سبحانه وتعالى بابا من هذا الكتاب ، نذكر فيه المشاهير من معجزاته صلى الله عليه وعلى آله التي هي سوى القرآن .
على أنه قد روي عن جماعة أنهم أسلموا حين سمعوا القرآن . ولو ثبت أن أحدا لم يسلم عنده ، كان ذلك مما يقدح في صحة كونه معجزا ، دالا على صدق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، والدليل لا يقدح فيه الاستدلال به ، أو أن المستدل به لا يعرف صحته (1) .
وإنما يجب علينا أن ننظر في حال الدليل ، هل هو دليل صحيح أم لا ؟
وأما ما عدا ذلك فما (2) لا فكر فيه .
فممن (3) روي أنه أسلم حين سمع القرآن: عمر بن الخطاب . وروي أنه أسلم حين سمع { طه (1) } [طه] (4) .
وروي أن جبير بن مطعم أسلم حين سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله يقرأ: { وَالطُّورِ (1) } [الطور] (5) ، وفيه آية التحدي الظاهر
__________
(1) في المخطوط: بصحته . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: فيما . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: فمن . ولعل الصواب ما أثبت .
(4) سيرة ابن هشام1/370 .
(5) عن جبير بن مطعم أنه (( أتى المدينة في فداء وهو يومئذ مشرك فدخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وآله سلم يصلي المغرب فقرأ بالطور فكأنما صدع قلبي قراءة القرآن )) .
أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده 4/83(16808) ، والطبراني في معجمه الكبير 2/141(1595) .
، حيث يقول: { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ (34) } [الطور] .
وروي أن سعد بن معاذ قرئ عليه القرءان ، وأسلم .
وكذلك: أسيد بن حضير .
فإن قيل: تلاوة آية التحدي لا تكون تحديا ، وإنما التحدي أن يبتدئ مخاطبتهم بالتحدي ؟!
قيل له: لا فرق بين الأمرين في حصول التحدي ، بل إذا قرأ عليهم آية التحدي ، وعرَّفهم أنها من عند الله تعالى ، ربما كان أبلغ في التحدي ، على أن آية التحدي في أوائلها الأمر بالتحدي ، لأنه تعالى يقول: { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ } ، ولا يجوز أن يُظهر صلى الله عليه وعلى آله أن الله تعالى أمره أن يقول قولا ، إلا ويعرف منه أنه قال ذلك ، أو ما ينوب منابه . يدل ذلك على أنه لا بد من أن يكون تحديا ابتداء في المخاطبة ، أو تلاوة تنوب مناب ابتداء المخاطبة .
- - -
الكلام في أن معارضة القرءان لم تقع
فإن قيل: فما الدليل على أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله لما تحداهم بالقرءان لم يعارضه أقوام ولم يأتوا بمثله ؟!
قيل له: الدليل على ذلك أنه لو كان لنُقِلَ ، ولو نُقِلَ لوقع العلم .
فلما لم يقع العلم به ، علمنا أنه لم ينقل . وإذا ثبت أنه لم ينقل ، ثبت أنه لم يكن .
فإن قيل: فلِم ادعيتم أنه إذا لم ينقل لم يجب القطع على أنه لم يكن؟
قيل له: لأنا بمثل هذه الطريقة نعلم أنه لم تجر بين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وبين قريش من مبعثه صلى الله عليه وعلى آله إلى يوم بدر وقعة مثل وقعة بدر ، وأنه لم يكن بين وقعة بدر ووقعة أُحد مثل وقعة أُحد . وأن الأحزاب لم يجتمعوا على باب المدينة إلا مرة واحدة ، وأنه لم تجر بين أبي حنيفة وابن أبي ليلى ومالك نقائض في الشعر ، مثل ما جرى بين الفرزدق وجرير ، والأخطل والبعيث . وأن جعفر بن محمد عليه السلام لم يقع منه خروج مثل خروج زيد بن علي عليهما السلام ، وأن زيدا بن علي لم يكن له خروج بخراسان ، وأن أبا يوسف ومحمدا لم يصنفا في النحو مثل كتاب سيبويه . وأنه لم يظهر عنهما من الطب مثلما ظهر عن جالينوس ، إلى نظائر ما ذكرنا ، أكثر من أن تعد وتحصى .
ولم يتحصل لنا العلم بكل ما ذكرنا ، إلا من حيث علمنا أن شيئا من ذلك لو كان لنُقِل ، ولو نقل عُلِمَ . فبان بما ذكرنا أن القرءان لم يعارَض ، لأنه لو كان عُورِض لنقل ، ولو نقل لحصل لنا العلم .
