ذو منصب ناء عن الأ ... دناس يغنيني صيانه
ومؤمل ذي نخوة ... في الحرب جم خُنزُوانه
من شأنه قطع الكما ... ة لدى الوغى رعف سنانه
غادرته متجدلا ... ودماء مفرقه دهانه
بالله ربي ما استغثـ ... ت وما أنا لولا حنانه
وقال مرثيا محمد بن زيد بعد مقتله:
الدين والدنيا تظل تفجع ... أَمَ انْتَ على الداعي تبكي وتجزع
فقم فانعه للشرق والغرب معلنا ... فقد وقع الخطب الذي يتوقع
فلا رزء إلا رزؤه منه أفظع ... ولا يوم إلا يومه منه أشنع
أصيب به الإسلام فانهد عرشه ... وأضحت له أركانه تتضعضع
عفت سبل المعروف بعد محمد ... وغادر وهنا في العلى ليس يرفع
ومات فمات الحزم والبأس والندى ... ومن كان في الدنيا يضر وينفع
وكانا به حيين طول حياته ... فقد أصبحوا ماتوا جميعا وودعوا
فإن أبك لا أبكي عليه تكلفا ... وإن أصطبر عنه فللصبر أوجع
ففقدانه أنسى فؤادي عزاءه ... وعلمني من بعده كيف أجزع
لقد أَمِنت نفسي الرزايا فلا أرى ... وإن جل خطب بعده أتوجع
وزال لمثواه عنِ امِّة جده ... وعترته طود من العز أمنع
تحوطهمُ كف عليهم شفيقة ... وعين له إن يهجعوا ليس تهجع
تفرق من بعد التآلف شملهم ... وكان به شمل النبوة يجمع
تساوى الورى في هلكه بعد ملكه ... فكلهمُ فيه معزًّى مفجع
فلم أر إلا ضاحكا في حياته ... ومذ مات إلا باكيا يتوجع
فلا عذر إذ لم يدفع الموت دونه ... وكنا به ريب الحوادث ندفع
على أنه لو شاء نجاه سيفه ... وطِرفٌ كلمح البرق أو هو أسرع
ولكن أبى إلا التأسي بعصبة ... لآل رسول الله بالطف صُرَّع
ولما رأى أن الفرار خزاية ... وأن سبيل الموت للحر أوسع
فأرسى جنانا لا يهال إلى الردى ... ولا هو مما يفزع الناس يفزع
فما زال يحمي عرضه وذماره ... ويشرع في خوض المنايا ويكرع
تناهبه زرق الظبا حشاشة ... لها سائق منه إلى الموت أسرع
ولو لم يخنه سيفه بانقطاعه ... لظلت به أعداؤه تتقطع
فَخَرَّ ولم يدنس من العار وجهه ... كما لاح برق في دجى الليل يلمع
وما مات حتى مات من خوفه العدا ... وكانت به في نومها تتفزع
ولله ما ذا ضم حول ضريحه ... وأعجب منه كيف لا يتصدع
وكانت به الدنيا تضيق برحبها ... تظل وتمسي منه تخشى وتطمع
تروح المنايا والعطايا بكفه ... سجالا على الأدنى ومن هو أشسع
أظل الورى إنعامه وانتقامه ... يعز مواليه وعاصيه يقمع
ومنها:
فإن أفرح الأعداء مصرع موته ... فقد طال ما عاشوا وهم منه فجع
فقلت لهم لا تشمتوا بمصابه ... فما منكم إلا له الموت مشرع
فخير المنايا ميتة السيف في الوغى ... كما خير عيش ما عدا السيف يمنع
ومنها:
فبالسيف محيانا ومنه مماتنا ... كذا السيف بالأخيار ما زال يولع
لقد عاش في الدنيا جميلا ممنعا ... ومات كريما عن حمى الدين يمنع
فيا راكبا بلِّغ سلاما ورحمة ... بجرجان قبرا ظل للبر يجمع
بعقوته حل ابن زيد محمد ... فحل بلاء بالبرية مفظع
وأضحت بقاع الأرض فيه تنافست ... وودت جميعا أنها هي مضجع
فصلى عليه الله ما ذر شارق ... وناح حمام في ذرى الأيك يسجع
فأقسمت لا ينفك قلبي مفجعا ... عليه وعيني ما دجى الليل تدمع
وقد ذكرتها بطولها لبلاغتها، وحسن سبكها، وللتدليل على حسن المودة التي كانت بينهما، وتعظيم الناصر للداعي محمد بن زيد خلافا لما سبق وأوردناه من رواية الإفادة، سيما وأنه قد مدحه في حياته أيضا (1).
