وحكي أنه ورد عليه من كلار مسائل صعبة على أصول الهادي، فأجاب عنها، وهذه المسائل موجودة، فقال الصاحب: لست أتعجب من هذا الشريف كيف أتى بهذا السحر، وإنما أتعجب من رجل بكلار كيف اهتدى إلى مثل هذه الأسئلة (1).
وقال الشهيد حميد: ولقد حكى لي بعض أصحابنا الواصلين من ناحية العراق، وهو الفقيه الفاضل الحسن بن علي بن الحسن الديلمي اللنجائي رضي الله عنه، أنه بات ليلة من الليالي ومعه رجل من الصالحين، فبات ذلك الرجل يعبد الله عز وجل والسيد المؤيد بالله بالقرب منه، فلما طلع الفجر قام المؤيد للصلاة، فقال له ذلك الرجل: أيها السيد أتصلي بغير وضوء ؟! فقال: لم أنم في هذه الليلة شيئا، وقد استنبطت سبعين مسألة. ولقد كان علماء عصره يعجبون من تحقيقه وشدة تدقيقه. ولا عجب من أمر الله يؤتي فضله من يشاء، ولذرية الرسول صلى الله عليه وآله المزّية على من عداهم، والفضل على من سواهم.
ولقد سمعت شيخنا الفاضل العالم محيي الدين محمد بن أحمد بن الوليد القرشي الصنعاني رضي الله عنه يحكي أن السيد المؤيد بالله قدس الله روحه، لما توفي وأقبل الناس إلى أخيه السيد أبي طالب عليه السلام يسألونه، فقال له قائل: أين كان هذا العلم في حياة السيد أبي الحسين ؟! فقال: أوكان يحسن بي أن أتكلم والسيد أبو الحسين في الحياة ؟! مع أن علم السيد أبي طالب غزير، وفهمه جم كثير، على ما نحكي ذلك.
وروينا أنه قيل لأخيه السيد أبي طالب عليه السلام: أتقول بإمامة أخيك؟ فقال: إن قلنا بإمامة زيد بن علي، فما المانع من القول بإمامة أخي؟! فانظر كيف شبهه عليه السلام بأعلى الأئمة قدراً، وأغزرهم علماً، لأنا قد بيّنا أنه أقام خمسة أشهر يفسر سورة الحمد والبقرة، وذكرنا غير ذلك مما يكثر (2).
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية /269 -270.
(2) أخبار أئمة الزيدية / 268 - 269.
وقال أيضا: كان في بعض الليالي يطالع مسألة مع الملحدة الدهرية، فاشتبه عليه جواب مسألة، فأمر باتخاذ مشعلة وقصد باب قاضي القضاة، بعد قِطْع من الليل وهدوء الناس والأصوات، فأُخبر قاضي القضاة بحضوره، فاشتغل خاطره وهيأ مكاناً وجلس فيه حتى إذا دخل عليه وجاراه في تلك المسألة وانفتح له جوابها واتضح لديه ما كان منها، قال له قاضي القضاة: هلا أخّرت إلى الغد وتعنيت في هذا الوقت ؟ فقال المؤيد مغضباً من كلامه متعجبا: ما هذا بكلام مثلك !! أيجوز لي أن أبيت وقد أشكلت علي مسألة، ويمكننني أن أجتهد في حلّها ؟! فاعتذر إليه قاضي القضاة وقال: إنما ذكرت هذا الكلام على الرسم الجاري من الناس، وطيَّب قلبه وعاد إلى منزله (1).
وقال الموفق بالله: وحُكيَ أنه وقع بينه وبين قاضي القضاة وحشة واستزادة بسبب مسألة الإمامة، فتقاعد عن لقائه حدود شهر، حتى ركب إليه قاضي القضاة وقال له: قد بلغك حديث جدك الحسن بن علي وأخيه الحسين وقول الحسين: لولا أن الله فضلك في السن علي حتى أردت أن يكون السبق لك إلى كل مكرمة، لسبقتك إلى فضل الاعتذار، فإذا قرأت كتابي هذا فاسبق إلى ما كتب الله لك من حق السبق، والبس نعلك وقدِّم في العذر والصلح فضلك. فقال المؤيد بالله: قد أطاع قاضي القضاة أيضا فضل سهمه وعلمه، وعمل بمقتضى ما زاده الله من سهمه، واعتنقا وطالت الخلوة والسلوة بينهما.