فإن قيل: إن جميع ما استشهدتم به قد وقع العلم لنا بصحته ولا ننكره . ولكن من أين وجب أن يكون حكم معارضة القرءان حكم ما استشهدتم به ؟!
قيل له: لأن ما ذكرنا من الطريقة أمر عام ليس يختص شيئا دون شيء ، فيجب أن تكون جميع الطرق التي تتعلق بها الدواعي إلى نشرها وذكرها ، وتقوى البواعث عليها ، جارية في هذا الباب مجرى واحدا .
فإن قيل: فكأنكم تقولون: إن كل ما لم ينقل من الأحوال الماضية نقلا متواترا يجب القطع على أنه لم يكن . ولئن قلتم ذلك لزمكم أن تقطعوا على أنه لا معجز للنبي صلى الله عليه وعلى آله إلا ما يكون الخبر به متواترا . ويلزمكم القطع على أن كل خبر يروى عنه صلى الله عليه وعلى آله من طريق الآحاد كذب لا أصل له . وهذا خلاف ما بين المسلمين . ويلزمكم في أحوال الدنيا والمعاملات أن كل ما لا يتواتر الخبر به من المجوَّزَات ، فهو مقطوع على أنه لم يكن ، وفي هذا من الفساد ما لا يخفى ؟!
قيل له: نحن لا نقول إن كل ما لا يتواتر الخبر به يجب القطع على أنه لم يكن على الإطلاق ، وهذا لا يقوله مُحصِّل . وإنما نقول: إن الأمر إذا كان مما يكون وقوعه لو وقع ظاهرا لا خفاء به ، ثم كانت
الدواعي إلى نشره قوية ، والبواعث على ذكره شديدة ، ما لم يعرض ما يوجب تغيُّر حال الدواعي والبواعث ، ومتى لم يكن له نقل يوجب العلم فيجب القطع على أنه لم يكن .
وشيء مما ذكرتم لا يلزم على هذا - على ما نبيِّنه - بأن كثيرا من معجزات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله يجوز أن يكون ظهر للواحد ، أو الاثنين ، أو الثلاثة ، دون العدد الكثير . ومثل هذا مما لا يصح أن يتواتر به الخبر .
وكثير من معجزاته صلى الله عليه وعلى آله وإن كانت ظهرت ، بشهادة العدد الكثير . يجوز أن تقوى الدواعي إلى نشرها والبواعث عليها ، تعويلا على غيرها , ويجوز أن تضعف الدواعي على نقلها على مر الأيام ، لقيام غيرها مقامها (1) ، وإن كانت الدواعي والبواعث في أول الأمر قوية .
وكل هذا يجوز أن يكون الأصل صحيحا ، وإن لم يتواتر النقل به ، وعلى هذه الطريقة يجري الكلام في أحوال الدنيا والمعاملات ، لأنا نجوِّز في السلطان أن يفعل أفعالا كثيرة مما تخصه فلا تُنقل نقلا متواترا . ولا يجوز أن يفعل فعلا يعم نفعه أو ضرره ظاهرا ذائعا ، فلا يتواتر في المدة بعد المدة إلى أن يعرض ما يوجب ضعف الدواعي والبواعث إلى نقله ، ولهذا جاز أن تخفى كثير (2) من معجزات الأنبياء المتقدمين
__________
(1) في المخطوط: مقامه . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: كثيرا . والصواب ما أثبت .
صلوات الله عليهم ، لأن التكليف بمعرفتها زال ، أو عُرِف حالهم من جهة نبي بعدهم ، فضعفت الدواعي إلى نقله .
وإذا ثبتت هذه الجملة ، فإن معارضة القرءان لو كانت ووقعت ، كان وقوعها على وجه يظهر للولي المصدق برسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، والعدو المكذب له ، وكانت الدواعي إلى نقلها والبواعث على نشرها قوية مستمرة إلى يومنا هذا ، بل إلى آخر الدهر ، لأن الاسلام ما بقي (1) ، والاحتجاج بالقرءان ما استمر ، فيجب أن تكون الدواعي ثابتة حاصلة إلى نقل المعارضة ، لأن المكذب به صلى الله عليه وعلى آله كان يذكرها احتجاجا ، والمصدق به طالبا للكلام عليها ، كما يذكر الخصم حجة خصمه أو شبهته للكلام عليها . وآخر كان يذكرها لفصاحتها ومزيتها كما يؤثر ويحفظ كلام الفصحاء ، وكانت الملحدة والباطنية من بينهم خصوصا ، يهتفون بها لما في أنفسهم على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله .
فكل ما ذكرناه يوضح أنها لو كانت وقعت كان وقوعها معروفا ، والدعاوي إلى نقلها تكون مستمرة .
ومتى كان الأمر على ما وصفنا ، ولم نجد النقل الذي ذكرنا ، فيجب القطع على أنها لم تكن ، كما نقول في سائر ما جرى مجراه في
__________
(1) كذا في المخطوط . ولعل المراد: أن الاسلام يظل إسلاما ودينا مدة بقائه . والقرءان يحتج به مدة استمراره .
الظهور ، وقلة الدواعي إلى نقله من أمور الدنيا والدين ، وأحوال الملوك وسياساتهم .
ولمثل هذا نقول: إن ما تدعيه الإمامية من النصوص لا أصل لها ، لأنها لو كانت لوجب أن يتواتر بها النقل ، ويظهر .
ولخَّص بعض العلماء القول في ذلك فقال: (( كل أمرين كانا في زمان واحد ، أو زمانين متقدمين , وكانت الدواعي إلى نقلهما (1) متساوية أو متقاربة ، فلا يجوز أن يظهر أحدهما ويظهر نقله ، ويخفى الآخر ويخفى نقله , لأنهما إذا اجتمعا في السبب الموجب الظهور ، فيجب اجتماعهما في الظهور )) .
قال: (( وقد علمنا أن القرءان لو كانت له معارضة من مشركي العرب كانت تكون في الزمان المتقارب ، وكانت الدواعي إلى نقلها كالدواعي إلى نقل القرءان وأقوى منه ، على ما أوضحناه ، ولأن المعارضة لو كانت ، لكانت هي الحجة دون القرءان ، وكان القرءان هو الشبهة ، وكان ذلك مما يزيد في قوة الدواعي إلى نقلها ، وهذا بيِّنٌ واضح لمن تأمله بعين النصفة )) .
على أن أحد لا يدعي: أن أحدا من العرب انتُدِب لمعارضة القرءان ، فعارضه أو عارض بعضه ، فلا وجه لتطويل الكلام في هذا الباب .
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون خوف السيف ، وعلو كلمة الاسلام ، أوجب خفاء نقل المعارضة ، أو منع ابتداءها ؟!
__________
(1) في المخطوط: نقلها . ولعل الصواب ما أثبت .
قيل له: أما ابتداؤها والاتيان بها لو لم يتعذر عليهم ، كان لا يجوز أن يكون ما ذكرتم مانعا لهم منها ، لأن الأحوال كانت على خلاف ذلك,وسنشبع القول فيه ، ونوضحه في الفصل الذي نذكر فيه أن كَفَّهم عن المعارضة لم يكن إلا للتعذر . وأما النقل فلا يجوز أن يخفى لما ذكرتم .
ألا ترى أن عامة الأحوال مع قوة جملة الاسلام ، وظهور أمره ، لم يسلم من أن يكون فيها من كان يطعن على النبي صلى الله عليه وعلى آله ، ويروم القدح في الاسلام .
فهذا يزيد بن معاوية لعنه الله لما حمل إليه رأس الحسين بن علي صلوات الله عليه جعل يقول:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهللوا فرحا ... ولقالوا يا يزيد لا شلل
لست من عتبة إن لم أنتقم ... من بني (1) أحمد ما كان فعل (2)
__________
(1) في المخطوط: نبي . والصواب ما أثبت .
(2) البيتان الأولان لعبد الله بن الزبعري ، قالها متحسرا على قتلى المشركين ببدر ، قال عامر الشعبي: وأضاف يزيد على تلك الأبيات بيتين هما: ... لعبت هاشم بالملك فلا
1@خبر جاء ولا وحي نزل
من بني أحمد ما كان فعل ... لست من خندف إن لم أنتقم
مقتل الحسين للخوارزمي 2/ 58 ، وتاريخ ابن كثير 8/ 192 ، 204 ، والفتوح لأعثم الكوفي 3/ 150 . غيَّر يزيد البيت اثاني فوضع فيه اسمه .
فمَن لا يتحاشى أن يقول ذلك ، أي مانع يكون في زمانه من نقل معارضته القرءان ، وهو السلطان المنتصب للخلافة ؟!!
