وقال مؤرخ الزيدية الشهيد حميد المحلي: وبرز في فنون العلم حتى كان في كل واحد منها سابقا لا يجارى، وفاضلا لا يبارى.
وقال خير الله الزركلي: كان شيخ الطالبيين وعالمهم (1).
وكان أبو عبد الله الوليد القاضي يلزم مجلسه، ويعلق جميع ما سمع منه من أنواع الفوائد في فنون العلم، فجمع في ذلك كتابا سماه: ألفاظ الناصر (2).
وقال المحلي: كان جامعا لفنون العلم من أصول الدين، وفروعه، ومعقوله، ومسموعه، راوية للآثار، عارفا بالأخبار، ضاربا في علم الأدب بأقوى سبب (3).
وكان محدثا مسندا، وحسبك دليلا على ذلك أحاديث كتابه هذا المسند.
وكان خبيرا بالمناظرة، بصيرا بالجدل، يفحم خصومه مع أدب جم وتواضع، قال أبو بكر محمد بن موسى البخاري: (دخلت على الحسين بن علي الآملي المحدث، وكان في الوقت الذي كان الناصر للحق الحسن بن علي عليه السلام في بلاد الديلم، وقد [تجهز] لفتح آمل وورودها، والحسين بن علي هذا يفتي العوام بأنهم يلزمهم قتال الناصر للحق عليه السلام، ويستنفرهم لحربه، ومعاونة الخراسانية على قصده، وزعم أنه جهاد، ويأمر بالتجهيز وعقد المراكب كما
__________
(1) الأعلام 2/200.
(2) الشافي 1/309.
(3) الحدائق الوردية 2/30.

تفعل الغزاة، قال: فوجدته مغتما فقلت له: أيها الأستاذ ما لي أراك مغتما حزينا؟ فألقى إلي كتابا ورد عليه، وقال: اقرأه، فإذا هو كتاب الناصر للحق عليه السلام وفيه: يا أبا علي نحن وإياكم خلف السلف، ومن سبيل الخلف اتباع السلف، والإقتداء بهم، ومن سلفكم الذين تقتدون بهم من الصحابة عبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد، وهم لم يقاتلوا معاوية مع علي بن أبي طالب عليه السلام مع تفضيلهم عليا، تأولا منهم أنهم لا يقاتلون أهل الشهادتين، فأنت يا أبا علي سبيلك أن تقتدي بهم ولا تخالفهم، وتنزلني منزلة معاوية على رأيك، وتنزل عدوي هذا ابن نوح منزلة علي بن أبي طالب عليه السلام فلا تقاتلني، كما لم يقاتل سلفك معاوية وتخل بيني وبينه كما خلى سلفك بينهما، فتكف عن قتال أهل الشهادتين كما كف سلفك، وتجنب مخالفة أئمتك الذين تقتدي بهم، ولا سيما فيما يتعلق بإراقة الدماء، فافهم يا أبا علي ما ذكرت لك فإنه محض الإنصاف). قال: فقلت له: لقد أنصفك الرجل أيها الأستاذ فَلِمَ تكرهه ؟! فقال: نكرهه لأنه يحسن أن يورد مثل هذه الحجة، ولا يَرِدُ إلا متقلدا مصحفه وسيفه، ويقول: قال أبي رسول الله صلى الله عليه وآله: (( إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ))، فهذا كتاب الله أكبر الثقلين، وأنا عترة رسول الله صلى الله عليه وآله أحد الثقلين، ثم يفتي ويناظر، ولا يحتاج إلى أحد، أما سمعت ما قاله في قصيدة له قال: وأنشد هذا البيت:

تداعى لقتل بني المصطفى ... ذووا الحشو منها ومُرَّاقها (1)