وكان الصاحب يقول: الناس يتشرفون بالعلم والشرف، والعلم تشرف بقاضي القضاة، والشرف ازداد شرفاً بالشريف أبي الحسين.
وكان الصاحب يعظمه كل الإعظام، وكانت يمينه للسيد المؤيد بالله، ويساره لقاضي القضاة، وكا لا يرفع فوق المؤيد أحداً، إلى أن قدم العلوي رسولاً من خراسان وكان محتشماً عند السلطان ملك الترك الخاقان الأكبر مبجلاً عنده، حتى أن الصاحب استقبله، فلما دخل عليه أجلسه عن يمينه، فلما دخل المؤيد بالله رآه
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 271.
على مكانه فتحير، فأشار غليه الصاحب أن يرتفع إلى السرير الذي استند إليه الصاحب، فصعد المؤيد بالله إلى السرير وجلس في الدست الذي كان عليه (1).
شعره
من شعره عليه السلام قوله:
تُهذِّبُ أخلاقَ الرجالِ حوادثٌ ... كما أنَّ عينَ السَّبك يُخلصه السَّبكُ
وما أنا بالواني إذا الدهرُ أمَّني ... ومن ذا مِنَ الأيام ويحكَ ينفكُّ
بلانيَ حيناً بعد حينٍ بلوتهُ ... فلم أُلفَ رِعديداً يُنهنهُهُ السَّهكُ
وحنَّكني كَيْما يقود أزمَّتي ... فطحطحتُهُ حنكاًَ وما عقَّني الحنكُ
ليعلمَ هذا الدهرُ في كلِّ حالةٍ ... بأنّي فتى المضمارِ أصبحَ يَحتكُّ
نماني آباءٌ كرامٌ أعزَّةٌ ... مراتبُها أنَّى يُحيطَ بها الدَّركُ
فما مُدركٌ بالله يبلُغُ شأوهَم ... وإن يكُ سبَّاقاً فغايتهُ التَّركُ
فلا بَرقُهم يا صاحِ إن شِمتَ خُلَّبٌ ... ولا رفدُهم ولسٌ ولا وعدُهُم إفكُ
بهم زَهَتِ الأعرابُ في كلِّ مشهدٍ ... سكونٌ ولخمٌ ثم كِندةُ أوعكُّ
وقال عليه السلام يمدح الصاحب الكافي:
سقى عهدها صوبٌ من المُزنِ هاطلٌ ... تحيَّى به تلك الرُّبى والمنازلُ
منازلُ نجمُ الوصل فيهنَّ طالعٌ ... يُضيءُ ونجمُ الهجرِ فيهنَّ آفلُ
ومُرتبعٌ للَّهوِ بينَ ربُوعها ... مسارحُهُ مأنوسةٌ والمناهِلُ
رياضٌ حَكَتْ أبرادَ صنعاءَ رُقمُها ... غداةَ حباها الوشيَ طلٌّ ووابلُ
وكلُّ سحابٍ شافَهَ الأرض قُربهُ ... كأنَّ التِماعَ البرقِ فيه مشاعلُ
سحبنا عطافَ اللهو في عرصاتها ... وعنَّ لنا فيها غزالٌ مغازلُ
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 271 - 272.
