزاب:25]. وقال: { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [الأحزاب:40، الفتح:26]. وقال: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } [البقرة:255]. وقال: { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } [النساء:134]. وقال: { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [يوسف:76]. وقال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى:11]. وقال: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم:65]. أي: مثلا ونظيرا. وقال: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } [الإخلاص:4].
[ تنزيه الله عن الحلول في الأماكن ]
فإن قيل: فهل يجوز على القديم تعالى الكون في شيء من الأماكن؟
قيل له: معاذ الله! بل ذلك محال لأن الكون في المكان يكون على أحد وجهين:
أحدهما: ككون الأجسام في الأماكن، وذلك لا يكون إلا بالمجاورة، وذلك دليل الحدوث.
والثاني: كحلول (1) الأعراض في المحآل، وذلك أيضا دليل الحدوث، لأن الحلول لا يكون إلا بالحدوث.
ألا ترى أن ما استحال فيه الحدوث، استحال فيه الحلول! فإذا كان الكون في الأماكن لا يكون إلا على هذين الوجهين، وكان كل واحد منهما يدل على حدوث الكائن، وجب القضاء بأن القديم تعالى لا يجوز أن يكون في شيء من الأماكن وإذا ثبت هذا ثبت أنه يستحيل عليه تبارك وتعالى النزول، والصعود، والإنتقال، والإستقرار.
فإن سأل سائل: عن معنى قول المسلمين إن الله تعالى بكل مكان؟
قيل له: معناه أن الله تعالى حافظ لكل مكان، ومدبر له.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5] ؟
قيل له: معنى (2) الإستواء: هو الإستيلاء (3) والغلبة (4). وذلك مشهور في اللغة، والعرش قد يراد به الملك، وذلك مما لا يختلف فيه أهل اللغة.
__________
(1) في المخطوطة: كحول. والصواب ما أثبت.
(2) في المخطوطة: معناه. ولعل الصواب ما أثبت.
(3) في المخطوطة: الإستال. مصحفة.
(4) الإستواء في اللغة على وجوه منها:
- ... الإعتدال.
قال بعض بني تميم:
.................... فاستوى ظالم العشيرة والمظلوم
أي: اعتدلا.
- ... التمام.
قال تعالى: { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى } [القصص:14].
أي: تم.
- ... القصد إلى الشيء.
قال تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة:29].
- ... الإستيلاء على الشيء.
قال الأخطل:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
وقال آخر:
إذا ما علونا واستوينا عليهم ... جعلناهمُ مرعى لنسر وطائر
ومنه قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [طه:5].
وهو قول عامة الموحدين من أهل البيت الزيدية، والجعفرية، والمعتزلة،والأباضية، والأشاعرة، خلا الطائفة المجسمة.
قال الراغب الأصفهاني في المفردات في مادة سوا: الإستواء متى عُدِّي بعلى اقتضى معنى الإستيلاء. كقوله: ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } ، وقيل: معناه استوى له ما في السماوات وما في الأرض، أي: استقام الكل على مراده بتسوية الله تعالى إياه، كقوله: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ }، وقيل: معناه استوى كل شيء في النسبة إليه، فلا شيء أقرب إليه من معه شيء، إذ كان تعالى ليس كالأجسام الحالة في مكان دون مكان، وإذا عدي بإلى اقتضى معنى الإنتهاء إليه، إما بالذات، أو بالتدبير، وعلى الثاني قوله: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت:11]. المفردات/ 439 - 440.
وقال الإمام زيد بن علي: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } . معناه: علا وقهر، والعرش: العزة والسلطان. تفسير غريب القرآن/ 203.
وقال ابن جرير الطبري في تفسيره ( ا / 192 ) عند تأويل قوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ }: والعجب ممن أنكر المفهوم من كلام العرب في تأويل قوله الله: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ } الذي هو بمعنى: العلو والإرتفاع. هربا عند نفسه من أن يلزمه بزعمه إلى أن تأويله بالمجهول من تأويله المستنكر، ثم لم ينج مما هرب منه، فيقال له: زعمت أن تأويل قوله: { اسْتَوَى }: أقبل، أفكان مدبرا عن السماء فأقبل إليها؟! فإن زعم أن ذلك ليس بإقبال فعل ولكنه إقبال تدبير. قيل له: فكذلك فقل: علا عليها علو ملك وسلطان لا علو انتقال وزوال.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله أن لا يوصف بالعلو، لأن وصفه بالعلو من جهة المعنى، والمستحيل كونه ذلك من جهة الحس. الفتح 6 / 136.
وقال أبو الحسن الأشعري: وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن الممآسة والإستقرار والتمكن والحلول والإنتقال، لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد. الإبانة ص ( 21 )، تحقيق الدكتورة فوقية حسين محمود طبع دار الأنصار القاهرة.
وللعلم فإن هذه القطعة من الإبانة محذوفة من أكثر نسخ الإبانة التي طبعتها مجسمة العصر، والموجودة في الأسواق وبأيدي الناس.
وقال أبو المعالي عبد الملك الجويني الشافعي الأشعري في كتابه الإرشاد: ( وذهبت الكرامية ـ وهي فرقة غالية في التجسيم تنتسب إلى محمد بن كرام المتوفي سنة 225 هـ ـ وبعض الحشوية إلى أن الباري ـ تعالى عن قولهم ـ متحيز مختص بجهة فوق، تعالى الله عن قولهم، ومن الدليل على فساد ما انتحلوه... إلى أن قال: فإن استدلوا بظاهر قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى }، فالوجه معارضهم بآيٍٍيساعدوننا على تأويلها، منها قوله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [الحديد:4]. وقوله تعالى: { أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد:33]. فنسآئلهم عن معنى ذلك؟ فإن حملوه على كونه ـ معنا ـ بالإحاطة والعلم، لم يمتنع منا حمل الإستواء على القهر والغلبة، وذلك شائع في اللغة، إذ العرب تقول: استوى فلان على الممالك إذا احتوى على مقاليد الملك، واستعلى على الرقاب. وفائدة تخصيص العرش بالذكر أنه أعظم المخلوقات في ظن البرية، فنص تعالى عليه تنبيها بذكره على ما دونه.