وقال مبديا أسباب قيامه ودعوته، وما كان عليه الناس قبل قيامه:
ولما رأيت اعتداء العباد ... وإظهارهم كل ما لا يحل
وعقد الإمامة للفاسقين ... وكل ظلوم ضلول مضل
وخمس ذوي الخمس ما بينهم ... لِلَهو له دولة مبتذل
وكال لهم علل من دِمَا ... بني المصطفى بعد ورد نهل
نهضت ولم أبتئس بالذي ... من الأهل أو غيرهم قد خذل
لتجديد دين الإله الذي ... أراه بجور الورى قد شمل
__________
(1) انظر الشافي 1/300.
على الله في كل ما قد أروم ... وأسعى لإصلاحه أتكل
وما الله عن خلقه غافل ... ولا الله عن خلقه قد غفل
وهي طويلة ... إلى أن قال فيها:
وجستان أعطى مواثيقه ... وأيمانه طائعا في الحفل
وليس يظن به في الأمور ... إلا الوفاء بما قد بذل
وإخوته وثَّقوا عهدهم ... وقواده رجل عن رجل
وما في مودتهم شبهة ... ولا في وفائهمُ من خلل
فمَن هَمَّ منهم بنقض العهود ... ففي عون ربك منه بدل
فقد يحمل المرء ما لا تطيق ... السماء احتمالا له والجبل
فإني لآمل بالديلمين ... حروبا كبدر ويوم الجمل
حروبا ترى عندها الوالدان ... بأولادهن سماحا ذهل
تشيب الغلام وتجلي الظلام ... وتبدي حجول ذوات الحجل
همُ الأسد حين تطير القلوب ... وتبدي نيوب حروب العضل
وقال في بعض معاركه راجزا:
شيخ شرى مهجته بالجنة ... واستن ما كان أبوه سنه
ولم يزل علم الكتاب فنه ... يقاتل الكفار والأظنه
بالمشرفيات وبالأسنة
وقال متحدثا عن يقينه وإيمانه:
أرتني أهوال المعاد بصيرتي ... وتصديق وعد الغيب رأي عيان
فأيقنت أني بالذي قد كسبته ... مدين فقلبي دائم الخفقان
وأن وعيد الله حق ووعده ... فمن موبق أو فائز بجنان
فأعلنت بالتوحيد والعدل قائلا ... وأظهرت أحكام الهدى ببيان
وقال:
فلا تكن الدنيا لهمك غاية ... تناول منها كل ما هو دان
ويكفيك قول الناس فيما ملكته ... لقد كان هذا مرة لفلان
وقال مبديا أسباب قيامه ودعوته:
فخشيت أن ألقى الإله وما ... أبليت في أعدائه عذري
أو أن أموت على الفراش ضنى ... موت النساء أجر في القبر
وعلمت أني لا أزاد بما ... آتي وينقص من مدى عمري
فشريت للرحمن محتسبا ... نفسا لدي عظيمة القدر
أجري إلى غايات كل علا ... مثلي إلى أمثالها يجري
لأنال رضوان الإله وما ... فيه الشفاء لعلة الصدر
في فتية باعوا نفوسهم ... لله بالباقي من الأجر
صبروا على عفر الخدود وما ... لاقوا من البأساء والضر
يا رب فاحشر أعظمي ودمي ... من بطن أم فراعل غبر
أو ثعلب أو جوف ثعلبة ... أو قضب ذيب أو معا نسر
وقال متوجعا لمصائب أهل البيت عليهم السلام:
وبي لأحوال بني المصطفى ... هم له شف وتبريح
عاداهم الخلق فذو نسكهم ... بالهم مغبوق ومصبوح
