المسلمين. وكان يمسك بيت المال بيده ويحفظه بنفسه ولا يثق فيه بأحد ، ويفرّق على الجند بيده ، ويوقّع في الخطوط بيده .
ويُحكى أنه رضي الله عنه اشتهى يوماً من الأيام لحمَ حوت ، فبعث الوكيل إلى السماكين فلم يجد فيها إلا حوتاً لم يقطع ، وقالوا: لا نريد أن نقطعه اليوم ، فعاد إليه وأخبره بامتناعهم من قطعه. فوجّه به ثانياً وقال: مرهم عني بقطعه ، فأبوا بقطعه ، فلما عاد إليه حمد الله على أن رعيته لا تحذر جنبته ، وأنه عندهم ورعاياه سواء .
وكان قدس الله روحه كثير الحِلْم عظيم الصفح. يُحكى أنه دخل المتوضأ ليجدد الطهارة فرأى فيه رجلاً متغير اللون يرتعد فزعاً ، فقال له: ما دهاك ؟ فقال: إني بعثت لقتلك. قال: وما الذي وَعَدُوك عليه ، قال: بقرة ، قال: ما لنا بقرة ، وأدخل يده في جيبه وناوله خمسة دنانير وقال: اشتر بها بقرة ولا تعُد إلى مثل ذلك .
وحُكي أنه قدس الله روحه كان يسير في طريق كلار فطلب ممِطَراً له من بُندار صاحبه ، فقال: هو على بغل لبيت المال ، فأنكر عليه وقال: متى عهدتني أستجيز حمل ملبوسي على دواب بيت المال ؟ فأمر بإخراجه وتوفير الكراء من ماله. وكان يصرف عليه السلام من خاص ماله إلى بيت المال ما يكون عوضاً عما يرسله الكتّاب في أول الكتب وتفرجه بين السطور إلى الكبار .
وحكي أن شيئاً من المقشَّر حُمل إلى داره لصرفه في مصالح المسلمين ، فالتقط منه حبّاتٍ بعضُ الدجج التي تُقتنى لأكله خاصة ، فغرم من ماله أضعاف ذلك ، وقيل: إنه صرف الدجج إلى بيت المال .
ورورى أن ولده الأمير أبا القاسم شكا إليه ضيق يده وقلة نصيبه من بيت المال ، واستأذنه في الإنصراف ، فأطلق له ذلك ، فقال له أصحابه: إن أبا القاسم فارس فَارِهٌ ولا غنى عن مثله ، فلو أطلق له ما يكفيه ، فقال: إني أدرّ عليه ما نَصيبه ولا يمكن الزيادة عليه ، فإن الله سبحانه أمر بالتسوية بين الأولاد والأجانب .
وكان له صديق يتحفه كل سنة بعدد من الرمان ، فلما كان في بعض السنين زاد على رسمه وعادته ، فسأله عن ذلك؟ فقال: لأن الله زاد في رماننا فزدنا في رسمك. فلما أراد الخروج شكا عن بعض الناس ، فقال: رُدّوا عليه رمانه كله ، وأمر بإزالة شكايته ودفع الأذى عنه ، إلى غير ذلك من الحكايات الجمة في ورعه وزهده وتقشفه (1) .
جهاده
عاش المؤيد بالله في عصر يموج بالفوضى والفتن ، يحكمه الاستبداد السياسي ، وتتقاسمه الدويلات المتنازعة الخارجة على بني العباس بعد ضعف دولتهم المركزية ، وحصادهم نتائج استبدادهم وجورهم وتحكمهم في مصائر البلاد والعباد ، وجعلهم مال الله دولا وعباده خولا .
وقد نهض المؤيد بالله داعياً إلى الله ، خارجاً على الظلمة ، فكان أول خروج له سنة (380هـ) قبل وفاة الصاحب بن عباد بأربع سنوات ، وفشلت حركته ، فخلصه الصاحب من انتقام بني بويه الذين كانوا يحكمون
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 263 - 265.
الجيل والديلم في تلك الفترة. ثم عاد مرة أخرى فقام بالإمامة وبايعه الجيل والديلم واستتب له الأمر في تلك البلاد فترات ، وخرج من يده فترات أخرى ، وخاض حروباً طاحنة ، وجابه معارضين أشداء ، منهم: أبو الفضل بن الناصر. وتغلب عليه السلام على (( هوسم )) ثم هزمه (( شوزيل )) ، فعاد إلى الري ، ومكث بآمل حتى جاءته الكتب بمناصرة الجيل والديلم ، فعاد وافتتح مدينة هوسم ، ثم افتتح آمل ، وبقي عليه السلام في كر وفر وجهاد يطول شرحه ، حتى توفاه الله يوم عرفة سنة (411هـ) (1) .
منهجه في الحكم
أما عن منهجه في الحكم ورؤيته للسلطة فيمكن أن يتبينه القارئ من كتاب دعوته الذي ضمنه المبادئ والأفكار التي قام من أجلها ، والذي حدد فيه ما يجب عليه تجاه المجتمع ، وما يجب له إن عدل من الطاعة .
قال: عباد الله إني رأيت أسباب الحق قد مرجت ، وقلوب الأولياء به قد خرجت ، وأهل الدين مستضعفين في الأرض ، يخافون أن يخطفهم الناس ، ورأيت الأموال تؤخذ من غير حلها ، وتوضع في غير أهلها ، ووجدت الحدود قد عطلت ، والحقوق قد أبطلت ، وسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بدلت وغيرت ، ورسوم الفراعنة قد جددت واستعملت ، والآمرين بالمعروف قد قلوا ، والناهين عن المنكر قد وَهنوا فذلوا ، ووجدت أهل بيت لانبي صلى الله عليه وآله وسلم مقموعين مقهورين مظلومين ، لا
__________
(1) يرجع في ذلك إلى الحدائق الوردية 2/ 73 - 78.
يؤهلون لولاية ولا شورى ، ولا يتركون ليكونوا مع الناس فوضى ، بل منعوهم حقهم ، وصرفوا عنهم فيهم ، فهم يحسبون الكف عن دمائهم إحسانا إليهم ، والانقباض عن حبسهم وأسرهم إنعاماً عليهم ، يطلبون عليهم العثرات ، ويرقبون فيهم الزلات ، ووجدتهم في كل واد من الظلم يهيمون ، وفي كل مرعى من الضلال يسيمون بعضه بعضا ، وأموال تنهب نهباً ، لا يرقبون في مؤمن ألاًّ ولا ذمة ، وأولئك هم المعتدون ، ? ?????? ?????????? ????????????? ???????????? ??????????????? ???????? ????????? ????????????? ? ???????????? ???????? ?????????????? ???????? ???? ? [النساء:10] .
ووجدت الفواحش قد أقيمت أسواقها وأدية نفاقها ، لا خوف الله يُذع ، ولا حتى الناس يمنع ، بل يتفاخرون بالمعاصي ، ويتنابزون ويتباهون بالإثم ، قد نسوا الحساب ، وأعرضوا عن ذكر المآب والعقاب ، فلم أجد لنفسي عذراً أن قعدت ملتزماً أحكامهم ، متوسط آثامهم ، أونسهم ويونسوني ، وأسالمهم ويسألموني ، فخرجت أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ، وسبحان الله وما أنا من المشركين .
أيها الناس أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، والرضى من آل محمد ، ومجاهدة الظالمين ، ومنابذة الفاسقين ، وإني كأحدكم لي ما لكم وعلي ما عليكم ، إلا ما خصَّني الله به من ولاية الأمر ، يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ? ??????????? ????? ???? ????????????? ??????????? ?????? ??????? ???????? ???? ? [الأحقاف:31] ، استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مردّ له من
الله ، ما لكم من ملجأ يومئذ ، وما لكم من نكير ، تعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول .
أيها الناس سارعوا إلى بيعتي ، وبادروا إلى نصرتي ، وازحفوا زحفاً إلى دار هجرتي ، انفروا خفافاً وثقالا ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ، ولا تركنوا إلى هذه الدنيا وبهجتها ، فإنها ظل زائل ، وسحاب حائل ، ينقضي نعيمها ، ويضعن مقيمها ، والآخر خير وأبقى أفلا تعقلون ، وإن الدار الآخرة لهي الحياة لو كانوا يعلمون ، تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين .
أيها الناس مهما اشتبه عليكم فلا يشتبه عليكم أمري ، أنا الذي عرفتموني صغيرا وكبيرا ، وزاحمتموني طفلا وناشئا وكهلا ، قد صحبت النساك حتى نسبت إليهم ، وخالطت الزهاد حتى عرفت فيهم ، وكاثرت العلماء ، وحاضرت الفقهاء ، فلم أخل عن مورد ورده عالم بارغ ، ومشرع شرع فيه متقن فارع ، وجادلت الخصوم نصحاً عن الدين ونضالاً عن الحق المبين ، حتى عرفت مواقفي ، وكتبت وحفظت طرائقي ، وأثبت هذا وما أثري نفسي في أثناء هذه الأحوال ، ومجامع هذه الخصال ، من تقصير وتعذير ، ولا أزكيها بل أتبرأ إلى الله من حولها وقوتها ، وإن جميع ذلك من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم .
وأما نسبي إلى جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدونه فلق الصباح ، ولا عذر لكم أيها الناس في التأخر عني ، والاستبداد دوني ، وقد
ناديت فأسمعت لتجيبوا دعوتي ، وتنجروا لنصرتي ، وتعينوني على ما نهضت له من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ? ??????? ?????????? ????????? ???? ??????? ???????????????? ?????? ??????????? ???????? ???????? ??????? ??????????? ??????? ?????? ??????? ???????????? ????????????? ???? ? [المائدة:78] ، ? ??????? ??????? ?????????? ????????????? ????????? ? [آل عمران:110] ، ألا فاعينوني على أمري ، وتحرَّوا بجهدكم نصرتي ، أوردكم خير الموارد ، وأبلغكم أفضل المحامد .
عباد الله أعينوني على إصلاح البلاد ، وإرشاد العباد ، وحسم دواعي الفساد ، وعمارة مناهل السداد ، ألا ومن تخلف عني وأهمل بيعتي ، إلا لسبب قاطع أو لعذر مانع بين الحجة ، فإني أجاثيه للخصام يوم يقوم الأشهاد ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ، يوم الآزفة ، فأقول: ألم تسمع قول جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من سمع واعيتنا أهل البيت لم يجبها كبه الله على منخريه في النار )) ، ألا فاسمعوا وأطيعوا ، انفروا خفافا وثقالاً ، وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ، قل إن كان آباؤكم وأبناءكم ... الآية ، فليتفق كلمتكم ، وليجتمع شملكم ، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين .
ألا وقد سلك سبيل من مضى من آباءي الأخيار ، وسيلفي النجباء الأبرار في منابذة الظالمين ، ومجاهدة الفاسقين ، مبتغياً فيه مرضات رب العالمين ، فاسلكوا أيها الإخوان سبيل أتباعهم الصالحين ، وأشياعهم البررة الخاشعين ، في المعاونة والمظاهرة ، والمكاتف والموازرة ، وتبادروا رجالاً ، وسارعوا إليَّ
إرسالاً ، وإياكم والجنوح إلى الراحة طالبين لها وجوه العلل ، مغترين بما فسح الله لكم من المهل ، وعن قليل يحق الحق ، ويبطل الباطل ، ويعاين كل امرئ ما اكتسب ، ويجازى كلٌ بما اجترم ، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ، فستذكرون ما أقول لكم ، وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد (1) .
وفاته
توفي عليه السلام يوم عرفة سنة (411هـ) عن (78 سنة) ، ودفن في يوم الأضحى ، وصلى عليه السيد (( مانكديم )) ، وبني عليه مشهد مشهور مزور في لنجا من محافظة مازندران بإيران.
عرج على قبر بصعدة ... وابك مرموسا بلنجا
واعلم بأن المقتدي بهما ... سيبلغ ما ترجا
__________
(1) الحدائق الوردية 2/ 86 - 87.
هذا الكتاب
يعد هذا الكتاب من أهم الكتب التي تناولت مسألة النبوة ، إثباتا لها ، أو دفاعا عنها ، بل أهمها على الاطلاق ، إذ لم أعثر فيما قرأت على كتاب من هذا القبيل ، فهو بحق يعد أهم كتاب إسلامي تناول هذا المسألة بالبحث والتمحيص والايراد والرد ، فقليلٌ أولئك الأفذاذ من علماء الاسلام ، الذين يحيطون بعلوم الاسلام وعلوم الأديان الأخرى ، كالتوراة والانجيل والزبور وغيرها من الكتب والصحف التي نزلت على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ، والمؤيد بالله أحد أولئك ، بل أبرزهم بلا شك ، ولأن مؤلفه عاش في القرن الرابع الهجري ، فقد ولد سنة (333 هـ ) ، فهو يعد وثيقة تاريخية هامة ، تكشف لنا بجلاء ما كان يواجهه الاسلام آنذاك من تحديات فكرية وعقائدية ، وتبرز لنا أيضا الدور الكبير والمتميز الذي اضطلع به أئمة الاسلام ، والعلماء الكرام لمواجهة تلك التحديات ، وتلك المؤامرات .
وكنت قد أزمعت على إيراد دلالات وبشارات أخرى من الكتب السماوية الأخرى ، سيما إنجيل (( برنابا )) ، وفيه الكثير الكثير من هذا القبيل - ولهذا السبب تنكره النصارى إضافة إلى النصوص التي تؤكد وحدانية الله سبحانه - ثم عدلت عن هذا الرأي ، مكتفيا بتصحيح النصوص التي أوردها المؤلف ، ومقارنتها بالتوراة والانجيل ومزامير داود - الزبور - على أن أعد بحثا مستقلا في وقت لاحق إن شاء الله تعالى .
وقد طبع هذا الكتاب عام (1979م) ، بتحقيق الأستاذ خليل أحمد إبراهيم الحاج ، إلا أنه نفد من الأسواق ، إضافة إلى وجود أخطاء عدة في
هذه الطبعة . ولم نعثر إلا على مخطوطة واحدة منه ، كتب في آخرها: صادف الفراغ منه غرة شهر شعبان من شهور سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ، وصلى الله على رسوله محمد وعلى آله ، وسلم تسليما كثيرا .
موجودة في معهد إحياء المخطوطات العربية ، التابع لجامعة الدول العربية ، والذي أحضِّر فيه الماجستير حاليا.
سائلا الله أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه ، وأن ينفع به ، إنه سميع مجيب ، والحمد لله رب العالمين .
عبد الكريم أحمد جدبان
اليمن - صعدة 12/ رمضان/ 1423ه
الموافق 17 / 11 / 2002م
- - -
l
الحمد لله ذي الفضل والإحسان ، المخوِّل من شاء من عباده سوابغ الأنعام ، الذي هدانا لدينه ، وأوضح سواء السبيل ، بما نصب من أدلته الباهرة ، وحجته القاهرة ، { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) } [الأنفال] .
ثم أرسل إلينا خير مولود ، وأكرم مبعوث ، رحمة للعالمين ، [وهدى] للمتقين ، { لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) } [يس] ، فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين .
وإني لما رأيت غثاء الملحدة ورعاعها ، مجتهدة لإدخال الشُّبَه في معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم على أنفسنا ، وعلى مَن قادته يد الشقاء ، وسلكت به خبط العشواء ، من جهال العوام وأوباشها ، فهم عن الحق اليقين معرضون ، وعن الصراط السوي ناكبون . قد استهواهم الشيطان ، واستزلهم الطغيان { نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) } [الحشر] . يظنون بجهلهم وعماهم أنهم قد فطنوا لما جهله العلماء ، واستدركوا ما فات أهل الدين ، وتنبهوا عما غبي عنه فضلاء المسلمين .