فيما ذكر من الرضاع (1) ، وغير ذلك مما جرى مجراه ، فلولا أن هذه الآيات بَانَ كونها من جملة القرءان ظاهرا مكشوفا لجرى فيها التضاد ، وعرض فيها النزاع .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إنهم جميعا سكتوا عنها ، لأنها كانت مقوية لأمرهم ، معليةً لكلمتهم ، مصححة لنحلتهم .
قيل له: الاتفاق على مثل ذلك لا يصح من العدد الكثير ، ولولا ذلك لم يصح أن يقع العلم بشيء من الأخبار التي تعلق بها الأغراض .
وذلك أن الطبائع مبنية على نشر الأخبار إذا عرفتها الجماعة الكثيرة ، ضرتهم أو نفعتهم ، لأن الدواعي إلى النشر كثيرة مختلفة ، فيخرج المكتوم لأغراض مختلفة ، فلو كان الأمر على ما ذكرتم ، والحال على ما توهمتم ، لظهرذلك ، ونقل ولم ينكتم . لأن واحدا كان لديانته ، وسداد طريقته ، يذكره إنكارا وتوجعا .
وآخر كان لسخافة دينه ، وضعف عقيدته ، يذكره لبعض أعداء الدين تقربا وتوددا .
وآخر كان يورده ويحكيه لأهله ولولده تحيرا وتعجبا .
__________
(1) أخرج مسلم في صحيحه 2/1075(1452) ، وابن ماجه في سننه 1/625(1942)، ومالك في الموطأ 2/609(1270) عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها قالت: (( كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فيما يقرأ من القرآن )) .

وآخر كان يرى أن فيه ضربا من الجلادة (1) والشهامة فيحكيه افتخارا وتبجحا (2) .
وآخر يذكره لضيق عَطِنه (3) عن حفظ الأسرار .
والأغراض في هذا الباب أكثر من أن تعد وتحصى .
ثم كان من يسمع منهم ، أو من واحد منهم ينشره بغير حساب ، فلا تلبث الأيام والليالي حتى ينتشر ويَذِيع . وبهذا تجد أسرار الملوك مع ما يتعلق بهم من عظيم الرهبة والرغبة ، متى جرت بين عشرين أو خمسة أو عشرة أو دون ذلك لم تنكتم ، وظهرت في أقرب زمان ، وأرخى مدة .
لهذا قيل:
إذا جاوز الاثنين سر فإنه ... ببث وإفشاء الوشاة قمين (4)

على أن مثل ذلك لو كان جائزا أن يكون الفرزدق (5) ملجما لا يقول الشعر ، وإنما اجتمع عدة من الشعراء لأغراض كانت لهم على أن يعملوا قصائد ، وينسبوها (6) إليه ، وكان مثله على كل مصنَّف في أي جنس من أجناس العلوم ، كان مثل ما كان من ذلك ، مما لا يستجيزه
__________
(1) كذا في المخطوط . والجلادة في اللغة: القوة والشدة والصلابة .
(2) في المخطوط: وتبحبحا . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) العطن: مبرك الإبل .
(4) البيت لجميل بثينة . ورد في المخطوط: . . . يبث وإفشاء . . .
(5) في المخطوط: كان ملجما . ولعل الصواب ما أثبت .
(6) في المخطوط: وينسبونها . والصواب ما أثبت .

عاقل ، ولا يرتاب فيه ، لأنه كان أظهر ، كان ما سألوا فيه كذلك . وهذا الباب قد استقصاه أبو عثمان الجاحظ في (( الفرق بين النبي والمتنبئ )) استقصاء شافيا . وفيما أوردناه كفاية وبلاغ .
فإن قيل: ما أنكرتم أن هذا الاتفاق جرى من عدد يسير نحو ثلاثة أو أربعة أو خمسة ، ومثلهم يجوز أن يقع منهم التواطئ على الكذب وحفظ السر ؟!
قيل له: هذا سؤال من يغش نفسه عن علم منه بأحوال الصحابة أيام عثمان ، أو يقول غير مراقب عن جهل منه بها ، وذلك أن الحفاظ في ذلك الوقت كان فيهم كثرة ، نحو أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وعثمان بن عفان ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن العباس ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وغيرهم . وكثير من هؤلاء كانت بينهم منافرات ، بحيث لو عثر بعضهم على خيانة بعض في مثل هذا الأمر العظيم ، كان يسرع إلى التنديد به .
فأما من كان منهم يعرف القرءان ، أو كان يحفظ السور منه فكثير لا يحصون . وكيف يصح اجتماع ما ذكرتم ؟! أم ما الذي يغني لو اجتمعوا ؟!
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال: إني أُسلِّم أن هذه الآيات كانت في جملة القرءان ، لكن ما تنكرون أن تكون هذه الآيات لم تكن تلفت مشركي العرب ، ولم تكن قرعت أسماعهم ، ولا علقت بأفهامهم ،

لأنها أو عامتها في السور الطوال . وكان الذي تعلق لحفظ مشركي العرب ، إنما هو الآية بعد الآية ، والكلمة بعد الكلمة ، أو السورة بعد السورة من السور القصار ، وكانت هذه الآيات مغمورة في جملة القرءان ، وفي السور الطوال ، فبهذا لم يهتموا بمعارضته ؟!
قيل لهم: قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وآله كان يتلو القرءان على أصحابه ، وعلى من كان يفد عليه من المشركين من أحياء العرب ومدنها ، ثلاثا وعشرين سنة حتى تَحَقَّقَه الخلق من الصحابة ، وكانوا يتلونه في المحافل والمجامع ، وبين أهليهم في صلواتهم ومدارسهم ومجالسهم ، وكان المشركون يسمعون ذلك ، ويقرع (1) أسماعهم ، وإن لم يكونوا يحفظونه .
وانتهى الاسلام في هذه المدة إلى اليمن ، وسائر نواحي العرب ، ويكفي في آية واحدة من آيات التحدي أن تقرع أسماعهم . فكيف يصح أن يقال: إنهالم تبلغهم ؟! إلا أن يكون الله تعالى قد صرفهم عن سماعها ، ولئن جاز ذلك ، فالصرف من عظيم المعجزات .
على أن عامة آيات التحدي إنما هي في السور المكية ، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وعلى أهله وهو بمكة شغل بالجهاد ، وبيان الاحكام . وإنما كان أكثر شغله صلى الله عليه [وآله وسلم] الدعاء الى الله تعالى ، وقراءة القرءان ، على ما كان يستدعيه .
__________
(1) يقرع: يعنف ، والتقريع: التعنيف .

يؤكد ما ذكرناه ويوضحه: الآثار الواردة في اجتماع مشركي العرب على التشاور والنظر في حال القرءان ، وتدبر أمره ، حتى قال الوليد بن المغيرة لعنه الله: (( قد سمعت الأشعار والخطب ، وكلام الكهنة ، وليس القرءان شيئا من ذلك )) (1) ، ثم قال ما حكى الله تعالى عنه في قوله: { ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) } [المدثر] .
فالتجأ إلى أن قال: إنه سحر ، لما بهره أمره .
وروي (( أنهم اجتمعوا وتشاوروا حوله في أمره,أبو جهل لعنه الله والملأ من قريش ، قد التبس أمره (2) ، فقالوا: فعليكم برجل يعرف السحر والكهانة والشعر . فقال عتبة بن ربيعة: أنا لذلك . فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فخاطبه (3) إلى أن تلا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: { بِسْمِ اْللَّهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } [فصلت] حتى انتهى إلى قوله: { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) } [فصلت] . فقال عتبة: ناشدتك الله والرحم ، إلا كففت . وقام جزعا
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 2/722(1943) ، والترمذي في سننه 4/329(1933) ، وابن حنبل في مسنده 3/205(13145) .
(2) كذا في المخطوط .
(3) في المخطوط: فخاطب . ولعل الصواب ما أثبت .

دهشا مرعوبا . ورجع إلى أصحابه ، وذكر لهم الحال ، وعرفهم أنه تحيَّر فيه ، وأنه ليس من الشعر ، وكلام الكهنة في شيء )) (1) .
وقد حكى الله تعالى عن بعضهم أنه قال: { سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } [الأنفال: 31] ، ويقال: إنه أمية بن خلف لعنه الله (2) .
وهذا دليل على أنه عرف التحدي والتقريع فدفع عن نفسه بما قال في نفس الوقت والحال .
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما هاجر إلى المدينة ، كثر المنافقون واختلطوا بالمسلمين ، وحضروا الجماعات ومواضع الصلوات . وكذلك أهل الكتاب اختلطوا بالمسلمين حتى لم يَخْفَ عليهم عامة أحوالهم . فكيف يظن بأنه خفي عنهم آيات التحدي بواحدة .
وفي وقوف بعضهم عليها وقوف عامة المشركين , لأنهم كانوا يهدونها إليهم ولو على أجنحة الطير ، لأغراض مختلفة على ما بيناه ، فيسقط بما قلنا ما سألوه .
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم استكتمهم هذه الآيات فكتموها ، وأذاعوا سائر القرآن .
قيل له: هذا لا يصح ، ولا يظنه عاقل لوجهين:
__________
(1) رواه البيهقي في دلائل النبوة ، وابن عساكر . الدر المنثور 7/ 310 .
(2) أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه: أنها نزلت في النضر بن الحارث . الدر المنثور 4/ 56 .

أحدهما: ما بيّناه أن كتمان مثل هذا لا يصح ولا يتأتى ، ولا يجد المحاول إليه سبيلا .
والثاني: أنه كيف يستكتمهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أنه يتلو عليهم: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) } [البقرة] ، وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ } [البقرة: 174] ، وقوله تعالى: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) } [النحل] .
وكيف يُظن بالعاقل أنه يأمر أصحابه بكتمانه بعدِ ما يدَّعيه وحياً نازلا من عند الله عز وجل ، ثم يتلو عليهم في الكتمان ما ذكرناه ؟!
على أنه كيف كان يأمن أن يكون فيمن يُستكتَم من يرتد وينافق ويذيع ما استُكتِم ؟كما حكي من ارتداد عبد الله بن سرح (1) بعد ما
__________
(1) عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان قد أسلم فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم يكتب له شيئاً، فلما نزلت الآية التي في المؤمنين {ولقد خلقنا الانسان من سلالة......}. أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقا آخر...}. عجب عبد الله في تفصيل خلق الانسان فقال: تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هكذا أنزلت علي. فشك عبد الله حينئذ! وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال. وارتد عن الاسلام. فنزل فيه قول الله تعالى: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله}[الأنعام/93]. أي: نزل فيه {ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} عندما قال: لقد قلت كما قال.
وقيل: كان إذا أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {سميعا عليما} كتب {عليما حكيما}، أو {عزيز حكيم} كتب {غفور رحيم}. وأنا استبعد هذه الرواية الأخيرة، إن لم أقطع بكذبها لأنها تشكك في القرآن الكريم.
ولحق بمكة فأهدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دمه يوم فتح مكة، وكان أخا لعثمان من الرضاعة، ففر إلى عثمان فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يزل به حتى أمّنه.القصة في الدر المنثور 3/317، وأسباب النزول/156، والمصابيح للشرفي 4/70، والكشاف 2/35، والمعارف لابن قتيبة/300 في ترجمة عبد الله.

كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استكتمه كثيرا من الوحي معه ، وأملاه عليه ، على أن المسلمين كانوا لا يقرون يسيراً لشبهة حتى تنحل عنهم ، والمنافقون يتعلقون بيسير ما يظنونه شبهة ، كما روي عن عمر وغيره يوم الحديبية ، حين أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الإنصراف عنها ، أنهم قالوا: (( ألسنا وُعِدنا دخول مكة آمنين ؟ فقيل: هل عُيِّنتُ لكم هذه السنة بعينها ؟! قالوا: اللهم لا ، فسكتوا واستقامت بصائرهم )) (1) .
ولما روي أن ناقة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله ضلت . فتكلم المنافقون في ذلك ، حتى قال صلى الله عليه وعلى آله: (( إني لا أعلم إلا ما علمنيه الله تعالى )) (2) ، وذكر لهم موضع الناقة وحالها حتى وجدوها على ما وصف لهم .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 4/1832 (4563) ، ومسلم في صحيحه3/1412 (1785).
(2) أخرجه الطيالسي في مسنده1/50 (377).

والقوم الذين يراجعون هذه المراجعة ، من مستبصر يطلب بها مزيد الاستبصار ، ومنافق يحاول بها ما يجري مجرى الطعن ، كيف يظن بهم اتفاقهم على الكتمان ، لمثل هذا الأمر العظيم ؟!
ثم يقال لهم: هبكم شككتم في وقوع التحدي بمكة والمدينة أيام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، على أنا قد بينا ما يزيل الشك فيه ، ألستم تتيقنون وقوعه من أيام عمر وعثمان إلى يومنا هذا ؟! يكرر على أسماع كل مخالف لدين الاسلام ، منحرف عن تصديق الرسول صلى الله عليه وعلى آله ، ينقلونه بالتقريع ، والعيب الوجيع ، للعجز الظاهرعن الاتيان بمثله . وهذا كافٍ في التحدي ووقوعه !!
فإن قيل: فالمروي عن الأكثر: أنهم أسلموا لغير سماع القرءان ، كما روي (( أن العباس أسلم حين أخبره رسول الله صلى الله عليه وعلى آله بما كان من إيداعه المال زوجته أم الفضل لما أراد الخروج إلى بدر )) (1) .
وما روي عن (( عمير بن وهب أنه أسلم حين عرّفه صلى الله عليه وعلى آله ما جرى بينه وبين صفوان بن أمية بمكة )) (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/353 (331 ) .
(2) أخرج الطبراني في المعجم الكبير17/58 ( 188) ، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: (( جلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية ، بعد مصاب أهل بدر من قريش في الحجر بيسير ، وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وأصحابه ، ويلقون منهم عنتا إذ هم بمكة ، وكان ابنه وهب بن عمير في أسارى أصحاب بدر . قال: فذكروا أصحاب القليب بمصائبهم ، فقال صفوان: والله إنه لا خير في العيش بعدهم ، وقال عمير بن وهب: صدقت ، والله لولا دين علي ليس عندي قضاؤه ، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدي ، لركبت إلى محمد حتى أقتله ، فإن لي فيهم علة ، ابني عندهم أسير في أيديهم .
فاغتنمها صفوان فقال: علي دينك أنا أقضيه عنك ، وعيالك مع عيالي أسوتهم ما بقوا ، لا يسعهم شيء نعجز عنهم .
قال عمير: اكتم علي شأني وشأنك . قال: أفعل .
قال: ثم أمر عمير بسيفه فشحذ وسم ، ثم انطلق الى المدينة ، فبينا عمر بن الحطاب بالمدينة في نفر من المسلمين يتذاكرون يوم بدر وما أكرمهم الله به ، وما أراهم من عدوهم ، إذ نظر إلى عمير بن وهب قد أناخ بباب المسجد متوشح السيف ، فقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب ، ما جاء إلا لشر ، هذا الذي حرش بيننا ، وحزرنا للقوم يوم بدر ، ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وآله سلم ، فقال: يا رسول الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا السيف .
قال: فأدخله ، فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها ، وقال عمر لرجال ممن كان معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله صلى الله عليه وآله سلم فاجلسوا عنده ، واحذروا هذا الكلب عليه فإنه غير مأمون . ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وعمر آخذ بحمالة سيفه ، فقال: أرسله يا عمر ، ادن يا عمير ، فدنا ، فقال: أنعموا صباحا ، وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير ، السلام تحية أهل الجنة .
فقال: أما والله يا محمد إن كنت لحديث العهد بها .
قال: فما جاء بك ؟!
قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا إليه .
قال: فما بال السيف في عنقك ؟!
قال: قبحها الله من سيوف ، فهل أغنت شيئا .
قال: اصدقني ما الذي جئت له ؟
قال: ما جئت إلا لهذا .
قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فتذاكرتما أصحاب القليب من قريش ، فقلت: لولا دين علي وعيالي لخرجت حتى أقتل محمدا ، فتحمَّل صفوان لك بدينك وعيالك على أن تقتلني ، والله حائل بينك وبين ذلك .
قال عمير: أشهد أنك رسول الله ، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء ، وما ينزل عليك من الوحي ، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فوالله إني لأعلم ما أنبأك به إلا الله ، فالحمد لله الذي هداني للإسلام ، وساقني هذا المساق . ثم شهد شهادة الحق .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله سلم: فقهوا أخاكم في دينه ، وأقرئوه القرآن ، وأطلقوا له أسيرهم .
قال: يا رسول الله إني كنت جاهدا على اطفاء نور الله ، شديد الأذى على من كان على دين الله ، وإني أحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله وإلى الاسلام ، لعل الله يهديهم ، وإلا آذيتهم كما كنت أؤذي أصحابك في دينهم . فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة ، وكان صفوان حين خرج عمير بن وهب قال لقريش: أبشروا بواقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر ، وكان صفوان يسأل عنه الركبان حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه ، فحلف أن لا يكلمه أبدا ، ولا ينفعه بنفع أبدا ، فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الاسلام ، ويؤذي من يخالفه أذى شديدا ، فأسلم على يديه ناس كثير )) .

إلى غير ذلك مما روي من إسلام خلق كثير ، لأسباب مختلفة غير سماع القرءان ، وهذا يضعف تعلقكم بالقرءان ، وبأن التحدي به كان قد وقع .
قيل: هذا يلزم من قال: إنه لا معجز له صلى الله عليه وعلى آله سوى القرءان ، ولا أعرف مسلما يقول ذلك ، أو يعتقده . وإذا كان هذا هكذا فليس ذلك طعنا فيما نذهب (1) إليه ، وسنفرد إن يسَّر الله
__________
(1) في المخطوط: ذهب . ولعل الصواب ما أثبت .

8 / 32
ع
En
A+
A-