في كل أرض منهم طاهر ... له دم في الناس مسفوح
وميت في الحبس ذو حسرة ... وموثق بالقيد مذبوح
وهالك يندب في أهله ... أفلت منه وهو مجروح
لم ينقموا منهم سوى أنهم ... السادة الطهر المراجيح
دعوا إلى الله فنجواهم ... في الليل تقديس وتسبيح
وقال عند دخوله الديلم وشروعه في الدعوة:
ولما أصبنا بشيخ العشيرة ... وابن علاها ومنانها
وآسفنا مِلْعِدى مؤسف ... من أغتام علج خراسانها
نصبنا لهم مدرها في الخطوب ... طبا بها قبل حدثانها
حلاحله يستدبن الرجال ... ويقضي فوادح أديانها
فلما تبين أسبابه ... وأبصر فرصة إمكانها
نجا جبل الديلمين المنيف ... يدعو إلى الله رحمانها
فساعد منهم بها عصبة ... كأسد العرين بخفانها
ولا هرجات ومرقالها ... يزجي المنايا بفرسانها
وأقبل يرقل في جمعه ... بنخبة فتيان جيلانها
وليلى أجاب ولم ينتظر ... وثار بأصحاب نعمانها
ونلنا المنى بأبي جعفر ... وفارسها ليث شبانها
فسالت عساكرنا كالأتي ... يضيق بها رحب قيعانها
وقال متحدثا عن نفسه وما يعانيه:
لهفات جم وساوس الفكر ... بين الغياض فساحل البحر
يدعو العباد لرشدهم وكأن ... ضربوا على الآذان بالوقر
فترادف الأحزان ذو جزع ... مر مذاقتهن كالصبر
متنفس كالكير ألهبه ... نفخ العيون وواقد الجمر
أضحى العدو عليه مجتهدا ... ووليه متخاذل النصر
متبرم بحياته قلق ... قد مل صحبة أهل ذا الدهر
الإمام الفارس الشجاع
لا غرو من اقتحام الإمام الناصر لهوات الحرب، وميادين البطولة غير هياب ولا وجل، فتلك الشجاعة النادرة، والفروسية الباهرة، لم تأته من فراغ، فهو سليل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، وفرسان الجهاد والبسالة، وابن صاحب ذي الفقار.
كان في الشجاعة وثبات القلب بحيث لا تهوله الجنود، ولا يفزعه العسكر المحشود، يخوض الغمرات، ويصرع الكماة، ويحطم الوشيح، ويثلم الصفائح، وكم له من مقامات مشهودة مشهورة، فاز فيها بالشرف الطائل، وكان يرد بين الصفين متقلدا مصحفه وسيفه، ويقول: قال أبي رسول الله صلى الله عليه وآله: (( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ))، ثم يقول: فهذا كتاب الله، وأنا عترة رسول الله صلى الله عليه وآله، فمن أجاب إلى هذا وإلا فهذا (1).
__________
(1) الحدائق 2/32.
بلغ عدد القتلى في معركة من معاركه نحو عشرين ألفا (1).
الحاكم العادل
دخل الناصر الجيل والديلم، والناس يرزحون تحت حكم آل وهشوذان، يحكمونهم بالعسف والجور والإستعباد، فأزال تلك الرسوم الجائرة، واستنقذهم مما كانوا فيه من الضيم في الأنفس والأولاد والأموال، وحكم فيهم بالعدل والقسط.
قال في آخر خطبة له: (وأنتم أيضا معاشر الرعية، فليس عليكم دوني حجاب، ولا على بابي بواب، ولا على رأسي خلق من الزبانية، ولا علي أحد من أعوان الظلمة، كبيركم أخي، وشابكم ولدي، لا آنس إلا بأهل العلم منكم، ولا أستريح إلا إلى مفاوضتكم) (2).
روي أن بعض عماله ممن رضيه من عمال آل طاهر، حمل إليه ستمائة ألف درهم، فامتنع من أخذها، وأمر بإخراجها من البيت، فقال له الرافع: كان آل طاهر عدولا، والناس راضون بذلك فما عليك في أخذها ؟! فقال: أنا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله لا ابن طاهر (3).
__________
(1) الإفادة /155.
(2) الحدائق 2/31.
(3) الحدائق 2/32.
ونادى غلاما له يسمى جبرا ثلاث مرات فلم يجبه، فلما أطال عليه قال مجيبا: (مره) أي: لا تعش، فقال الناصر: مسكين أضجرناه (1).
قال أبو طالب: وكان ينظر في الأمور بنفسه وبسط العدل، ورفع رسوم الجور (2).
قال ابن جرير الطبري: ولم ير الناس مثل عدل الأطروش، وحسن سيرته، وإقامته للحق (3).
وقال ابن الأثير: وكان الحسن بن علي حَسُن السيرة، عادلا، ولم ير الناس مثله في عدله، وحسن سيرته، وإقامته للحق (4).
وقال ابن حزم: وكان هذا الأطروش فاضلا، حسن المذهب، عدلا في أحكامه (5).
فأحبه الناس لذلك حتى أنه حين عودته من القلعة، ودخوله آمل استقبله أهل البلد، صغيرهم وكبيرهم وكان على بغلة، فكاد الناس يقلعون بغلته من الأرض لازدحامهم عليه وخدمتهم له، وهو يدفع الناس عن نفسه بطرف مقرعته إذا تكابسوا عليه تمسحا به، وتقبيلا لرجله، حتى كادوا يزيلونه عن المركوب يشير بها وينحيهم عنه (6).
__________
(1) الحدائق 2/31.
(2) الإفادة /157.
(3) تاريخ الطبري 10/149.
(4) الكامل 6/148. حوادث سنة اثنتين وثلاثمائة.
(5) جمهرة أنساب العرب /45.
(6) الإفادة /136.
وعندما حانت وفاته استؤمر في من يقيمونه مقامه إذا حدث به قضاء الله عز وجل، وسأله بعضهم أن يعهد إلى بعض أولاده، فقال: وددت أن يكون فيهم من يصلح لذلك، ولكن لا أستحل فيما بيني وبين الله عز وجل وجل أن أولي واحدا منهم أمر المسلمين. ثم قال: الحسن بن القاسم أحق بالقيام بهذا الأمر من أولادي، وأصلح له منهم (1).
الحكيم الواعظ
ليس بمستنكر على رجل مثل الناصر في علمه وزهده أن تفيض الحكمة على لسانه، ويتفجر العلم من نواجذه، وهو فرع الدوحة العلوية.
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى المجد فرع لا ينال طويل
وحسبنا للتدليل على تلك الحكمة مقتطفات يسيرة من حكمه ومواعظه، قال ذات مرة مخاطبا أصحابه: (أيها الناس اتقوا الله، وكونوا عليه قوامين بالقسط كما أمركم الله، وأْمُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وجاهدوا رحمكم الله في الله حق جهاده، وعادوا الآباء والأبناء والإخوان في الله، فإن هذه الدار دار قلعة، ودار بلغة، ونحن سُفر، والدار التي خلقنا لها أمامنا، وكأن قد بلغنا إليها ووردناها، فتزودوا من العمل الصالح، فإن طريق الجنة خشن، وبالإجتهاد نبلغ إليها، إني لا أغر نفسي ولا أخدعها بالأماني، ولا
__________
(1) الإفادة /163.