الكتاب : الإحتساب المؤلف : الإمام الناصرللحق الحسن بن علي الأطروش (المتوفى : 304هـ) . المحقق : عبدالكريم جدبان . www.al-majalis.com |
l
مقدمة
المؤلف :
من الجدير بالذكر أن لخراسان وما جاورها من المناطق صلة وثيقة، وقديمة بالتشيع لأهل البيت عليهم السلام عموما، ولأئمة الزيدية ودعاتها خصوصا، فالإمام يحيى بن زيد بن علي عليه السلام لاذ بخراسان، وفجر ثورته من هنالك، وأحبه الناس حتى أنه عام قتل واستشهد لم يولد ولد في خراسان إلا وسمي يحيى، ومشهده على مشارف الجوزجان مشهور مزور.
ومن بعده الإمام يحيى بن عبد الله، والذي توجه أيضا إلى خراسان، وكان الحسن بن زيد الملقب بالداعي الكبير مع يحيى بن عمر حين خرج إبان خلافة المتوكل والمستعين، ولما قتل يحيى، والذي سبق أن خرج إلى خراسان خرج الحسن هاربا وداعيا مع بعض أصحابه إلى الديلم، ثم إلى طبرستان حيث نشر دعوته، فبايعه أهلها عام (250هـ)، ثم غزا بعد ذلك الري ثم جرجان إلى أن توفي عام (270هـ).
ثم تولى بعده أخوه الإمام محمد بن زيد ولقب بالداعي الصغير، لأن بعض الزيدية لم يعدهما من الأئمة، بل من الدعاة، ولهذا لُقِّبا بالداعيين.
وخرج الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام إلى آمل قبل ظهوره في اليمن، فنزل مع أصحابه ومنهم أبوه، وبعض عمومته فندقا، فامتلأ الفندق بالناس حتى كاد السطح أن يسقط وعلا صيته في آمل، حتى خافه محمد بن زيد، فكتب إليه الحسن بن هشام،
وكان وزيرا لمحمد بن زيد بأن ما يجري يوحش ابن عمك. فقال: ما جئنا ننازعكم أمركم، ولكن ذكر لنا أن لنا في هذه البلدة شيعة وأهلا، فقلنا: عسى الله أن يفيدهم منا، وخرجوا مسرعين، وثيابهم عند الخياط لم يسترجعوها.
من هنا نرى أن طبرستان والأقاليم المجاورة لها كانت أرضا خصبة لتقبُّل الفكر الزيدي فليس غريبا أن تنشأ فيها الدولة الزيدية، والتي استمرت عدة قرون.
وممن هاجر إلى تلك البلاد الإمام الحسن بن علي، بن الحسن، بن عمر، بن علي، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب عليهم السلام، أبو محمد الناصر للحق الأطروش.
أبوه
علي بن الحسن كان من المعدودين في فضلاء أهل البيت عليهم السلام وحفاظهم وفقهائهم.
قال في مطلع البدور: السيد الإمام الكبير المجتهد الحافظ، شيخ الشيوخ، علي بن الحسن - إلى آخر نسبه - والد الناصر الكبير، شيخ العترة، كان من المحدثين والفقهاء، روى عن أبيه، وعن إبراهيم بن رجاء الشيباني، وعلي بن جعفر العريضي، وأبي هاشم الحميدي، وأنس بن عياض، ويحيى بن هاشم وآخرين.
وعنه: محمد بن منصور المرادي، وولداه الناصر والحسين، وأحمد بن محمد بن جعفر العلوي.
كان شاعرا مجيدا، من شعره:
إن الكرام بني النبي محمد ... خير البرية رائح أو غادي
قوم هدى الله العباد بجدهم ... والمؤثرون الضيف بالأزواد
كانوا إذا نهل القنا بأكفهم ... سلبوا السيوف أعالي الأغماد
ولهم بجنب الطف أكرم موقف ... صبروا على الريب الفظيع العادي
حول الحسين مصرَّعين كأنما ... كانت مناياهم على ميعاد (1)
خرج له أئمتنا الخمسة إلا الجرجاني.
أمه
اسمها: حبيب، أم ولد مجلوبة من خراسان.
ولادته
ولد الإمام الناصر للحق بالمدينة المنورة سنة (230هـ).
صفته
كان طويل القامة، يضرب إلى الأدمة، به طرش من ضربة أصابت أذنه أثناء جهاده.
نشأته
نشأ نشأة سلفه الأكرمين في طلب العلم والمعرفة، ولم يكتف بما حصل من علوم أهل المدينة حتى رحل إلى الكوفة، وأخذ عن مشائخها، وروى عنهم، كمحمد بن منصور المرادي، ولم تحدد
__________
(1) أعيان الشيعة 8/178.
المصادر الموجودة بين أيدينا تاريخ رحلته إلى الكوفة، إلا أننا نقدر أنه رحل ما بين الخمسين إلى الستين ومائتين ليكون عمره في الثلاثينات، العمر الذي يؤهله للترحال، والأخذ على مشائخ الكوفة.
وظل في الكوفة فترة لم تحددها المصادر التاريخية، ثم توجه بعد ذلك إلى طبرستان، أيام الداعي الحسن بن زيد، قبل سنة (270هـ) لأن الداعي توفي سنة (270هـ)، وقد أقام الإمام الناصر عنده إلى أن توفي، وولي أخوه محمد بن زيد، فأقام معه فترة، ويبدو أنه لم يكن راضيا عن سيرتهما من كل وجه، وكان يعتقد أن أمورهما لا تجري على الإستواء والسداد ولا على وجه العدل (1)، (فلم يكن يتلبس لهما بعمل ولا يلي من جهتهما شيئا) (2).
حتى أن محمد بن زيد قلَّده القضاء، فأبى فأكرهه عليه فتقلده، فلما جلس أول يومه أبان محمد بن زيد إجلالا له، وتعظيما لشأنه، فأمر القائم على رأسه وهو في مجلس الحكم بأن يأخذ محمد فيقعده بين يديه، فقال محمد: لم آتك مخاصما، ولا لأحد قِبَلِي دعوى فما هذا ؟! قال: بلى، عليك دعاوى كثيرة، فإن كنت قلدتني القضاء، فإني أبدأ بإنصاف الناس منك، ثم أقضي بين الناس، فلما علم محمد منه الجد عزله. ثم لم يتقلد له عملا بعد ذلك (3).
__________
(1) تتمة المصابيح /148.
(2) الإفادة /148.
(3) تتمة المصابيح /148.
وكان يرى أنه أولى بالإمامة من محمد بن زيد، ويتحدث بذلك مع خواصه، حتى وصل خبره إلى محمد بن زيد فخاف منه وفزع لمعرفته بعلمه وفضله، وخاف إن هو دعا إلى نفسه، وظهر أمره للناس أن يستجيبوا له، وكان هناك جماعة من العلماء يذبون عن الناصر عند محمد بن زيد، في تكذيب من ينسب إليه طلبه الأمر، إلا أن الناصر كان مصرا على أمره مجدا في تحقيقه غير آبهٍ بما يؤول أمره إليه.
قال محمد بن علي العبدكي - وهو أحد أعلام الشيعة في جرجان -: سمعت أبا القاسم عبد الله بن أحمد البلخي - وهو من أئمة المعتزلة - يقول: كنت في مجلس الداعي محمد بن زيد بجرجان، وأبو مسلم بن بحر حاضر - وهو معتزلي أيضا من كبارهم - وكنا جميعا ممن يذب عن الناصر الحسن بن علي في تكذيب من ينسب إليه طلبه الأمر، فدخل [الناصر] والتفت إلى أبي مسلم، وقال: يا أبا مسلم من القائل:
وفتيان صِدقٍ كالأَسِنَّة عرَّسُوا ... على مثلها والليل ترمي غَيَاهِبُه
لأمر عليهم أن تَتِمَّ صُدُورُه ... وليس عليهم أن تَتِمَّ عواقبه
قال: فعلم أبو مسلم أنه قد أخطأ في إنشاده ذلك، لأنه يستدل به على أنه معتقد للخروج وإظهار الدعوة، فأطرق كالخَجِل، وعلمت أنا مثل ما علمه، فأطرقت وفطن الناصر أيضا بخطئه فخجل، وأطرق ساعة وانصرف، فلما انصرف التفت الداعي محمد بن زيد إلى أبي مسلم فقال: يا أبا مسلم ما الذي أنشده أبو محمد ؟!
فقال أبو مسلم: أنشد أيها الداعي:
إذا نحن أُبنا سالمين بأنفس ... كرام رجت أمرا فخاب رجاؤها
فأنفسنا خير الغنيمة أنها ... تؤوب وفيها ماؤها وحياؤها
فقال الداعي محمد بن زيد: أو غير ذلك؟ إنه تتنسم رائحة الخلافة من جبينه (1).
الإمام المجاهد
لقد رفع الإمام الناصر راية الجهاد، غير مبال ولا مكترث بما يناله من الأذى، ذلك لما يعرفه من أجر المجاهد الصابر، فما تعرض له من الأذى حين خرج إلى نيسابور، أو جرجان أيام السجستاني طامعا في أن يتمكن من الدعاء إلى نفسه فأجابه كثير من قواد السجستاني وغيرهم، ثم سعى به بعض من كان وقف على أمره، فأخذه واعتقله، وضربه بالسياط ضربا عظيما، قيل: ألف سوط، ووقع سوط في أذنه فأصابه منه طرش، ولذلك سمي الأطروش، واستقصى عليه أن يعترف بما كان منه ويعرفه أسامي أصحابه، فثبت على الإنكار وحبسه في بيت فيه خمور، نكاية به وتشديداً عليه، حتى قال الناصر: قويتُ برائحة تلك الخمور، فقيل له: لو أكرهت على شربها ما الذي كنت تصنع؟ فقال: كنت أنتفع بذلك، ويكون الوزر على المكرِه، وهذا من ملح نوادره ومزاحه الذي لا يجاوز الحق (2).
__________
(1) الإفادة /151.
(2) الإفادة /149.
الإمام الداعية
كان الإمام الناصر داعية من الطراز الأول، حدد أهداف دعوته قائلا في كتاب بعثه إلى بعضهم: (ولقد بلغك - أعزك الله - ما أدعو وأهدي إليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إحياء لما أميت من كتاب الله تعالى، ودفن من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله) (1).
توجه إلى بلاد الديلم وأهلها مشركون ومجوس، فدعاهم إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، فأسلموا على يديه، حتى بلغ من أسلم على يديه ألف ألف (مليون) نسمة، وتحولوا إلى مجاهدين زهاد عباد.
قال الناصر وقد دخل آمل، وازدحم عليه طبقات الرعية في مجلسه: (أيها الناس إني دخلت بلاد الديلم وهم مشركون، يعبدون الشجر والحجر، ولا يعرفون خالقا، ولا يدينون دينا، فلم أزل أدعوهم إلى الإسلام، وأتلطف بهم حتى دخلوا فيه أرسالا، وأقبلوا إلي إقبالا، وظهر لهم الحق، واعترفوا بالتوحيد والعدل، فهدى الله بي منها زهاء مأتي ألف رجل وامرأة، فهم الآن يتكلمون في التوحيد والعدل مستبصرين، ويناظرون عليهما مجتهدين، ويدعون إليهما محتسبين، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقيمون حدود الصلوات المكتوبات، والفرائض المفروضات، وفيهم من لو وجد ألف دينار ملقى على الطريق لم يأخذ ذلك لنفسه، وينصبه على رأس مزراقه
__________
(1) الحدائق الوردية 2/31.
(رمحه) ينشده في هواي، واتباع أمري في نصرة الحق وأهله، لا يولي أحد منهم عن عدوه ظهره، وإنما جراحاتهم في وجوههم وأقدامهم، يرون الفرار من الزحف إذا كانوا معي كفرا، والقتل شهادة وغنما) (1).
وهو يعد مثلا أعلى للعاملين في الحقل الإسلامي في عصرنا، فها هو يدعو مشركين عُبّاد الأحجار إلى الإسلام، ولا شك أنه تعلم اللغة الفارسية وأتقنها، وإلا فكيف يدعوهم؟! ثم يقيم بهم دولة الإسلام العادلة، في غضون بضع عشرة سنة. لهذا ينبغي لقادة الحركة الإسلامية أن يدرسوا سيرة وحياة هذا الداعية الحصيف.
الإمام العالم
لقد كان الإمام الناصر من أوعية العلم، وجبال المعرفة، ضرب في كل فن من فنون العلم بسهم وافر، واشتهر علمه وذاع، أخذ على آبائه، وأهل بيته في المدينة في ريعان شبابه، ثم رحل إلى الكوفة، وأخذ عن مشائخها وروى عنهم، وقرأ من كتب الله تعالى المنزلة على رسله ثلاثة عشر كتابا، وقيل: ستة عشر، منها: التوارة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، وباقيها من الصحف (2). وكان مختصا بعلم القرآن واللغة، قال في رسالة له إلى بعض أصحابه: (بعد أن محصت آي التنزيل، عارفا بها، منها تفصيل وتوصيل، ومحكم
__________
(1) الحدائق الوردية 2/31.
(2) الشافي 1/309، والحدائق الوردية 2/30، وتتمة المصابيح /149.
ومتشابه، ووعد ووعيد، وقصص وأمثال، آخذا باللغة العربية التي بمعرفتها يكون الكمال، مستنبطاً للسنة من معادنها، مستخرجاً للكامنات من مكامنها، منيرا لما ادْلَهَمَّ من ظُلَمِها، معلنا لما كُتم من مستورها) (1).
وكان له مجلس لإملاء الحديث، يجتمع فيه فقهاء البلد، وأهل العلم كلهم (2).
ومن نظر في كتابه هذا وقف على علم غزير في علم القرآن، واللغة والحديث.
ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الزيدية من ذكر أقواله في كل فن، وكتبه وما نقل عنه شاهد بذلك، وسيأتي ذكرها.
قال فيه الإمام الهادي عليه السلام: الناصر عالم آل محمد كبحر زاخر بعيد القعر.
وقال أبو طالب: كان جامعا لعلم القرآن والكلام والفقه، والحديث والأدب والأخبار واللغة، جيد الشعر، مليح النوادر، مفيد المجالس (3).
وقال الإمام عبد الله بن حمزة: لم يكن في عصره مثله شجاعة وعلما (4).
__________
(1) الحدائق الوردية 2/31.
(2) الإفادة /160، والشافي 1/309.
(3) الإفادة /147.
(4) الشافي 1/308.