فإن قيل: الإستواء بمعنى الغلبة ينبئ عن سابق مكافحة ومحاولة؟!
قلنا: هذا باطل، إذ لو أنبأ الإستواء عن ذلك لأنبأ عنه القهر!!!
ثم الإستواء بمعنى الإستقرار بالذات ينبئ عن اضطراب واعوجاج سابق، والتزام ذلك كفر. ولا يبعد حمل الإستواء على قصد الإله إلى أمر في العرش، وهذا تأويل سفيان الثوري رحمه الله، واستشهد عليه بقوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [فصلت:1]، معناه: قصد إليها. الإرشاد/ 95 _ 60.
وروى مسلم في صحيحه ( 4 / 61 ) وغيره: اللهم أنت الظاهر فليس فوقك شيء،و أنت الباطن فليس دونك ـ يعني تحتك ـ شيء.
قال البيهقي في الأسماء والصفات/ 400: واستدل بعض أصحابنا بهذا الحديث على نفي المكان عن الله تعالى، فإذا لم يكن فوقه شيء ولا دونه شيء لم يكن في مكان.
وقال ابن حجر في الفتح ( 1 / 508 ) عند شرح حديث: ( إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربه، أو إن ربه بينه وبين القبلة، فلا يبزق أحدكم قِبَلَ قبلته... ). الحديث. قال ابن حجر: وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته.
وقال الطحاوي في متن الطحاوية / 15: تعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات.
والمجسمة تورد شبهة مفادها: إذا قلتم إن معنى { اسْتَوَى }: قهر واستولى يقتضي المغالبة، ومعنى هذا أن الله تعالى لم يكن قاهرا ولا مستوليا ولا غالبا ثم صار كذلك.
فنقول: ليس الأمر على ما توهمت المجسمة، فإن الله يقول مخبرا عن يوم القيامة: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } [غافر:16]. فهل يعني هذا أن الملك قبل ذلك اليوم كان لغير الله تعالى؟!!
وبعد هذا كله فالله سبحانه يقول: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا } [المجادلة:7]، { وَاللَّهُ مَعَكُمْ } [محمد:35]، { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ق:16]، { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ } [الواقعة:85]. ويقول النبي صلى الله عليه وآله: (( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد )). أخرجه مسلم برقم ( 744 )، والنسائي ( 1125 )، وأبو داود ( 741 )، وأحمد ( 9083 ).
ولعل المجسمة تتوهم من قوله تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ } [الملك:16]، وقوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [فاطر:10]، وقوله تعالى: { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [آل عمران:55]، وقوله: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } [المعارج:4]. أن الله سبحانه وتعالى موجود في السماء!! وذلك من قلة معرفتهم باللسان العربي.
وإنما معنى قوله تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ }: مَن شأنه عظيم في السماء. لأن العرب إذا أرادت أن تعظم شيئا وصفته بالعلو، فتقول: فلان اليوم في السماء. وتقول: في المقارنة: كما قال عمرو بن العاص:
وأين الثريا وأين الثرى ... ... وأين معاوية من علي
والثريا نجم عال في السماء. أو يكون المراد به جبريل عليه السلام أو أي ملك يرسله الله ليخسف بهم، لأن السماء مسكن الملائكة.
قال القرطبي في تفسيره عند تفسير الآية: وقيل: تقديره: أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته، وخص السماء وإن عم ملكه تنبيها على أن الإله الذي تنفذ قدرته في السماء، لا من يعظمونه في الأرض.
وقيل: هو إشارة إلى الملائكة.
وقيل: إلى جبريل وهو الملك الموكل بالعذاب. ويحتمل أن يكون المعنى: أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون.
ومعنى { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [فاطر:10]: يقبله. قال أبو حيان: وصعود الكلام إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المسمى إليه، لأنه تعالى ليس في جهة، ولأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود، لأن الصعود يكون من الأجرام، وإنما ذلك كناية عن القبول. البحر المحيط 8 / 303.
وكما قال تعالى في مهاجرة إبراهيم عليه السلام: { إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي } [العنكبوت:26] أي: متوجه إليه. أو إلى الموضع الذي أمرني به.
وقال القرطبي في تفسيره عند تفسير الآية: والصعود هو الحركة إلى فوق، وهو العروج أيضا. ولا يتصور ذلك في الكلام لأنه عرض، لكن ضرب صعوده مثلا لقبوله، لأن موضع الثواب فوق.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 13 / 416: قال البيهقي: صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول، وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء ...
ومعنى قوله تعالى: { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [آل عمران:55] رافعك إلى السماء الثانية، كما جاء في البخاري برقم ( 336 )، ومسلم ( 238 ) في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجد عيسى عليه السلام في السماء الثانية.
وقال القرطبي في تفسير الآية: وقال الحسن، وابن جريج: معنى متوفيك قابضك، ورافعك إلى السماء من غير موت، مثل توفيت مالي من فلان أي: قبضته.
ومعنى قوله تعالى: { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ }. قال القرطبي: في تفسيره عند تفسير الآية: تعرج إليه: إلى المكان الذي هو محلهم في السماء، لأنها محل بره وكرامته. وقيل: هو كقول إبراهيم { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي } [الصافات:99]. أي: إلى الموضع الذي أمرني.
والعرش: هو الملك.
ومعنى قوله تعالى: { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [الحاقة:17]. أي: أمره، من الحساب، وإدخال المؤمنين الجنة، والمجرمين النار.
قال الإمام الهادي عليه السلام: ثمانية أصناف من الملائكة، أو ثمانية ملائكة، أو ثمانية آلاف.
والكرسي: هو العلم.
قال في لسان العرب في مادة كرس: كَرُس الرجل إذا ازدحم علمه على قلبه، والكراسة من الكتب، سميت بذلك لتكرسها.
وقال: وفي التنزيل { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } [البقرة:255]. في بعض التفاسير: الكرسي العلم. وفيه عدة أقوال.
قال ابن عباس: كرسيه علمه...
وقال قوم: كرسيه قدرته التي بها يمسك السماوات والأرض.
قالوا: وهذا كقولك: اجعل لهذا الحائط كرسيا. أي: اجعل له ما يعمده ويمسكه.
قال: وهذا قريب من قول ابن عباس.
أقول: والكرسي: هو العالم. والكراسي: العلماء.
قال أبو ذؤيب الهذلي:
................... ... ... ولا تكرّس علم الغيب مخلوق
أي: ما تعلم.
وقال آخر:
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسي بالأحداث حين تنوب.
أي: علماء.
قال في ضياء الحلوم المختصر من شمس العلوم لمحمد بن نشوان الحميري: ( ومنه قيل للعلماء كراسي. واستشهد بالبيت.
وقيل: الكرسي الملك.
قال أسعد تبع يذكر بلقيس:
ولقد بنت لي عمتي في مأرب ... عرشا على كرسي ملك متلد
ذكره في منتخبات في أخبار اليمن من شمس العلوم لنشوان الحميري/ 92.
وذكره أيضا في كتابه ملوك حمير وأقيال اليمن/ 86.
وقد ذكرت المجسمة أحاديث مفتراة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تمجها الأسماع وتنفر عنها الطباع، منها ما أخرجه الحاكم ( 2/ 282 )، وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وذكره الهيثمي في المجمع ( 6/ 323 9، وقال رجاله رجال الصحيح.
قالوا: روى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: التنزيل { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ }. قال: كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره )!!!!
تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا !!!!
أقول: وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير ، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس: التنزيل { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ }. قال: كرسيه علمه. ألا ترى إلى قوله: { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } [البقرة:255]. الدر المنثور 2/ 16.
وقال الإمام الهادي عليه السلام في كتابه تفسير العرش والكرسي: فمما نحتج به عليكم ما ذكره الله سبحانه في هذه الآية من قوله: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة:255]. فأخبر الله سبحانه أن كرسيه قد وسع السماوات والأرض، يريد عز وجل: أن هذا الكرسي اشتمل على السماوات السبع فأحاط بأقطارها، وكذلك اشتمل على الأرضيين السفلى فأحاط بأقطارها أيضا، فصار الكرسي مشتملا على السماوات السبع عاليا فوقها واسعا لها ... إلى قوله: وسأذكر لك في إحاطة الكرسي بالأشياء خبرا مذكورا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وذكر عن أبي ذر الغفاري رحمة الله عليه أنه قال: (( يا رسول الله أي آية أنزلها الله تبارك وتعالى عليك أعظم؟
قال: آية الكرسي. ثم قال: يا أبا ذر ما السموات والأرض عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة...إلى قوله: واعلم رحمك الله، أن هذا الكرسي مثلٌ ضربه الله لعباده ليستدل به العباد على عظمة الله تبارك وتعالى، وإحاطته بالأشياء واتساعه لها ... )) إلخ كلامه.
والحديث أخرجه ابن جرير، وأبو الشيخ في العظمه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي ذر. الدر المنثور 2/ 17 .
ولم أنقل أقوال أئمة وعلماء الزيدية، والمعتزلة، والجعفرية، والأباضية. لأن مذاهبهم في هذا معروفة ومتفقة، وإنما اعتمدت على أقوال الأشاعرة والمحدثين للإحتجاج بها على المجسمة الذين يدَّعون متابعتهم.
والموضوع متشعب وبحاجة إلى دراسة وافية مفردة، وأنا أعمل في ذلك أرجو من الله التسديد والعون.
فإن قيل: فما تقولون في معنى قوله: { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } [الزخرف:84] ؟
قيل له: معناه: أنه هو الذي يستحق العبادة، يستحق أن يعبد في السماء والأرض، لأن الإله هو الذي يستحق العبادة، وهذا مشهور متعارف في ألفاظ الناس.
ألا ترى أنهم يقولون: فلان أمير في بلد كذا، وبلد كذا. وفلان قاض في بلد كذا، وبلد كذا؟ ولا يريد أنه كائن في البلدان لأن ذلك يستحيل، وإنما يراد أن الأم له والقضاء في هذه له، فقد صح ما ذكرناه من التأويل.
[ الرؤية ]
فإن قيل: فهل تقولون إن الله تعالى يُرى بالأبصار؟
قيل له: لا نقول ذلك، بل نحيله، والدلالة على ذلك، قول الله تعالى: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } [الأنعام:103]. والإدراك بالأبصار هو الرؤية بالبصر عند أهل اللغة، فكأنه قال تبارك وتعالى: لا تراه (1)، فثبت لذلك صحة ما ذهبنا إليه، من نفي الرؤية عن الله عز وجل (2).
__________
(1) في المخطوطة: أي لا يراه. ولعله تصحيف.
(2) عن أنس رضي الله عنه:
(( أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ بأعرابي وهو يدعو في صلاته وهو يقول:
يا مَنْ لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيّره الحوادث ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، وما تواري منه سماءٌ سماءً ولا أرضٌ أرضاً، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتيمه، وخير أيامي يوم ألقاك فيه.
فوكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالأعرابي رجلاً، فقال: إذا صلى فائتني به، فلمّا صلّى أتاه، وقد كان أُهْدِيَ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذَهَبٌ من بعض المعادن، فلمّا أتاه الأعرابي وهب له الذهب، وقال: ممّن أَنْتَ يا أعرابي؟ قال: من بني عامر بن صعصعة يا رسول الله، قال: هل تدري لم وهبت لك الذهب؟ قال: للرحم بيننا وبينك يا رسول الله، قال: إن للرحم حقا، ولكن وهبت لك الذهب بحُسنِ ثنائك على الله عَزَّ وجل )).
قال الحافظ الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (10/158): رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن محمد أبو عبد الرحمن الأذرمي وهو ثقة.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون تعالى يُرى في الآخرة، لأنه ليس فيها نفي الرؤية في الآخرة؟
قيل له: لا يجوز ذلك، لأنه تعالى مدح نفسه بنفي الرؤية عنها، فيجب أن يكون إثباتها نقصا، والنقص لا يجوز على الله تعالى في الآخرة، ولا في الدنيا.
فإن قيل: فما الفصل بينكم وبين من قال: إن الله تعالى يجوز أن يرى، واحتج بقوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:22-23]. كما استدللتم على نفي الرؤية، بقوله (1) تعالى: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } [الأنعام:103] ؟
قيل له: إن النظر بالعين ليست حقيقة الرؤية، بل حقيقة الرؤية تقليب الحدقة في جهة المرئي طلبا لرؤيته، وإذا كان هذا هكذا، فظاهر الآية لا تدل على إثبات الرؤية، وتأويلها ما روي عن المفسرين، وهو: أنه إنما أراد به انتظار الثواب (2)، عند
__________
(1) في المخطوطة: لقوله. والصواب ما أثبت.
(2) أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير، عن أبي صالح رضي الله عنه في قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } [القيامة:22]، قال: حسنة : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:23]، قال: تنتظر الثواب من ربها.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه في قوله : { إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ? قال: تنتظر منه الثواب. الدرر 8/360. وهو في تفسير الإمام زيد في سورة القيامة.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح 13/ 358: وقد أخرج عبد بن حميد عن عكرمة من وجه آخر إنكار الرؤية ... ثم قال: وأخرج بسند صحيح عن مجاهد: { نَاظِرَةٌ }. تنظر الثواب. وعن أبي صالح نحوه، وأورد الطبري الإختلاف.
وأخرجه الربيع بن حبيب في مسنده الصحيح ص ( 226 )، ( 228 )، عن علي عليه السلام من طريق أبي معمر السعدي، وعن ابن عباس من طريق الضحاك بن قيس، وسعيد بن جبير، وعزاه إلى مجاهد، ومكحول، وإبراهيم، والزهري وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب.
وهو في تفسير الميزان للطباطبائي عن الإمام عي بن موسى الرضى قال: يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها. قال: ورواه في التوحيد، والإحتجاج، والمجمع عن علي عليه السلام 2/ 116.
وهو قول القاسم الرسي في كتاب العدل والتوحيد.
أهل اللغة يجوز أن تقول: ناظرة إلى الله، بمعنى ناظرة إلى ثوابه، على ضرب من التوسع، وأراد انتظاره الثواب، والنظر إليه، لأن النظر بمعنى الإنتظار مشهور عند أهل اللغة. ويجوز أن يقال ناظر إلى الله، بمعنى ناظر إلى ثوابه، على ضرب من التوسع، كما قال الله تعالى حاكياً عن إبراهيم عليه السلام: { إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات:99]. أي: إلى حيث أمر ربي، فأما الأخبار المروية في إثبات الرؤية، فإن أكثرها ضعاف (1)، وقد بيَّن ذلك العلماء في الكتب المؤلفة في
__________
(1) الأحاديث الواردة في الرؤية رغم أنها أكثر من عشرين حديثا إلا أن أكثرها ضعيفة إن لم تكن كلها، بَيدَ أن البعض منها إن صح يمكن تأويله بما لا يتناقض مع قدسية الذات الإلهية، وتعاليها عن صفات المخلوقين.
فمن جهة السند لا يخلو حديث منها عن مطعن من قِبَل رجال الجرح والتعديل المعتمدين في هذا الفن، وقد جمع السيد محمد بن إبراهيم الوزير في كتابه العواصم والقواصم الجزء الخامس أكثر الأحاديث في هذه المسألة بأسانيدها، وعند الرجوع إلى كتب الجرح والتعديل سيتضح للقارئ صحة قول الإمام: أكثرها ضعاف. والإمام محدث كبير ولو لا ضيق المقام لنقلت للقارئ مقالات ومطاعن علماء الجرح والتعديل في رجال أسانيد هذه الأحاديث.
هذا من جهة السند.
أما من جهة المتن فالأمر جلل.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن ناساً قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هل تضآرون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: هل تضآرون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله.
قال: فإنكم ترونه كذلك، يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها!!!فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه...
البخاري فتح الباري 13/ 361، ومسلم بشرح النووي 3/ 17.
وفي رواية أخرى للبخاري الفتح 13/ 362، ومسلم بشرح النووي 3/ 25. قريبة من الأولى إلا أنه قال في هذه: حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها. قال: ما تنتظرون؟! تتبع كل أمة ما كانت تبعد. قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم. فيقول أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك لا نشرك بالله شيئا ـ مرتين أو ثلاثا ـ حتى إن بعضهم ليكاد ينقلب!!!!! فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفون بها؟ قالوا: نعم. فيكشف عن ساقه، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة. فقال: أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا...
لن أعلق على هاتين الروايتين، فالقارئ الحصيف في غنى عن أي تعليق أو توضيح لبيان بطلانهما، بيد أني سأكتفي بإثارة بعض علامات الإستفهام.
فأقول:
ـ هل الرؤية في موقف الحشر والقضاء؟ كما هو واضح من الروايتين!! أم في الجنة كما في روايات أخر؟
ـ هل الرؤية نعيم وجزاء على الأعمال الصالحات، وعلى هذا فهل هي خاصة بالمؤمنين؟ أم عامة للمنافقين والفجار كما تصف الروايتان !!!؟
ـ هل لله تعالى صورة أو صور يتشكل ويتغير فيها بحسب المقامات؟! وهل يجوز ذلك على الذات المقدسة؟!
ـ هل سبق للأمة بما فيها منافقوها وفجارها أن تعرَّفوا على الله وعلى صورته وساقه في لقاء سابق؟ وإذا صح ذلك!!! فهل يصح ويجوز من الله تعالى أن يتنكر ويوقع الأمة في حيرة منه، حتى ليكاد بعضهم أن يرتد ويكفر بالله؟!
ـ هل دار الآخرة دار ابتلاء وتكليف حتى يختبرهم ويمتحنهم فيها؟!
ـ ثم ما هذه الآية والعلامة ـ ساق ـ التي اتفق معهم عليها؟! ما علاقة الله تعالى بالساق، وما في هذا الساق من العلامات والآيات الإلهية؟
إن هذه الأسئلة وغيرها الكثير لتنتظر الجواب الشافي من ذوي الإختصاص، ومن يهمهم الأمر.
هذا الباب، فإن صح منها شيء فالمراد بالرؤية هو العلم، وذلك غير مستنكر في اللغة (1).
__________
(1) كما قال الإمام عليه السلام إن صح منها شيء فالمراد بالرؤية هو العلم.
قال أبو بكر الجصاص الحنفي: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } [الأنعام:103]. معناه: لا تراه الأبصار، وهذا تمدح بنفي رؤية الأبصار، كقوله: { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } [البقرة:255]. وما تمدح الله بنفيه عن نفسه إثبات ضده ذم ونقص، فغير جائز إثبات نقيضه بحال، كما لو بطل استحقاق الصفة بـ { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ }. لم يبطل إلا إلى صفة نقص، ولا يجوز أن يكون مخصوصا بقوله: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة:22-23]. لأن النظر محتمل لمعان منه:
انتظار الثواب كما روي عن جماعة من السلف، فلما كان ذلك محتملا للتأويل لم يجز الإعتراض عليه بما لا مساغ للتأويل فيه، والأخبار المروية في الرؤية إنما المراد بها العلم لو صحت، وهو علم الضرورة الذي لا تشوبه شبهة، ولا تعرض فيه الشكوك، لأن الرؤية بمعنى العلم مشهورة في اللغة. أحكام القرآن 3/ 4 - 5.
وقال ابن حجر في الفتح 13/ 359: واختلف من أثبت الرؤية في معناها، فقال قوم: يحصل للرآئي العلم بالله تعالى برؤية العين كما في غيره من المرئيات، وهو على وفق قوله في حديث الباب ) كما ترون القمر )، إلا أنه منزه عن الجهة والكيفبة، وذلك أمر زائد على العلم. وقال بعضهم: إن المراد بالرؤية: العلم. وعبر عنها بعضهم: بأنها حصول حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة نسبة الأبصار إلى المرئيات. وقال بعضهم: رؤية المؤمن لله نوع كشف وعلم، إلا أنه أتم وأوضح من العلم، وهذا أقرب إلى الصواب من الأول.
وقال العلامة بدر الدين الحوثي: فأما الروايات فكثير منها ما يمكن تفسيره بمعنى قريب، وهي أن الرؤية فيها مقيدة بكونها كما يرون القمر، والقمر لا يُرى إلا شعاعه لا جرمه لأن الجرم بعيدا جدا، ولا يرى من بعيد إلا النور، فالمعنى أنها تتجلى للمؤمنين عظمته وجلاله وحكمته وكرمه ورحمته وجبروته وعزته، بما يشاهدون في القيامة من قضائه سبحانه وتعالى.
ويكون العلم بذلك ضروريا بمنزلة العلم بالمشاهدات، واختص بذلك المؤمنون لأن أعداء الله في شغل عن ذلك بأنفسهم كما قال تعالى: { وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا } [الإسراء:72]. وقال تعالى: { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا } [الإسراء:97]. ووصف الأبرار بضد ذلك فقال: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ، عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ } [المطففين:22-23]. فكانت مشاهدتهم لقضائه، ورؤيتهم لعدله وعزته ورحمته وفضله هي مشاهدة جلاله وعظمته، وكان ذلك معنى رؤيته، لأنه تجلى لهم بهذا المعنى من حيث كمال المعرفة والعلم وكونه ضروريا كالعلم بالمشاهدات. تحرير الأفكار/ 315.
وعلاوة على هذا فهذه الروايات آحادية لا يقبل شيء منها في مسائل الإعتقاد، لأنه يشترط في العقيدة العلم واليقين، والآحاد لا تفيد إلا الظن، هذا مع سلامته من المعارضة العقلية والنقلية، فكيف به مع المعارضة لصرائح الآيات، وموجبات ودلائل لعقول.
وإليك نصوص الأئمة والمحدثين والأصوليين في أخبار الآحاد، وأنها مما لا يبنى عليه في باب الإعتقاد.
قال الحافظ الخطيب البغدادي في الفقثه والمتفقه 1/ 132:
باب القول فيما يرد به خير الواحد:
... وإذا روى الثقة المأمون خبرا متصل الإسناد رُدَّ بأمور:
أحدها: أن يخالف موجبات العقول فيعلم بطلانه، لأن الشرع إنما يرد بمجوزات العقول، وأما بخلاف العقول فلا.
الثاني: أن يخالف نص الكتاب، أو السنة المتواترة، فيعلم أنه لا أصل له أو منسوخ.
والثالث: يخالف الإجماع فيستدل على أنه منسوخ أو لا أصل له....
الرابع: أن ينفرد الواحد برواية، يجب على كافة الخلق علمه، فيدل ذلك على أنه لا أصل له، لأنه لا يجوز أن يكون له أصل، وينفرد هو بعلمه من بين الخلق العظيم... إلخ كلامه.
وقال أيضا في كتابه ( الكفاية في علم الرواية ) /432
باب ذكر ما يقبل فيه خبر الواحد وما لا يقبل فيه:
خبر الواحد لا يقبل في شيء من أبواب الدين المأخوذ على المكلفين العلم بها والقطع عليها، والعلة في ذلك أنه إذا لم يعلم أن الخبر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أبعد من العلم بمضمونه، فأما ما عدا ذلك من الأحكام التي يوجب علينا العلم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قررها وأخبر عن الله عز وجل بها فإن خبر ا لواحد فيها مقبول والعمل واجب.
وعقد بابا في كتابه هذا سماه:
[ ذكر شبهة من زعم أن خبر الواحد يوجب العلم، وإبطالها ].
وقال البيهقي في الأسماء والصفات/ 357:
ولهذا الوجه من الإحتمال ترك أهل النظر من أصحابنا الإحتجاج بأخبار الآحاد في صفات الله تعالى، إذا لم يكن لما انفرد منها أصل في الكتاب أو الإجماع، واشتغلوا بتأويله.
قال الحافظ ابن عبد البر في ( التمهيد ) 1/ 7:
واختلف أصحابنا وغيرهم في خبر الواحد العدل هل يوجب العلم والعمل جميعا، أم يوجب العمل دون العلم؟ والذي عليه أكثر أهل العلم منهم أنه يوجب العمل دون العلم، وهو قول الشافعي وجمهور أهل الفقه والنظر، ولا يوجب العلم عندهم إلا ما شهد به على الله وقطع العذر بمجيئه قطعا ولا خلاف فيه.
وقال الإمام الشافعي: الأصل القرآن والسنة وقياس عليها، والإجماع أكبر من الحديث المنفرد .
رواه عنه أبو نعيم في الحلية 9/ 105، وأبو حاتم في ( آداب الشافعي ) 231، 233، والبيهقي في ( مناقب الشافعي ) 2/ 30.
وعليه الإمام البخاري قال في كتاب أخبار الآحاد من صحيحه بشرح الفتح 13/ 196: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام.
قال الحافظ ابن حجر في شرحه عليه: وقوله: والفرائض بعد قوله: في الأذان والصلاة والصوم، من عطف العام على الخاص، وأفرد الثلاثة بالذكر للإهتمام بها، قال الكرماني: ليعلم إنما هي في العمليات لا في الإعتقاديات.
وقال النووي في شرحه على مسلم 1/ 131:
وأما خبر الواحد فهو ما لم يوجد فيه شروط المتواتر، سواء كان الراوي له واحدا أو أكثر، واختلف في حكمه فالذي عليه جماهير المسلمين من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المحدثين والفقهاء وأصحاب الأصول: أن خبر الواحد الثقة حجة من حجج الشرع يلزم العمل بها، ويفيد الظن ولا يفيد العلم ...
وقال عبد القاهر البغدادي في كتابه أصول الدين / 12:
وأخبار الآحاد متى صح إسنادها وكانت متونها غير مستحيلة في العقل كانت موجبة للعمل بها دون العلم.
وهو قول الحافظ ابن حجر أيضا انظر شرح نخبة الفكر ص ( 25 - 26 ).
وقال ابن تيمية في منهاج السنة 2/ 133:
الثاني: أن هذا من أخبار الآحاد فكيف يثبت به أصل الدين الذي لا يصح الإيمان إلا به.
قال الإمامان ابن السبكي في جمع الجوامع والمحلي في شرحه: (خبر الواحد لا يفيد العلم إلا بقرينة) كما في إخبار الرجل بموت ولده المشرف على الموت، مع قرينة البكاء، وإحضار الكفن والنعش.
( و ) قال ( الأكثر لا ) يفيده ( مطلقا ). جمع الجوامع لابن السبكي بشرح جلال الدين المحلي مع حاشية ابن قاسم العبادي ج 3 ص 215.
وفي تنقيح ابن الحاجب وشرحه ( التوضيح ) ما نصه: والثالث ـ ويعني به الخبر الآحادي ـ يوجب عليه الظن إذا اجتمع الشرائط التي نذكرها إن شاء الله تعالى، وهي كافية لوجوب العمل لأنه لا يوجب العلم؛ ولا عمل إلا عن علم... إلى أن قال : والعقل يشهد أنه لا يوجب اليقين. التوضيح على التنقيح / 431- 432 هامش حاشية التلويح للسعد التفتازاني، مطبعة مكتب صنايع من طرف الشركة الصحافية العثمانية شوال من سنة 1310هـ.
وفي حاشية السعد التفتازاني عليهما أن هذا هو قول الجمهور. انظر التلويح للسعد التفتازاني / 431.
ثم قال: بل العقل شاهد بأن خبر الواحد العدل لا يوجب اليقين، وأن احتمال الكذب قائم وإن كان مرجوحا، وإلا لزم القطع بالنقيضين عند إخبار العدلين بهما. المرجع السابق ص 433.
وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: اعلم أنا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم، فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلا فهو خبر الواحد ... إلى أن قال: وإذا عرفت هذا فنقول خبر الواحد لا يفيد العلم، وهو معلوم بالضرورة فإنا لا نصدق بكل ما نسمع، ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين؟ وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علما، ولهذا قال بعضهم: يورث العلم الظاهر. والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن. المستصفي للإمام أبي حامد الغزالي 1 / 145طبعة بولاق.
وفي فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت لابن عبد الشكور ما نصه: الأكثر من أهل الأصول ومنهم الأئمة الثلاثة على أن خبر الواحد، إن لم يكن هذا الواحد المخبر معصوما نبيا، لا يفيد العلم مطلقا، سواء احتف بالقرائن أو لا ... إلى أن قال: لو أفاد خبر الواحد العلم لأدى إلى التناقض إذا أخبر عدلان بمتناقضين ... ثم قال: وذلك أي إخبار العدلين بمتناقضين جائز بل واقع، كما لا يخفى على المستقرئ في الصحاح والسنن والمسانيد. فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت المطبوع بذيل المستصفي 2 /121.
وقال الإمام محمد عبده في إحدى فتاواه: ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى هذه العقيدة، فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين، إما بالمقدمات العقلية البرهانية، أو بالأدلة السمعية المتواترة، ولا يمكنه أن يتخذ حديثا من حديث الآحاد دليلا على العقيدة، مهما قوي سنده، فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [النجم:28]. من فتوى للإمام محمد عبده نقلها القاسمي في تفسير سورة الأحزاب من تفسيره محاسن التأويل 13/4920 طبع عيسى البابي الحلبي وشركائه.
وقال العلامة السيد محمد رشيد رضا: إن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة عند من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها، ولا تكون حجة على غيره يلزم العمل بها، ولذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يكتبون جميع ما سمعوه من الأحاديث ويدعون إليها، مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به، وبالسنة العملية المتبعة المبينة له إلا قليلا من بيان السنة، كصحيفة علي كرم الله وجهه، المشتملة على بعض الحكام كالدية، وفكاك الأسير، وتحريم المدينة كمكة، ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ، وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة. المنار 1/ 138 الطبعة الرابعة.
وإذا كان هذا موقف حجية الآحادي في الأمور الفرعية العملية فكيف بالإعتقاد؟! بل كيف تكون حجيته مع معارضته للقطعي المتواتر؟! وقد قال هذا الإمام نفسه: وإذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة مخالفة راويه لغيره من الثقات، فمخالفة القطعي من القرآن المتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه. المرجع السابق 85 - 86.
ولهذا ردت عائشة كثيرا من الأحاديث التي كان يرويها بعض الصحابة لمخالفتها للقرآن وموجبات العقول.
ردت حديث من ادعى أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه، وهو أنس وغيره.
روى ابن حجر في الفتح 8/ 494 أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: رأيت ربي. وقبله في نفس الصفحة أن ابن خزيمة روى بإسناد جيد عن أنس قال: رأى محمد ربه.
فردت ذلك كما في البخاري فتح 8/ 492، ومسلم بشرح النووي 3/ 8 عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي الله عنهما: يا أُمتاه، هل رأى محمد ربه؟ فقالت: ( لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الأنعام:103]. { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ...} [الشورى:51] ).
فها هي أم المؤمنين ترد الخبر الآحادي المخالف لصريح القرآن وتكذب من رواه.
وروى البخاري ( فتح 3/ 151 - 152 )، ومسلم ( 2/ 638 - 642 ) أن عمر وابنه عبد الله رويا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه )). فردت ذلك عائشة كما في صحيح مسلم ( 6/ 235 ). فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن. أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على يهودية يُبكي عليها فقال: (( إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها )). وفي رواية أخرى لمسلم قالت: (( لا والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد .... ثم قالت: حسبكم القرآن { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [فاطر:18] )).
وروت أيضا حديث أبي هريرة.
روى أبو داود الطيالسي ( ص 215 ) عن مكحول قيل لعائشة: إن أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس )). فقالت عائشة: لم يحفظ أبو هريرة لأنه دخل ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( قاتل الله اليهود يقولون: إن الشؤم في ثلاث في الدار والمرأة والفرس )). سمع آخر الحديث ولم يسمع أوله.
ألا ترى أن الله تعالى يقول: { أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ } [الفرقان:45]. يريد: ألم تعلم، وكذلك قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } [الفيل:1]. وقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء:30]. فبان (1) بهذه الآيات صحة ما ادعيناه من الرؤية، وقد تكون بمعنى العلم (2).
[ الله واحد ]
فإن قيل: ما الدليل على أن الله تعالى واحد؟
قيل له: الدليل على ذلك، أنه لو كان معه ثاني لصح بينهما التمانع، وصحة التمانع تقضي عليهما، أو على أحدهما بالعجز والضعف، لأن المتمانعين إذا تمانعا، يمنع كل واحد منهما صاحبه، أو يكون (3) أحدهما يمنع صاحبه، فإن منع أحدهما صاحبه، وجب القضاء بالضعف على الممنوع، وإن منع كل واحد منهما صاحبه، وجب القضاء عليهما بالضعف، والإله لا يكون ضعيفاً، فثبت أنه واحد لا ثاني معه. وقد نبه الله تعالى على معنى هذا الدليل بقوله: { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا } [الإسراء:42]. وبقوله تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء:22]. وبقوله: ? مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا
__________
(1) في المخطوطة: فيات. مصحفة.
(2) لعل العبارة هكذا: ما ادعيناه من الرؤية بمعنى العلم.
(3) لعل كلمة ( يكون ) زائدة.
كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } [المؤمنون:91].
[ القرآن ]
فإن قيل: فما قولكم في القرآن؟
قيل له: نزعم أنه كلام الله، ووحيه ومستنزله، وأنه مخلوق، والدليل على ذلك أنه محدَث، ولا محدِث له إلا الله، وما أحدثه الله تعالى، فيجب أن يكون مخلوقاً.
فإن قيل: ولم قلتم إنه محدث؟
قيل له: لأنه سور مفصلة، وله أول وآخر، ونصف وثلث وسبع، وما كان كذلك فيجب أن يكون محدثاً، لأن كل ذلك شيء يستحيل على القديم تعالى، وأيضا فإنا قد بينا فيما تقدم من هذا الكتاب أن ما شارك القديم تعالى في كونه قديماً فيجب أن يكون مثلاً له، وقد بينا أن الإله لا مثل له، فوجب أن لا يكون القرآن قديماً، وإن لم يكن قديما فوجب حدوثه، وقد قال الله تعالى وجل ذكره: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأنبياء:2]. وقال: { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ } [الشعراء:5]. والذكر هو القرآن.
ألا ترى إلى قول الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر:9] ؟
- - -
باب [ العدل ]
[ الإرادة ]
اعلم أن أفعال القديم تعالى تحسن لوقوعها على وجه، لا تقع عليه (1) إلا إذا كان القديم تعالى مريداً، والذي يدل على ذلك، أنه تعالى قد ثبت أنه آمر ومخبر (2)، وقد ثبت أن الآمر لا يكون آمراً إلا بأن يكون مريداً للمأمور به، والمخبر (3) لا يكون مخبراً إلا إذا أراد إيقاع الحروف خبراً، فإذا ثبت ذلك ثبت أن القديم تعالى مريد.
فإن قيل: ولم قلتم إن الآمر لا يكون آمرا إلا إذا كان مريداً للمأمور به، والمخبر لا يكون مخبراً إلا إذا أراد إيقاع الحروف خبراً؟
قيل له: إنما قلنا ذلك لأن لفظ الأمر يصلح للتهدد كما يصلح للأمر (4)، فلا بد من وجه ما، له يكون الآمر (5) آمراً، وليس ذلك الوجه إلا كون الآمر مريداً للمأمور به، لأن سائر الأوصاف والمعاني لا تؤثر في ذلك، وكذلك القول في الخبر، لأن الخبر عن زيد بن عبد الله، مثل الخبر عن زيد بن خالد، بل اللفظتان واحدة، فلا بد من أمر ما، له يتعلق كل واجد من الخبرين بمخبره، وليس ذلك غير كون المخبر مريداً إيقاع الحروف خبراً، إذ سائر المعاني والأوصاف لا تؤثر فيه.
فإن قيل: فهل تقولون بأنه تعالى مريد بإرادة محدثة لنفسه (6)، أومريد بإرادة محدثة؟
قيل له: نقول إنه مريد بإرادة محدثة (7)، ونحيل القول إنه مريد لنفسه، لأنه لو كان مريداً لنفسه لوجب أن يكون مريدا لجميع الإرادات، [وهذا] يؤدي أن يكون
__________
(1) في المخطوطة: عليها. ولعل الصواب ما أثبت.
(2) في المخطوطة: آمرا ومخبرا.
(3) في المخطوطة: والمخبر عنه لا يكون مخبراً. ولعل الصواب حذف كلمة (عنه).
(4) في المخطوطة: يصلح التهدد كما يصلح الأمر. ولعل الصواب ما أثبت.
(5) في المخطوطة: للآمر. ولعل الصواب ما أثبت.
(6) لعل السؤال هكذا: مريد لنفسه؟ أو مريد بإرادة محدثة.
(7) اختلف أصحابنا وغيرهم في حقيقة الإرادة الإلهية على أقوال:
الأول: الوقف في حقيقتها مع اعتقاد أن الله يريد الحسن ويكره القبيح.
وهذا قول الحسن بن بدر الدين، والهادي بن إبراهيم، والإمام شرف الدين، والمفتي، والجلال.
الثاني: إرادته في أفعاله فعله، وفي فعل غيره الأمر به، والإخبار نفس الخير.
وهذا قول الصادق، والهادي، والقاسم العياني، والإمام أحمد بن سليمان، والسيد حميدان، وقديم قولي الإمام القاسم بن محمد، والنظام، وأبي الهذيل.
الثالث: إرادته علمه باشتمال الفعل على مصلحة، وكراهته علمه باشتماله على مفسده.
وهو قول الإمام يحيى بن حمزة، والقول الثاني للإمام القاسم بن محمد، وأبي الهذيل، والنظام، والبلخي، والجاحظ، والخوارزمي، ونسبة هذا القول إلى معتزلة بغداد بناء على أن هذا القول والقول الثاني السابق بمعنى واحد. وبيانه: أنه سبحانه مريد لا بإرادة لاستحالة حقيقتها في حقه، وقد ثبت كونه عليما حكيما، فإذا عَلم كون فعله مشتملا على المصلحة أوجده من غير تقدم ضمير، فصح إطلاق اسم الإرادة على علمه تعالى، وصح إطلاق اسم الإرادة في حقه تعالى على المراد، لما لم يكن بينه وبين مراده واسطة إرادة.
الرابع: إرادته معنى حادث موجود لا في محل غير مراد في نفسه.
وهو قول المؤيد بالله، والسيد ما نكديم، وأبي طالب، والمنصور بالله، والأمير الحسين، والمهدي، وجماهير المعتزلة، كأبي علي، وأبي هاشم، والقاضي، وأبي عبد الله البصري، وغيرهم.
الخامس: إرادته: معنى قديم قائم بذاته. وهو قول الأشعرية.
السادس: أن الله مريد لذاته. وهو قول النجارية من المجبرة.
وثمت أقوال أخرى أعرضنا عنها لسخافتها.
وأسلم الأقوال فيما أرى القول الأول، وهو ما نطق به القرآن الكريم. وعذري في إيراد هذه المقالات إشارة الإمام إليها، وذكره لمذهبه وإلا فإن الإعراض عن الخوض فيها أسلم.والله تعالى أعلم.