وقال: فسلوني عن أمر دينكم، وما يعنيكم من العلم، وتفسير القرآن، فإنا نحن تراجمته، وأولى الخلق به، وهو الذي قُرن بنا، وقُرَّنا به، فقال أبي رسول الله صلى الله عليه وآله: (( إني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي، كتاب الله وعترتي أهل بيتي )) (2).
__________
(1) أمالي أبي طالب /103.
(2) الحدائق الوردية 2/31. هذا الحديث ورد بألفاظ متفاوتة، فممن أخرجه بلفظ: (( وعترتي )) الإمام زيد بن علي في المسند /404، والإمام علي بن موسى الرضا /464، والدولابي في الذرية الطاهرية /166(288)، والبزار 3/89 رقم (864) عن علي عليه السلام.
وأخرجه مسلم 5/179، والترمذي 5/622 رقم (3788)، وابن خزيمة 4/62 رقم (2357)، والطحاوي في مشكل الآثار 4/368 - 369، وابن أبي شيبة في المصنف 7/418، وابن عساكر في تاريخ دمشق 5/369 (تهذيب التاريخ)، والطبري في ذخائر العقبى /16، والبيهقي في السنن الكبرى 7/30، والطبراني في الكبير 5/166 رقم (4969)، والنسائي في الخصائص /150 رقم (276)، والدارمي 2/431، وابن المغازلي الشافعي في المناقب /234، 236، وأحمد في المسند /4367، وابن الأثير في أسد الغابة 2/12، والحاكم في المستدرك 3/148، وصححه وأقره الذهبي عن زيد بن أرقم.
وأخرجه عبد بن حميد /107، 108 (المنتخب)، وأحمد 5/182، 189، والطبراني في الكبير 5/166، وأورده السيوطي في الجامع الصغير /157 رقم (2631) ورمز له بالتحسين، وهو في كنز العمال 1/186 رقم (945)، وعزاه إلى ابن حميد، وابن الأنباري، عن زيد بن ثابت.
وأخرجه أبو يعلى في المسند 2/197، 376، وابن أبي شيبة في المصنف 7/177، والطبراني في الصغير 1/131، 135، 226، وأحمد في المسند 3/17، 6/26، وهو في كنز العمال 1/185 رقم (943)، وعزاه إلى البارودي، ورقم (944) وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن سعد، وأبي يعلى عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه 8/442، وهو في كنز العمال 1/189، وعزاه إلى الطبراني في الكبير عن حذيفة بن أسيد.
وأخرجه الترمذي في السنن 5/621 رقم (3786)، وذكره في كنز العمال 1/117 رقم (951) وعزاه إلى ابن أبي شيبة، والخطيب في المتفق والمفترق، عن جابر بن عبد الله.

الإمام المؤلف
لم يكن الإمام الناصر بدعا من أئمة الزيدية، الذين لم يشغلهم الجهاد، وتجييش الجيوش، والنظر في أمور المسلمين، والدعوة إلى الله عن التأليف والكتابة، فرغم الحوادث التي أتت عليهم،والتي تذهب عندها الألباب، وتطير معها الحلوم، فقد خلفوا تراثا ملأ سمع الدنيا وبصرها، فهذا الإمام الناصر أَلَّف وصنَّف الكثير من الكتب، حتى قيل: إن مؤلفاته تزيد على ثلاثمائة (1).
فمن كتبه التي ذكرها المؤرخون:
__________
(1) التحف /72.

1_ البساط.
2_ الاحتساب، وهو هذا الذي بين يديك.
3_ الناصريات، كتاب في الفقه. شرحه الشريف المرتضى. طبع في إيران.
4_ التفسير، احتج فيه بألف بيت من الشعر من ألف قصيدة.
5_ الحجج الواضحة بالدلائل الراجحة في الإمامة.
6_ الأمالي في الحديث، وأكثره في فضائل العترة عليهم السلام.
7_ المغني.
8_ كتاب في أصول الدين ذكر فيه الإيمان، لا يعرف اسمه، ذكره هو ص (61) أو لعله كتاب في من الكتب المذكورة هنا.
9_ المسفر. (ذكرهما الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة في الشافي) (1).
10_ الصفي.
11_ فدك والخمس.
12_ الشهداء، وفضل أهل الفضل منهم.
13_ فصاحة أبي طالب.
14_ معاذير بني هاشم فيما نقم عليهم.
15_ أنساب الأئمة ومواليدهم.
__________
(1) الشافي 1/309.