ثم الوليد بن عبد الملك بن مروان على ما روي - يُظَن في أيام خلافته - مزق (1) المصحف ، وقيل: حرَّقه . ثم أنشأ يقول:
أتوعد كل جبار عنيد ... فها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر ... فقل يا رب حرقني الوليد (2)
وهو القائل:
تلَّعب بالبرية هاشميٍ ... بلا وحي أتاه ولا كتاب (3)
فكيف يظن بأن نقل المعارضة للقرآن يخفى في زمانه ؟! أو كان يقع الكف عنها لولا التعذر !! ثم كان في آخر أيام بني أمية وأول أيام
__________
(1) في المخطوط: في المصحف . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) جاء في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني: أن الوليد لعنه الله استفتح المصحف يوماً ، فقرأ أول ما قرأ الآية الكريمة: { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) } [إبراهيم] ، فثار لعنه الله ومزق المصحف قائلا: ... أتوعد كل جبار عنيد
1@فها أنا ذا جبار عنيد
فقل يا رب مزقني الوليد ... إذا ما جئت ربك يوم حشر
وانظر مروج الذهب 3/228 -229.
(3) البيت للوليد بن يزيد الأموي ، وبعده: ... تذكرني الحساب ولست أدري
1@أحقا ما تقول من الحساب
وقل لله يمنعني شرابي ... فقل لله يمنعني طعامي
انظر مروج الذهب 3/229.
بني العباس مثل ابن المقفع (1) الذي تهوَّس (2) ، وأوهم الأغمار (3) أنه ممن يعارض القرءان ، ولم يتحاش ذلك .
__________
(1) ابن المقفع: هو أبو محمد عبد الله روزبة بن دَاذَوَيه. فارسي الأصل.
ولد حوالي سنة/106هـ، في قرية بفارس اسمها (جور). وهي مدينة (فيروز آباد) الحالية، وقيل بالعراق.
لقب أبوه بالمقفَّع، بفتح الفاء، لأن الحجاج ضربه فتقفعت يده، أي: تشنجت.
وقيل: بكسرها لعمله القفعة، وهي شبيهة بالزنبيل، بلا عروة وتعمل من الخوص.
نشأ بين أحياء العرب. فكان أبوه (داذويه) المقفع الفارسي يعمل في جباية الخراج لولاة العراق، مِن قِبَلِ بني أمية، وهو على دين المجوسية، ثم أسلم في آخر عمره، وولد له ابنه هذا وسماه (روزبة) فنشأ بالبصرة، وهي يومئذ حلبة العرب، ومنتدى البلغاء والخطباء والشعراء.
فكان لكل ذلك ـ فوق ذكائه المفرط ـ أعظم أثر في تربيته، وتهيئته، لأن يصير من الكتاب والأدباء، والمترجِمِين إليها.
وكان مجوسيا مزدكيا، قيل أسلم على يد عيسى بن علي ـ عم السفاح ـ بمحضر من الناس، وتسمى (عبد الله) وتكنى بأبي محمد.
وتقرب من بني أمية وولاتهم، فكان يكتب ليزيد بن عمر بن هبيرة والي العراق في عهده، ثم كتب لأخيه داود بن هبيرة بعده وهو لا يزال مجوسيا. في خلافة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية.
فلما ظهر العباسيون، وتمكنوا من الأمويين اتصل بعيسى بن علي ـ عم الخليفبن السفاح، والمنصور ـ وكان حاكم الأهواز، فأسلم على يده ـ كما قيل ـ فكان كاتب ديوانه، كما قام بتعليم بني أخيه فنون العربية.
والمؤرخون يقولون إنه كان كاتبا بليغاً يضارع صديقه الكاتب عبد الحميد الكاتب، والذي كان يكتب بالشام لمروان بن محمد الملقب بالحمار ـ آخر خلفاء بني أمية.
وترجم له كتب (أرسطاطاليس) الثلاثة في المنطق، وكتاب (المدخل إلى علم المنطق) المعروف بإيساغوجي. وترجم له عن الفارسية وقيل عن الهندية كتاب (كليلة ودمنة) الشهير.
واتهم بالزندقة.
قال ابن حجر: وحكى الجاحظ أن ابن المقفع، ومطيع بن أياس، ويحيى بن زياد، كانوا يتهمون، ويقال: إن ابن المقفع مر ببيت نار المجوس، فتمثل بأبيات عاتكة.
والبيتان ذكرهما الشريف المرتضى في أماليه، وقال روى ابن شيبة قال حدثني من سمع ابن المقفع وقد مر ببيت نار المجوس، بعد أن أسلم فلمحه وتمثل:
يا بيت عاتكة الذي أتغزل حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني قسما إليك مع الصدود لأميل
وقال الشريف المرتضى أيضا:
وروى أحمد بن يحيى ثعلب قال: قال ابن المقفع يرثي يحيى بن زياد، وقال الأخفش: والصحيح أنه يرثي بها ابن أبي العوجاء:
رزئنا أبا عمرو ولا حي مثله ... فلله ريب الحادثات بمن وقع
فإن تك قد فارقتنا وتركتنا ... ذوي خلة ما في السداد لها طمع
لقد جر نفعا فقدُنا لك أننا ... أَمِنَّا على كل الرزايا من الجزع
قال ثعلب: البيت الأخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر، والشر ممزوج بالخير.
أقول: والأبيات مذكورة في حماسة أبي تمام/357.
وقال ابن حجر: ونقل عن ابن المهدي أنه قال: ما رأيت كتاباً في زندقة إلا هو أصله. لسان الميزان 3/449.
وكذلك قال الشريف المرتضى في أماليه 1/135.
وأيضا ما نقل عنه الإمام القاسم الرسي في كتابه الرد على ابن المقفع ، من النصوص التي تؤكد صدق ما قيل عنه من الزندقة، شاهدُ عدل، وخبرُ ثَبْت، سيما والإمام القاسم قريب العهد به، إذ ولد ابن المقفع سنة(106هـ)، وولد الإمام القاسم سنة(169هـ). إضافة إلى ورع الإمام الشديد الذي يستحيل معه التقول والإفتراء. ورغم أني بحثت كثيرا عن كتب ابن المقفع إلا أني لم أعثر إلا على مجلد بعنوان آثار ابن المقفع، بعد لأْيٍ وجهد، حصلت عليه من مكتبة بعمان الأردن، يحتوي هذا المجلد على:
ـ كليلة ودمنة
ـ الأدب الكبير
ـ الأدب الصغير
ـ الدرة اليتيمة
ـ رسالة في الصحابة، وبضع وريقات رسائل وحكم.
ولم أقف على كتابه الذي نقل منه الإمام القاسم ، والإمام المؤيد بالله ، ولعل الله أن يمن بالوقوف عليه.
ولقد شن الجاحظ حملة شعواء على الثنوية، وذكر طرفا من عقائدهم التي ذكرها الإمام القاسم في كتابه (الرد على ابن المقفع)، وهو من المعاصرين للإمام القاسم، فقال: إن كتبهم لا تفيد علما ولا حكمة، وليس فيها مثل سائر، ولا خبر طريف، ولا صنعة أدب، ولا حكمة غريبة، ولا فلسفة، ولا مسألة كلامية... وجل ما فيها ذكر النور والظلمة، وتناكح الشياطين، وتسافد العفاريت، وذكر الصنديد، والتهويل بعمود الصبح). الحيوان 1/28.
وهذا يؤكد وجود رسالة ابن المقفع في هذا الشأن، التي رد عليها الإمام القاسم، وقد أثبت المستشرق الإيطالي (ميكل أنجلو جويدي) رسالة ابن المقفع التي فندها الإمام القاسم وأكد أنها من تأليفه.
قتله - حرقا بتهمة الزندقة - سفيان بن معاوية المهلبي، أمير البصرة، بأمر المنصور.
وقيل: إن سبب قتله الأمان الذي كتبه لعبد الله بن علي ـ عم المنصور ـ بعد أن خرج بالشام بعد موت السفاح، وكان أميراً عليها، وغلب عليها، وادعى أن السفاح عهد إليه، فجهز المنصور أبا مسلم الخراساني، فدخل البصرة، فاستأمن له أخواه عيسى وسليمانُ المنصورَ فآمنه، فطلب عبد الله من يرتب له كتاب أمان لا يستطيع المنصور أن ينقضه، وكان ابن المقفع كاتب سليمان أمير البصرة فأمره فكتب نسخة الأمان، ومن جملته: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله، فرقيقه أحرار، ونساؤه طوالق، والمسلمون في حل من بيعته. فاشتد على المنصور، وأمر سفيان بن معاوية المهلبي ـ وكان يعادي ابن المقفع ـ أن يقتله فقتله.
هذا ما قيل في سبب قتله.
وكما أسلفنا فقد ولد ابن المقفع سنة (106هـ)، وقتل سنة (142هـ). يعني أنه كان في ريعان شبابه عند مقتله، فعمره آنذاك (36) سنة.
(2) الهوس: طرف من الجنون .
(3) الأغمار: جمع غِمر ، وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور .