أطمع أن أنال الجنة بغير عمل، ولا أشك في أن من أساء وظلم منا ضوعف له العذاب، وأنا ولد الرجل الذي دل على الهدى، وأشار إلى أبواب الخير، وشرع هذه الشرائع، وسن هذه السنن والأحكام، فنحن أولى الخلق باتباعه، واقتفاء أثره، واحتذاء مثاله، والإقتداء به) (1).
الإمام الرياضي
لم يكن الإمام الناصر يعمل على إصلاح القلوب وهداية العقول فحسب، بل كان يرى أن بناء الأجسام ورياضتها، لتقوى على مقارعة الأقران، والدفاع عن الدين من الأهمية بمكان، فكان يلعب بالكرة معتليا صهوة جواده، قبل البدء في إملاء الحديث، والعلماء والفقهاء ينتظرونه، وقد جاوز السبعين عاما.
قال أبو طالب: وكان له مجلس للنظر، ومجلس لإملاء الحديث، وكان يركب إلى طرف البلد، ويضرب بالصولجان للرياضة (2) فإذا ركب اجتمع فقهاء البلد، وأهل العلم كلهم إلى المصلى، وجلسوا فيه، فإذا فرغ من ذلك عدل إليهم، وجلس وأملى الحديث (3).
__________
(1) الحدائق الوردية 2/32.
(2) الصولجان: عصا يعطف طرفها، يضرب بها الكرة على الدواب. انظر لسان العرب مادة: صلج. وتسمى بالإنجليزية: Sceptre.
(3) الإفادة /160.

جواز قيام إمامين في قطرين متباعدين
كان قيام الإمام الناصر بأمر الإمامة في الجيل والديلم، متزامنا مع قيام الإمام الهادي عليه السلام في اليمن، وهذا - أعني قيام إمامين في عصر - هو رأي بعض الزيدية إذا كانا في قطرين متباعدين، وكان بين الإمامين من المودة والإجلال والنصرة، والنصحية أمر عظيم.
وبويع الإمام الناصر سنة (287هـ) بعد قيام الإمام الهادي، وظهوره في اليمن بخمس سنين.
قال الإمام الناصر حاثا على نصرة الإمام الهادي: من يمكنه أن ينصره، وقرب منه فنصرته واجبة عليه، ومن تمكن من نصرتي، وقرب مني فلينصرني (1).
وكان للإمام الهادي مكانة كبيرة في نفس الإمام الناصر، وكان يحسبه من أئمة الهدى.
قال أبو طالب: حدثني رحمه الله - يعني أبا العباس الحسني - عن علي بن سليمان أنه قال: حضرنا إملاء الناصر الحسن بن علي عليه السلام في مصلى آمل، فجرى ذكر يحيى بن الحسين عليه السلام، فقال بعض أهل الرأي - وأكثر ظني أنه أبو عبد الله محمد بن عمرو الفقيه -: كان ذلك والله فقيها، قال: فضحك الناصر، وقال: كان ذاك من أئمة الهدى (2)!!
__________
(1) الإفادة /154.
(2) الإفادة /134.

وحدثني رحمه الله قال: سمعت أبا محمد الزركاني رحمه الله يقول: إنهم كانوا مع الناصر رضي الله عنه بالجيل قبل خروجه، فنعي إليه يحيى بن الحسين عليه السلام، فبكى بنحيب ونشيج، ثم قال: اليوم انهد ركن الإسلام، فقلت: ترى أنهما تلاقيا لما قدم يحيى بن الحسين طبرستان؟ قال: لا (1).
وأحفظ ولم أعد أذكر المصدر أن الإمام الهادي سئل عن الإمام الناصر للحق فقال: عالم آل محمد، كبحر زاخر بعيد القعر.
فكانا كفرسي رهان، يتسابقان على الخير والجهاد، وكان الناس ينظرون إليهما هذه النظرة، حتى قال أحدهم:

عرج على قبر بصعدة ... وابك مرموسا بآمل
واعلم بأن المقتدي بهما ... سيبلغ حيث يأمل

وفاته
وكان من آخر ما قاله الإمام الناصر عليه السلام من الشعر قصيدة أولها:

أناف على السبعين ذا الحول رابع ... ولا بد لي أني إلى الله راجع
وصرت إلى حد تقومني العصا ... أَدبُّ كأني كلما قمت راكع

توفي عليه السلام بآمل، وهو ساجد ليلة الجمعة (25) شعبان سنة (304هـ) وله (74) سنة، ودفن بآمل، وقبره مشهور مزور.
رثاه ولده أبو الحسن بقصيدة مطلعها:
__________
(1) الإفادة /134.

أيحسن بي أن لا أموت ولا أضنى ... وقد فقدت عيناي من حسن حسنا

وقصيدة أخرى مطلعها:

دم الجوف يجري في الحشا متصعدا ... فينهل دمعا صافيا متبددا

أولاده
أبو الحسن علي الأديب الشاعر أمه أم علي بنت عمه.
وأبو القاسم جعفر، وأبو الحسين أحمد، أمهما نقش، وكانت نقش هذه جارية أهدتها امرأة جستان إلى الناصر.
وأم الحسن، وهي فاطمة، وأم محمد، ومبارك، وأم إبراهيم، وميمونة.
الناصرية
والإمام الناصر عليه السلام أولا وأخيراً صاحب مدرسة فقهية متميزة بين مدارس الفقه الزيدي، وإمام مذهب تنسب إليه فرقة تسمى: (الناصرية) تضارع المدرسة (القاسمية) وهما أعظم مدرستين في المذهب الزيدي، والمدرسة الناصرية جديرة بدراسة ضافية، لإبراز جوانب العظمة فيها، أرجو أن يتيسر لي ذلك لاحقا إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.

الكتاب
حصلت على نسخة مطبوعة عام (1953م) في إيطاليا. طبعها أحد المستشرقين الإيطاليين، من الأخ الباحث حسن أنصاري أحد أعضاء دائرة المعارف الإسلامية بإيران عام (1996م).
فريت إعادة طبعها لإحياء تراث الزيدية المطمور، وخاصة زيدية الجيل والديلم.
بَيدَ أني لم أحصل على نسخة أخرى، إلا أني اطمئننت لصحة النص، لأنه مطبوعة على نسخة مصححة للإمام يحيى حميد الدين كما هو موضح في نماذج النسخة المطبوع عليها.

والكتاب صورة واضحة عن المعاصر: البلدية والتموين، وشرطة الآداب العامة، أو هيئات الأمر بالمعروف والمنكر، وجميعات حماية المستهلك، وغيرها من الوظائف الاجتماعية التي تنظم الشئون المدنية، والكتاب بحاجة إلى دراسة مستفيضة أرجو أن يتيسر لي ذلك لاحقا. والحمد لله رب العالمين.واجبات الحاكم الدينية والاجتماعية في فطر الزيدية.
والحسبة توازي بمفهومنا
عبد الكريم أحمد جدبان
اليمن _ صعدة
9 / جمادى الأولى /1422هـ
الموافق 29 / 7 /2001م
- - -

l
[أهمية المحتسب]
قال الإمام الناصر عليه السلام في ( جوامع النصوص ) : إني تأملت ما يسأل السائل عنه من المسائل والمعاني التي يحتاج المحتسب أن يكون عالماًَ بها، وعرفت وجه الحاجة إلى تبصّرٍ مِن ولاة الحسبة، بالتقدم بعلم أو بحجة عن معرفة، فلعمري إن التبصر لواجب، وإن عمل الحسبة عمل دقيق، ومن يعنى بمعانيها وأخذها بحقها لقليل. فهي عندي تمام القضاء وأصل المعرفة، وعمادها المعرفة بالله سبحانه وتعالى، ونسأله المعونة على ما يرضيه، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله الطاهرين وسلم.
وقد أجمع علماء أهل البيت عليهم السلام أنه لا بد من محتسب في كل مصر من أمصار المسلمين، وأنه لا يتولاها (1) إلا عالم مجرب. فإنه يقع في علمه من الأحكام التي يؤخذ بها الناس ما لا يقع في عمل الحكام.
وإنما يسمى المحتسب: محتسباً، لأنه محتسب في أموره ما يرضى به الله سبحانه وتعالى.
حدثني محمد بن منصور، عن عباد بن يعقوب، عن حسن بن زيد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام،
__________
(1) في الأصل: لا يوالاها. وما أثبت اجتهاد.

عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر )) (1).
[تشريعات للأسواق]
يجب أن يكون المحتسب متفقداً لأحوال السوق، فيغدو في كل غداة على جميع الأسواق، كما كان يفعل أمير المؤمنين علي عليه السلام، فإنه كان يجيء إلى البزازين فيقول: (( يا معشر التجار لا تنقصوا من ذراعكم، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تكذبوا (2) في شريتكم وبياعتكم، فمن فعل شيئا مما (3) نهي عنه عوقب على ذلك بحبس أو ضرب، بعد ما يؤخذ لصاحبه الحق )) (4). وكان علي بن
__________
(1) في الأصل: ((أمروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر بلى منكر فنحن )). لعلها زيادة تصحيف.
(2) في الأصل: تكدوا. وما أثبت اجتهاد.
(3) في الأصل: لما. وما أثبت اجتهاد.
(4) وكان علي عليه السلام بالكوفة يغتدي كل بكرة فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً ومعه الدرة على عاتقه وكان لها طرفان وكانت تسمى: السبيبة. قال: فيقف على أهل كل سوق فيناديهم: يا معشر التجار قدموا الاستخارة، وتبركوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، قال: فيطوف في جميع أسواق الكوفة ثم يرجع فيقعد للناس. من لا يحضره الفقيه 3/194.
وعن أبي جعفر قال: كان علي عليه السلام كل بكرة يطوف في أسواق الكوفة سوقا سوقا ومعه الدرة على عاتقه، وكان لها طرفا، وكانت تسمى: السبيبة، فيقف على سوق سوق فينادي: يا معشر التجار قدموا الاستخارة، وتبركوا بالسهولة،و اقتربوا من المبتاعين، وتزينوا بالحلم، وتناهوا عن الكذب واليمين، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، يطوف في جميع أسواق الكوفة فيقول هذا، ثم يقول:
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها ... من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها ... لا خير في لذة من بعدها النار
الأمالي للصدوق /498.
وأخرج ابن عساكر: أن عليا كان يمشي في الأسواق وحده، وهو والٍ يرشد، ويعين الضعيف، ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن، ويقرأ: { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا }. تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي 3/249(1267)، وهو في كنز العمال 15/159.

أبي طالب عليه السلام يأتي أصحاب الحبوب فيقول: (( لا تبخسوا مكاييلكم وأوزانكم ولا تغشوها )) (1). وكان عليه السلام يجيء إلى اللحامين فيقول: (( لا تنفحوا في اللحم فإنه ضار، ولا تشرخوه فإنه يرفع البركة، ولا تبيعوا لقمة الشيطان - يعني الطحال - )) (2).
__________
(1) لم أقف على هذه الرواية.
(2) روى الإمام الهادي نحوه فيما يخص الطحال. الأحكام 2/ 403.
وعن الأصبغ بن نباتة قال: خرجنا مع علي عليه السلام حتى أتينا التمَّارين فقال: لا تنصبوا قوصرة على قوصرة، ثم مضى حتى أتينا إلى اللحامين فقال: لا تنفخوا في اللحم، ثم مضى حتى أتى إلى سوق السمك فقال: لا تبيعوا الجري ولا المارماهي ولا الطافي، ثم مضى حتى أتى البزازين فساوم رجلا بثوبين ومعه قنبر فقال: بعني ثوبين. فقال الرجل: ما عندي يا أمير المؤمنين فانصرف حتى أتى غلاما فقال: بعني ثوبين فماكسه الغلام حتى اتفقا على سبعة دراهم، ثوب بأربعة دراهم وثوب بثلاثة دراهم، فقال لغلامه قنبر: اختر أحد الثوبين فاختار الذي بأربعة ولبس هو الذي بثلاثة دراهم، وقال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في خلقه، ثم أتى المسجد الأكبر فكوم كومة من حصباء فاستلقى عليها فجاء أبو الغلام فقال: إن ابني لم يعرفك وهذان درهمان ربحهما عليك فخذهما، فقال علي عليه السلام: ما كنت لأفعل ماكسته وماكسني واتفقنا على رضى. بحار الأنوار 76/ 310.

وأجمع علماء آل الرسول عليه وعليهم السلام أنه كان (( نهى اللحامين عن بيع النخاع (1) والدم المسفوح والغدة الظاهرة والقضيب والخصي والمرارة والِمعَا )) (2). فهذا يجب أن يعرف به أهل
__________
(1) في الأصل: ال. ولعل ما أثبت هو الصواب، سيما مع ذكره في الرواية.
(2) عن أبي يحيى الواسطي قال: مر أمير المؤمنين عليه السلام بالقصابين فنهاهم عن بيع سبعة أشياء من الشاة، نهاهم عن بيع: الدم، والغدد، وآذان الفؤاد، والطحال، والنخاع، والخصي، والقضيب. فقال له بعض القصابين: يا أمير المؤمنين ما الكبد والطحال إلا سواء. فقال له: كذبت يا لكع ائتوني بتورين من ماء أنبئك بخلاف ما بينهما، فأتي بكبد وطحال وتورين من ماء، فقال عليه السلام: شقوا الطحال من وسطه وشقوا الكبد من وسطه، ثم أمر عليه السلام فمُرِسا في الماء جميعا فابيَّضت الكبد ولم ينقص شيء منه ولم يبيَّض الطحال، وخرج ما فيه كله وصار دما كله، حتى بقي جلد الطحال وعرقه، فقال له: هذا خلاف ما بينهما، هذا لحم وهذا دم. الكافي 6/254. وأخرج نحوه الطوسي في التهذيب9/74، والصدوق في الخصال2/34.

4 / 9
ع
En
A+
A-