16_ الظلامة الفاطمية (الخمسة الأخيرة ذكرها صاحب أعيان الشيعة) (1).
17- جوامع النصوص. ذكره في أول هذا الكتاب.
وقال: إن ابن النديم ذكر له مجموعة، وذكر في الحدائق الوردية أن عدد كتبه أربعة عشر كتابا (2).
وصنف العلماء في حياته، وبعد وفاته وجمعوا كتبا في فقهه وحديثه، فمن أولئك:
أبو عبد الله الوليد القاضي، كان يلزم مجلسه، ويعلق جميع ما سمع منه من أنواع الفوائد في فنون العلم، فجمع في ذلك كتابا سماه:
18_ ألفاظ الناصر.
19_ الباهر في الفقه، جمعه أحد علماء عصره.
20_ الحاصر لفقه الناصر، جمعه الإمام المؤيد بالله.
21_ الناظم، في فقه الناصر للسيد أبي طالب.
22_ الموجز في فقهه، للشيخ أبي القاسم البستي جعفر محمد بن يعقوب.
23_ الإبانة في فقهه، مشروحة بأربعة مجلدات كبار، للشيخ أبي جعفر الهوسمي.
__________
(1) أعيان الشيعة 5/179 - 184.
(2) الحدائق الوردية 2/30.

الإمام الشاعر
لقد كان الإمام الناصر عليه السلام شاعرا رقيقا، وحماسيا، وأديبا فذا، متبحرا في علوم اللغة، مطلعا على أشعار العرب، يحفظ منها الكثير، كتب في التفسير كتابا احتج فيه بألف بيت من الشعر (1).
قال الشعر في مواطن عديدة، ولم يحفظ لنا التاريخ إلا القليل من شعره، إلا أنه يدل على شاعرية مطبوعة، وأدب راقٍ، فمن شعره في بداية دعوته في مرحلة السر:

عهود الصبا سقيا لكن عهودا ... وإن كان إسعافي لكن زهيدا
لقد حل مغناكن حلم وشيبة ... يُرى هديها من عهدكن بعيدا
فتى غادرت منه الخطوب غشمها ... طبيبا لأدواء الخطوب جليدا
إذا ساورته الغانيات من الهوى ... تبلج غلابا لهن حميدا
ترى الناس يخفون الكلام تحفظا ... إذا ما رأوه أو يكون رشيدا
تباعد عنه المخلصون ذووا التقى ... وأصبح بين المفسدين فريدا
عجيب لمن كان النبي وصهره ... وفاطم آباءاً له وجدودا
يرى من خلاف الناس لله ما يرى ... فيغضي عليه أو يطيق قعودا
محلين لا يرعون لله حرمة ... صدودا ولا يخشون منه صدودا
لقد أُسمع الآي المفصل من له ... مسامع وعدا صادقا ووعيدا
أمخترمي ريب المنون ولم أَقُدْ ... خيولا إلى أعدئنا وجنودا
__________
(1) الحدائق الوردية 2/29.

ولم أخضب المران من قاني الكلى ... وأترك منه في القلوب قصيدا
بكل فتى بالسيف أخرق في العدى ... وإن كان في ذات الإله مجيدا
يرى الموت حتف الأنف عارا وسبة ... وفخرا وأجرا أن يموت شهيدا
إلى أن أرى إثر المحلِّين قد عفا ... وقائم زرع القاسطين حصيدا (1)

وقال في قصيدة طويلة لم يصلنا إلا هذه المقطوعة منها:

فاجهد لكل الذي يرضى الإله به ... وحبل عمرك بالآمال موصول
فأنت من دوحة زيتونة وقدت ... فيها لنور إله العرش تمثيل
نور إذا غشي الأبصار مشرقه ... أضحى له فيه تغسيق وتأفيل
نور يقل بهذا الناس عارفه ... له لدى علماء الحق تأويل
أتى بشعيانه في سفره وأتى ... بذكر أوصافه موسى وحزقيل
محمد وعلي والبتول ومن ... قد كان يأتيهمُ بالوحي جبريل
وعترة المصطفى بالرس عنصرنا ... الطاهرين المقاديس البهاليل
أشكو إلى الله أن الحق مُّترَك ... بين العباد وأن الشر مقبول
وأن حكم كتاب الله مطرح ... وحكم من خالف القرآن معمول
وأن ذا اليتم والمسكين بينهمُ ... بمزجر الكلب منهور ومقتول
وأن من ينصر الشيطان متبع ... وأن من ينصر الرحمن مخذول
وأن أمتنا أبدت عداوتنا ... أن خصنا من عطاء الله تفضيل
إذا ذكرنا بعلم أو بعارفة ... صاروا كأنهمُ من غيظهم حُولُ
__________
(1) الشافي 1/312.

وأنهم لا يعينونا لنصرتنا ... للحق حين أعان الديلم الجيل
يحرمون حلالا من تسفههم ... وفيهمُ لحرام الله تحليل
إن يعبدوا العجل فيما قد مضى فلهم ... معبودة وثن منهم عجاجيل
وأنه قلَّ من في الناس مؤتمن ... يبدي النصيحة إلا وهو مدخول
وأن عترة خير الخلق بينهمُ ... مُبَغَّضُون فمطرود ومقتول
في كل قوم لهم وتر ومظلمة ... وسافح من دماء الطهر مطلول
وأن طفل رسول الله مكتئب ... كأنه من دموع العين مجدول
وأن طفلهم جذلان في لعب ... مرجل الشعر بالأدهان مكحول
وأن بنت رسول الله الله مزعجة ... لها من الخوف تنزيل وترحيل
وبنت كل كفور منهم فلها ... في الخز والقز والترفيل ترفيل
وأن نسوانهم فرحى مزوجة ... وأن نسواننا ثكلى أراميل
فهل يكون رضى للمصطفين بذا ... أم هل يكونن منهم فيه تسهيل
حتى يُرى منهم في كل ناحية ... داعون للقسط فتاك عباهيل
فاجهد وجاهد ولاة الجور محتسبا ... فقد فشى الشر فيهم والأباطيل
بكل مضطلع فمحان ذي تلع ... تزينه غرة منه وتحجيل
وكل أبيض مثل النار ملتهبٍ ... في غَربه من قراع الهام تفليل
وكل لدن من الخطي معتدل ... كأن عامله بالليل قنديل
وكل معطوفة زوراء عاكفة ... لها حنين كما حن المطافيل
بكف كل نطاسي بشكته ... فيه لما اعوج تثقيف وتعديل

وكل ذي غضب لله ملتهب ... في روضه للعصاة الشُّمْسِ تذليل
في فتية قد شروا لله أنفسهم ... وكلما حملوا لله محمول
رأوا بعين الهدى ما قد يكون غدا ... فهمهم بوعيد الله مشغول
وأيقنوا أن من يعصي الإله له ... في جاحم النار تخليد وتغليل
فولوا السيف والقرآن حكمهم ... فما أتاهم به القرآن معمول
حتى يرى الحق قد قامت قوائمه ... لأهله فيه تكبير وتهليل

وقال متغزلا في سيفه وترسه، وآلة حربه، وممتدحا بمكارم الأخلاق التي جبل عليها:

حسبي من البيض الملاح ... عناق سيفي واحتضانه
عضبٌ إذا عدم الكمـ ... ـيُّ الريقَ ينقعني أمانه
وكأن جرى في جسمه ... من بعد تصفية دخانه
لدن يهز الكف مثـ ... ـل النون أسلمه مكانه
من غير ما خفر ولـ ... ـكن الشِّرَى هذا أوانه
فبمثله يأبى الكريـ ... ـم الشهم ما فيه هوانه
وأنا أمرؤ عند احتد ... ام الموت ينجيني جرانه
وإذا تداين معشر ... يجدونه وخما دِيَانُه
وإذا تكلم واعظا ... فكفاك من عظة بيانه
يلقي غواشيه إذا ... طرقوه منزعة جفانه
ما إن يفارق خيمه ... في كل ما أبلى زمانه
شهدت له أفعاله ... أن لم يقل كذبا لسانه

2 / 9
ع
En
A+
A-