معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، يوم الآزفة، فأقول: ألم تسمع قول جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من سمع واعيتنا أهل البيت لم يجبها كبه الله على منخريه في النار ))، ألا فاسمعوا وأطيعوا، انفروا خفافا وثقالاً، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، قل إن كان آباؤكم وأبناءكم ... الآية، فليتفق كلمتكم، وليجتمع شملكم، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين.
ألا وقد سلك سبيل من مضى من آباءي الأخيار، وسيلفي النجباء الأبرار في منابذة الظالمين، ومجاهدة الفاسقين، مبتغياً فيه مرضات رب العالمين، فاسلكوا أيها الإخوان سبيل أتباعهم الصالحين، وأشياعهم البررة الخاشعين، في المعاونة والمظاهرة، والمكاتف والموازرة، وتبادروا رجالاً، وسارعوا إليَّ إرسالاً، وإياكم والجنوح إلى الراحة طالبين لها وجوه العلل، مغترين بما فسح الله لكم من المهل، وعن قليل يحق الحق، ويبطل الباطل، ويعاين كل امرئ ما اكتسب، ويجازى كلٌ بما اجترم، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين، فستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد (1).
وفاته
توفي عليه السلام يوم عرفة سنة (411هـ) عن (78 سنة)، ودفن في يوم الأضحى، وصلى عليه السيد (( مانكديم ))، وبني عليه مشهد مشهور مزور في لنجا من محافظة مازندران.
عرج على قبر بصعدة ... وابك مرموسا بلنجا
واعلم بأن المقتدي بهما ... سيبلغ ما ترجا
__________
(1) الحدائق الوردية 2/ 86 - 87.
منهج التحقيق
بما أن الكتاب يكاد يكون مفقودا لولا أن مَنَّ الله سبحانه بنسخة مخطوطة، لعلها الوحيدة فيما أعتقد، لأني رغم بحثي وتنقيبي المستمر عنها، بيد أني لم أحصل على نسخة أخرى في اليمن، ولم أقف عليها أيضا في فهارس كثير من مكتبات العالم. نماذج من المخطوط
ـ لهذا فقد كنت مضطرا لتصحيح وتقويم النص اجتهادا.
ـ وزعت النص إلى فقرات، والفقرة إلى جمل، مستخدما علامات الترقيم المتعارف عليها.
ـ خرجت الأحاديث المذكورة في الكتاب، والوقائع التاريخية التي يشير إليها المؤلف.
ـ علقت بعض التعاليق التي رأيت أنها ضرورة لتبيين وتوضيح مقصود المؤلف.
ـ وضعت مقدمة تشتمل على دراسة موجزة عن الكتاب، وترجمة مختصرة عن المؤلف.
ـ وضعت عناوين للمباحث.
ـ وضعت فهرسا.
سائلا الله سبحانه أن يتقبل منا إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
عبد الكريم أحمد جدبان
اليمن ـ صعدة
جماد أول /1422هـ الموافق 8/ 2001م
- - -
كتاب التبصرة
للمؤيد بالله (ع)
l
قال السيد الإمام أبو الحسين أحمد بن الحسين بن هارون الحسني عليه السلام: الحمد لله على فواضل قسمه، وسوابغ نعمه، وصلواته على خيرته، محمد النبي وعترته.
[ التفكير فريضة إسلامية ]
اعلم أن أول ما يلزم المكلف هو النظر المفضي به إلى معرفة الله تبارك وتعالى، والذي يدل على ذلك أنه قد ثبت وجوب معرفة الله تعالى على جميع المكلفين، وثبت أن معرفة الله لا تحصل مع التكليف إلا بالنظر.
فإن قيل: ولم قلتم إن معرفة الله تعالى واجبة على جميع المكلفين؟
قيل له: لأنه قد ثبت أن معرفة الله لطف في فعل الواجبات وترك المقبحات، لأن الإنسان إذا عرف أن له صانعا مدبرا صنعه ودبره، كان أقرب إلى اجتناب القبائح اللوازم، وما كان لطفا في الواجبات وترك المقبحات كان واجبا.
فإن قيل: ولم قلتم إن معرفة الله تعالى لا تحصل ضرورة إلا بالنظر؟
قيل له: لأنه قد ثبت أن معرفة الله تعالى لا تحصل ضرورة، وثبت فساد التقليد فلم يبق إلا أن يكون النظر هو الذي يتوصل به إليها، ونجد أنفسنا في المعرفة بالله على خلاف ما نجدها في المعرفة بالمشاهدات.
فإن قيل: ولم قلتم إن التقليد فاسد؟
قيل له: لأن التقليد لو جاز لم يكن تقليد بعض المقلدين بأولى من تقليد غيره، وهذا يؤدي إلى أن يجوز تقليد من يقول بقدم العالم، كما يجوز تقليد من يقول بحدوثه، وتقليد كل من قال شيئا، كفرا كان ما قال أو إيمانا، وهذا معلوم الفساد، فثبت بذلك صحة ما قلناه.
وقد أمر الله تعالى بالنظر في محكم كتابه، فقال : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ } [يونس:101]. وقد عنَّف على ترك النظر فقال عز من قائل: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ
كَيْفَ خُلِقَتْ ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } [الغاشية:17-20]. وقال: { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [سبأ:9]. وإحصاؤها وغير ذلك من الآيات التي يكثر عدها، ولا يمكن إحصاؤها.
فإن قيل: ما أنكرتم أنه تعالى أراد بالآيات التي تلوتموها نظر البصر؟
قيل له: هذا الذي ذكرت لا يصح، لأنا نعلم أن القوم الذين دُعوا إلى النظر وعوتبوا على تركه، كانوا ينظرون بالأبصار إلى هذه الأشياء، فبان أن الدعاء إنما كان إلى النظر الذي هو الفكر.
باب [ التوحيد ]
فإن قال قائل: فما النظر المفضي به إلى معرفة الله تعالى؟
قيل له: هو النظر فيما ذكره الله تعالى، حيث يقول: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [البقرة:164]. وقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } [الأنبياء:30]. وقوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون:12-14]. وغير ذلك من الآيات التي معناها معنى هذه الآيات.
وبيان ذلك أنا قد علمنا أن هذه الأجسام التي ذكرها الله تعالى في كتابه، لا بد أن تكون على أحوال لا يصح كونها عليها إلا بالفاعل المدبر، لعلمنا أن الكتابة لا تكون إلا من كاتب، ولا البناء إلا من بانٍ، والتصوير لا يكون إلا من مصوِّر، وقد ثبت أن الفاعل يجب أن يكون متقدما لفعله، فثبت أن الصانع يجب أن يكون متقدما لجميع هذه الأجسام، إذ قد ثبت أن هذه الأجسام لا تنفك من أحوال لا يجوز أن تكون عليها إلا بالصانع، وإذا ثبت تقدم الصانع لهذه الأجسام، ثبت (1) حدوثها، لأن من تأخر وجوده عن وجود غيره، فلا شك في حدوثه، وإذا ثبت حدوث الأجسام، وجب أن يكون الذي دبرها وأوجدها على تلك الأحوال، هو الذي أحدث عينها وفعلها، إذ الفعل لا بد له من فاعل على ما بينا.
__________
(1) في المخطوطة: وثبت. والصواب ما أثبت.
[ شواهد الحدوث ]
فإن قيل: وما هذه الأحول التي ادعيتم أن الأجسام لا يجوز انفكاكها منها؟
قيل له: هي الأحوال التي أثبتناها في صدر هذه الفصل، وهي كونها متحركة وساكنة، ومجتمعة ومتفرقة، وكون التراب ترابا، ثم كونه نطفة، ثم كونه مخلقة، ثم كونه مضغة، ثم كونه عظاما، ثم كسونا العظام لحما، ثم كون الإنسان طفلا، ثم كونه ناشئا، ثم كهلا، ثم مردودا (1) إلى أرذل العمر، فهذه الأحوال هي التي يُعلم أن الأجسام لا تنفك من بعضها أو مثلها، وقد علمنا أنه لا يجوز أن تحصل عليها إلا بالفاعل المدبر، فوجب بهذه الجملة إثبات الصانع، فإذا عرف المكلف بما ذكرنا وقلنا من إثبات الصانع، وجب عليه أن يعلم أنه قادر، عالم، حي، سميع، بصير، قديم.
[ القادر ]
فإن قيل: فما الدليل على أنه تعالى قادر؟
قيل له: الذي يدل على ذلك، أنا وجدنا في الشاهد من لا يتعذر عليه الفعل مفارقا لمن يتعذر عليه، فلا بد من اختصاصه بصفة لكونه عليها فارق من يتعذر منه الفعل، فإذا ثبت ذلك وثبت أن صانع العالم لا يتعذر منه الفعل ـ إذ قد بيَّنا أنه هو الفاعل لهذا العالم ـ ثبت اختصاصه بتلك الصفة، والقادر هو المختص بتلك الصفة، فثبت أنه تعالى قادر.
[ العالِم ]
فإن قيل: فما الدليل على أنه عالم؟
قيل له: الدليل أنا وجدنا في الشاهد قادرا يتعذر منه الفعل المحكم المنسق المنتظم، وقادرا (2) لا يتعذر منه ذلك، فوجب أن يكون الذي لا يتعذر منه ذلك مختصا
__________
(1) في المخطوطة: مردود. والصواب ما أثبت.
(2) في المخطوطة: وقادر. والصواب ما أثبت.
بصفة، لكونه عليها فارق من يتعذر عليه ذلك من القادرين، والعالم هو المختص بتلك الصفة، فإذا ثبت بذلك وثبت أن القديم تعالى قد صح منه الفعل المحكم المنسق المنتظم، صح اختصاصه بالصفة التي من اختص بها كان عالما، فوجب كونه تعالى عالما.
فإن قيل: ولم قلتم إن القديم تعالى قد صح منه الفعل المحكم المنسق المنتظم؟
قيل له: لما قد بيناه فيما مضى من جعله التراب نطفة، والنطفة علقة، والعلقة مضغة، والمضغة عظاما، ثم إنشاؤه إياها، يعني خلقا آخر، ولما علمنا من حسن خلقه وتركيبه للنجوم والأفلاك، وتسخيره الرياح والسحاب، وتقديره الشتاء والصيف وغير ذلك مما يتعذر عده، ولا يمكن حده.
[ الحي ]
فإن قيل: وما الدليل على أنه حي؟
قيل له: الدليل على ذلك أنا وجدنا في الشاهد موجودا، يتعذر كونه عالما قادرا، ويستحيل ذلك فيه، وموجودا لا يتعذر ذلك منه ولا يستحيل، فوجب أن يكون الموجود الذي يصح ذلك فيه ولا يستحيل، مختصا بصفة يفارق بها الموجود الذي يستحيل ذلك فيه، ولا يصح في الحي والمختص بتلك الصفة، فإذا صح ذلك ثبت ذلك، وثبت أن القديم تعالى قد صح كونه عالما قادرا، ولم يستحل ذلك فيه، صح اختصاصه بتلك الصفة، وإذا صح ذلك ثبت كونه حيا.
[ السميع البصير ]
فإن قيل: وما الدليل على أنه سميع بصير؟
قيل له: الدليل على ذلك أنا وجدنا في الشاهد من كان حيا، وارتفعت عنه الآفات، وجب كونه سميعا بصيرا مدركا للمدركات، ولم يكن الموجود لكونه كذلك أكثر من أنه حي لا آفة به، فإذا ثبت ذلك وثبت أن القديم لا آفة به، ثبت أنه سميع بصير مدرك للمدركات.
[ القديم ]
فإن قيل: فما الدليل على أنه قديم؟
قيل له: الدليل على ذلك أنه لا يخلو من أن يكون معدوما أو موجودا، أو محدثا أو قديما، وقد ثبت أنه لا يجوز أن يكون معدوما، لأن المعدوم يستحيل أن يكون عالما قادرا حيا، وقد دللنا على وجوب كونه عالما قادرا حيا، ولا يجوز أن يكون محدثا، لأنه لو كان محدثا لوجب أن يكون له صانع، وكان القول في صانعه كالقول فيه، وهذا يؤدي إلى إثبات صانعين محدثين لا نهاية لهم، وذلك محال، فثبت أنه تعالى قديم.
[ نفي المعاني في حق الله تعالى ]
فإن قيل: فهل تقولون أن الله عالم يعلم؟ وقادر يقدر؟ وحي بحياة؟ وسميع بسمع؟ وبصير ببصر؟ وقديم بقدم؟ أم تقولون إنه عالم لنفسه وقادر لنفسه؟!
قيل له: لا نقول إنه عالم بعلم، وكذلك القول في سائر الصفات لمعاني هي: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والقدم، لم تخل هذه المعاني من أن تكون قديمة؟ أو محدثة؟ أو معدومة؟ ولا يجوز أن تكون معدومة، لأن المعدوم لا نوجب أن يكون له حكم.
ولا يجوز أن تكون محدثة، لأنها لو كانت محدثة لوجب أن يكون القديم تعالى قبل حدوثها غير عالم، ولا قادر، ولا حي، ولا سميع، ولا بصير، ولا موجود. وإن (1) لم يكن قادرا ولا عالما ولا حيا ولا سميعا ولا بصيرا ولا موجودا، لم يصح منه إحداث هذه المعاني.
ولا يجوز أن تكون قديمة، لأنها لو كانت قديمة لوجب أن تكون أمثال القديم تعالى وأشباهه، لأن كون القديم قديما من أخص أوصافه، وما يشارك الشيء في أخص
__________
(1) لعلها: وإذا.