وطابت بها الأيامُ إذ سمحتْ لنا ... بما سَمَحَت والدهرُ عنهنَّ غافلُ
وكان شبابي عاذلاً لعواذِلي ... وليس لها في أنْ تُعاتبَ طائلُ
نَعِمنا بها لم نعرفِ البؤسَ والأسَى ... فلا الجهلُ مُنتابٌ ولا الوصلُ راحلُ
كأنيَ أُغرى بالصبابةِ كُلمَّا ... وشَى بيننا الواشي ولجَّ العواذلُ
لياليَ عينُ الوصلِ فيها قريرةٌ ... كما أَنَّ دمع الهجرِ أَخرقُ هاملُ
وإذ لِمَمي للغانياتِ صوائدٌ ... ولي حَولَ ربّاتِ الحجالِ حبائلُ
أجُرُّ رِدائي صبوةً وصبابةً ... هُما شيمٌ أرضى بها وشمائلُ
إلى أن بدا للشَّيبِ بين مفارقي ... أساطيرُ لم تنهض لهنَّ أناملُ
فللأُنس عنّي حيثُ كنتُ تنكُّبٌ ... وللهمِّ حولي حيث سرتُ قنابلُ
أتانا الربيعُ الغضُّ في ثوبِ عفَّةٍ ... فجاءَ به أُنس من الغيِّ حائلُ
إذا حاول الضَّلالُ إسعافَ أهله ... فمِن دون ما يبغي مِنَ الصَّومِ خامل
كذا مَنْ يسوسُ الصاحبُ القرمُ أمرهُ ... تتمُّ له النُّعمى وتَزكو الفضائلُ
ولمَّا انتحى النَّيروزُ خدمةَ بابه ... تنسَّكَ حتى ليسَ ينحوهُ باطلُ
غَدَا سيفه الظمآنُ في اللهِ مُصلتاً ... على منكبِ الجوزاء منه الحمائلُ
وفصلُ خطابٍ لم تنله الأوائلُ ... إذا عَنَّ لم تشمخ بسحبانَ وائلُ
تبلَّجُ عنه غُرَّةُ الدين والهدى ... وشخص الرَّدى من وقعه مُتضائلُ
دعا دعوةً لله جرَّدَ سيفها ... فللكفر منها حيثُ شاء زلازِلُ
ولمَّا شكت أرضُ الجبال خطوبَها ... ولاذَت به حين اعترتها الغوائلُ
وأَذرَت دُموعاًَ مثلَ نائله الذي ... يفيضُ وهَلْ تُغني الدموعُ الهواملُ
دعا نحوها عزماً كَبَا البرقُ دونَه ... وكلَّ لديه السيفُ والسيفُ قاصلُ
فشقَّ ظلام الظُّلم عن وجه أهلها ... ولم يبقَ فيها عن سَنَا العدل عادل
وأوضح فيها للنجاةِ دلائلاً ... وقد غُمِرت تلك النُّهى والدلائلُ
ومِنْ قبلُ ما حكَّمتَ قي كل مارقٍ ... أقامَ مقامَ الرّوحِ منه المَناصل
صوارمَ واصلن الطُّلى فألِفْنَها ... وإنَّ قضايا المُرهَفاتِ فواصلُ
وشرَّدت من أبقت سيوفُك منهمُ ... ومن دونِ ما لاقوهُ تَطوي المراحِل
وليس لهم إلا السيوفُ منازلٌ ... وليس لهم إلا الحُتوفُ رواحِلُ
ألا أَيُّهذا الصاحبُ الماجدُ الذي ... أناملُه العُليا غُيوثٌ هواطِلُ
أناملُ لو كانت تُشيرُ إلى الصَّفا ... تفجَّرَ للعافينَ منها جَداول
لأَغنيتَ حتى ليس في الأرض مُعدمٌ ... وأعطيتَ حتى ليس في الأرض آملُ
وكم لك في أبناءِ أحمدَ من يدٍ ... لها مَعلَمٌ يومَ القيامة ماثلُ
إليكَ عقيدَ المجد سارت ركابُهم ... وليسَ لهم إلا عُلاكَ وسائل
فأعطيتهم حتى لقد سئموا اللُّهَى ... وعادَ من العُذَّال من هو سائل
وأسعدتَهم والنحسُ لولاك ناجمٌ ... وأَعززتهَم والذُّلُ لولاكَ شامل
فكلُّ زمانٍ لم تزيِّنه عاطلٌ ... وكلُّ مديحٍ غير مدحكَ باطلُ
ولما قال أحمد بن محمد الهاشمي المعروف بابن سُكَّرة:
إن الخلافةَ مُذْ كانتْ ومُذْ بدأتْ ... معقودةٌ بفتىً من آل عباس
إذا انقضى عُمرُ هذا قامَ ذا خلفاً ... ما لاحتِ الشمسُ وامتدَّتْ على الناس
فقلْ لمنْ يرتجيها غيرهُمْ سفهاً ... لو شِئتَ روَّحتَ كربَ الظنِّ بالياسِ
فأجابه السيد المؤيد بالله قدس الله روحه في حال حداثته:
قُلْ لابن سُكرةٍ يا نَغْلَ عباس ... أَضحتْ خلافتكُم منكوسَةَ الراسِ
أمَّا المطيعُ فلا تُخشَى بوادِرُهُ ... يعيشُ ما عاشَ في ذُلٍّ وإتعاسِ
فالحمدُ لله رَبِّي لا شريك له ... خصَّ ابنَ داعي بتاجِ العّزِ في الناسِ(1)
فأحوج المؤيد بالله إلى مفارقة جيلان وامتد إلى الري وأنشد:
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 274 - 280.
فررتُ من العُداة إلى العُداةِ ... وكنتُ عددتُهم زُمَرَ الثِّقاتِ
لقد خابتْ ظنوني عند قومٍ ... يرونَ محاسِني من سَيِّئاتي
يُهِيجونَ الغُواةَ عليَّ هيجاً ... وهم شَرٌ لديَّ من الغُواةِ (1)
ورعه وزهده وحلمه
كان عليه السلام في الورع والتقشف والاحتياط والتقزز إلى حد تقصر العبارة دونه، والفهم عن الإحاطة به. وتصوَّف في عنفوان شبابه حتى بلغ في علومهم مبلغاً منيعاً، وحل في التصوف والزهد محلاً رفيعاً، وصنف سياسية المريدين. وكان عليه السلام يحمل السمك من السوق إلى داره، وكانت الشيعة يتشبثون به ويتبركون بحمله فلا يمكِّن أحداً من حمله، ويقول: إنما أحمله قسراً للهوى وتركاً للتكبر، لا لاعواز مَن يحمله. وكان قدس الله روحه يجالس الفقراء وأهل المسكنة، ويكاثر أهل الستر والعفة ويميل إليهم، ويلبس الوسط من الثياب القصيرة إلى نصف الساقين قصيرة الكمين. وكان يرقع بيده قميصه، ويشتمل بإزارٍ إلى أن يفرغ من إصلاحه. وكان يلبس قلنسوة من صوف أحمر مبطنة يحشوها بقطن، ويتعمم فوقها بعمامة صغيرة متوسطة. وكان يلبس جورباً يخيطه من الخِرَق ثم يلبس البطيط. وكان لا يتقوَّت ولا يُطعم عياله إلا من ماله. وكان يردّ الهدايا والوصايا إلى بيت المال، وكان يكثر ذكر الصالحين، وإذا خلا بنفسه يتلو القرآن بصوت شجي حزين. وكان غزير الدمع، كثير البكاء، دائم الفكر، يتأوّه في أثنائه، وربما تبسَّم أوكشر عن أسنانه.
قال القاضي يوسف: صَحبته ست عشرة سنة فلم أره مستغرقاً في الضحك. وكان لا يفطر في شهر رمضان حتى يفرغ من العشاء الآخرة. وكان يداوم على الصلاة بين العشائين، ويُطعم في شهر رمضان كثيراً من المسلمين. وكان يمسك بيت المال
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 282 - 283.
بيده ويحفظه بنفسه ولا يثق فيه بأحد، ويفرّق على الجند بيده، ويوقّع في الخطوط بيده.
ويُحكى أنه رضي الله عنه اشتهى يوماً من الأيام لحمَ حوت، فبعث الوكيل إلى السماكين فلم يجد فيها إلا حوتاً لم يقطع، وقالوا: لا نريد أن نقطعه اليوم، فعاد إليه وأخبره بامتناعهم من قطعه. فوجّه به ثانياً وقال: مرهم عني بقطعه، فأبوا بقطعه، فلما عاد إليه حمد الله على أن رعيته لا تحذر جنبته، وأنه عندهم ورعاياه سواء.
وكان قدس الله روحه كثير الحِلْم عظيم الصفح. يُحكى أنه دخل المتوضأ ليجدد الطهارة فرأى فيه رجلاً متغير اللون يرتعد فزعاً، فقال له: ما دهاك ؟ فقال: إني بعثت لقتلك. قال: وما الذي وَعَدُوك عليه، قال: بقرة، قال: ما لنا بقرة، وأدخل يده في جيبه وناوله خمسة دنانير وقال: اشتر بها بقرة ولا تعُد إلى مثل ذلك.
وحُكي أنه قدس الله روحه كان يسير في طريق كلار فطلب ممِطَراً له من بُندار صاحبه، فقال: هو على بغل لبيت المال، فأنكر عليه وقال: متى عهدتني أستجيز حمل ملبوسي على دواب بيت المال ؟ فأمر بإخراجه وتوفير الكراء من ماله. وكان يصرف عليه السلام من خاص ماله إلى بيت المال ما يكون عوضاً عما يرسله الكتّاب في أول الكتب وتفرجه بين السطور إلى الكبار.
وحكي أن شيئاً من المقشَّر حُمل إلى داره لصرفه في مصالح المسلمين، فالتقط منه حبّاتٍ بعضُ الدجج التي تُقتنى لأكله خاصة، فغرم من ماله أضعاف ذلك، وقيل: إنه صرف الدجج إلى بيت المال.
ورورى أن ولده الأمير أبا القاسم شكا إليه ضيق يده وقلة نصيبه من بيت المال، واستأذنه في الإنصراف، فأطلق له ذلك، فقال له أصحابه: إن أبا القاسم فارس فَارِهٌ ولا غنى عن مثله، فلو أطلق له ما يكفيه، فقال: إني أدرّ عليه ما نَصيبه ولا يمكن الزيادة عليه، فإن الله سبحانه أمر بالتسوية بين الأولاد والأجانب.
وكان له صديق يتحفه كل سنة بعدد من الرمان، فلما كان في بعض السنين زاد على رسمه وعادته، فسأله عن ذلك؟ فقال: لأن الله زاد في رماننا فزدنا في رسمك.
فلما أراد الخروج شكا عن بعض الناس، فقال: رُدّوا عليه رمانه كله، وأمر بإزالة شكايته ودفع الأذى عنه، إلى غير ذلك من الحكايات الجمة في ورعه وزهده وتقشفه (1).
جهاده
عاش المؤيد بالله في عصر يموج بالفوضى والفتن، يحكمه الاستبداد السياسي، وتتقاسمه الدويلات المتنازعة الخارجة على بني العباس بعد ضعف دولتهم المركزية، وحصادهم نتائج استبدادهم وجورهم وتحكمهم في مصائر البلاد والعباد، وجعلهم مال الله دولا وعباده خولا.
وقد نهض المؤيد بالله داعياً إلى الله، خارجاً على الظلمة، فكان أول خروج له سنة (380هـ) قبل وفاة الصاحب بن عباد بأربع سنوات، وفشلت حركته، فخلصه الصاحب من انتقام بني بويه الذين كانوا يحكمون الجيل والديلم في تلك الفترة. ثم عاد مرة أخرى فقام بالإمامة وبايعه الجيل والديلم واستتب له الأمر في تلك البلاد فترات، وخرج من يده فترات أخرى، وخاض حروباً طاحنة، وجابه معارضين أشداء، منهم: أبو الفضل بن الناصر. وتغلب عليه السلام على (( هوسم )) ثم هزمه (( شوزيل ))، فعاد إلى الري، ومكث بآمل حتى جاءته الكتب بمناصرة الجيل والديلم، فعاد وافتتح مدينة هوسم، ثم افتتح آمل، وبقي عليه السلام في كر وفر وجهاد يطول شرحه، حتى توفاه الله يوم عرفة سنة (411هـ) (2).
منهجه في الحكم
أما عن منهجه في الحكم ورؤيته للسلطة فيمكن أن يتبينه القارئ من كتاب دعوته الذي ضمنه المبادئ والأفكار التي قام من أجلها، والذي حدد فيه ما يجب عليه تجاه المجتمع، وما يجب له إن عدل من الطاعة.
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 263 - 265.
(2) يرجع في ذلك إلى الحدائق الوردية 2/ 73 - 78.
قال: عباد الله إني رأيت أسباب الحق قد مرجت، وقلوب الأولياء به قد خرجت، وأهل الدين مستضعفين في الأرض، يخافون أن يخطفهم الناس، ورأيت الأموال تؤخذ من غير حلها، وتوضع في غير أهلها، ووجدت الحدود قد عطلت، والحقوق قد أبطلت، وسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بدلت وغيرت، ورسوم الفراعنة قد جددت واستعملت، والآمرين بالمعروف قد قلوا، والناهين عن المنكر قد وَهنوا فذلوا، ووجدت أهل بيت لانبي صلى الله عليه وآله وسلم مقموعين مقهورين مظلومين، لا يؤهلون لولاية ولا شورى، ولا يتركون ليكونوا مع الناس فوضى، بل منعوهم حقهم، وصرفوا عنهم فيهم، فهم يحسبون الكف عن دمائهم إحسانا إليهم، والانقباض عن حبسهم وأسرهم إنعاماً عليهم، يطلبون عليهم العثرات، ويرقبون فيهم الزلات، ووجدتهم في كل واد من الظلم يهيمون، وفي كل مرعى من الضلال يسيمون بعضه بعضا، وأموال تنهب نهباً، لا يرقبون في مؤمن ألاًّ ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون، { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [النساء:10].
ووجدت الفواحش قد أقيمت أسواقها وأدية نفاقها، لا خوف الله يُذع، ولا حتى الناس يمنع، بل يتفاخرون بالمعاصي، ويتنابزون ويتباهون بالإثم، قد نسوا الحساب، وأعرضوا عن ذكر المآب والعقاب، فلم أجد لنفسي عذراً أن قعدت ملتزماً أحكامهم، متوسط آثامهم، أونسهم ويونسوني، وأسالمهم ويسألموني، فخرجت أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين.
أيها الناس أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، والرضى من آل محمد، ومجاهدة الظالمين، ومنابذة الفاسقين، وإني كأحدكم لي ما لكم وعلي ما عليكم، إلا ما خصَّني الله به من ولاية الأمر، يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأحقاف:31]، استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مردّ له من الله، ما لكم من ملجأ يومئذ، وما لكم من نكير، تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول.
أيها الناس سارعوا إلى بيعتي، وبادروا إلى نصرتي، وازحفوا زحفاً إلى دار هجرتي، انفروا خفافاً وثقالا، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، ولا تركنوا إلى هذه الدنيا وبهجتها، فإنها ظل زائل، وسحاب حائل، ينقضي نعيمها، ويضعن مقيمها، والآخر خير وأبقى أفلا تعقلون، وإن الدار الآخرة لهي الحياة لو كانوا يعلمون، تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين.
أيها الناس مهما اشتبه عليكم فلا يشتبه عليكم أمري، أنا الذي عرفتموني صغيرا وكبيرا، وزاحمتموني طفلا وناشئا وكهلا، قد صحبت النساك حتى نسبت إليهم، وخالطت الزهاد حتى عرفت فيهم، وكاثرت العلماء، وحاضرت الفقهاء، فلم أخل عن مورد ورده عالم بارغ، ومشرع شرع فيه متقن فارع، وجادلت الخصوم نصحاً عن الدين ونضالاً عن الحق المبين، حتى عرفت مواقفي، وكتبت وحفظت طرائقي، وأثبت هذا وما أثري نفسي في أثناء هذه الأحوال، ومجامع هذه الخصال، من تقصير وتعذير، ولا أزكيها بل أتبرأ إلى الله من حولها وقوتها، وإن جميع ذلك من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم.
وأما نسبي إلى جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدونه فلق الصباح، ولا عذر لكم أيها الناس في التأخر عني، والاستبداد دوني، وقد ناديت فأسمعت لتجيبوا دعوتي، وتنجروا لنصرتي، وتعينوني على ما نهضت له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ } [المائدة:78]، { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران:110]، ألا فاعينوني على أمري، وتحرَّوا بجهدكم نصرتي، أوردكم خير الموارد، وأبلغكم أفضل المحامد.
عباد الله أعينوني على إصلاح البلاد، وإرشاد العباد، وحسم دواعي الفساد، وعمارة مناهل السداد، ألا ومن تخلف عني وأهمل بيعتي، إلا لسبب قاطع أو لعذر مانع بين الحجة، فإني أجاثيه للخصام يوم يقوم الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين