قال الشهيد حميد: كان وحيد عصره ، وفريد دهره ، والحافظ لعلوم العترة عليهم السلام ، والناصر لفقه الذرية الكرام (1) .
وقال أيضا: كان عليه السلام ( بحرا يقذف بالدرر ، وجونا يهطل بالدرر ، لم يبق فن إلا وقد بلغ فيه الغاية ، وأدرك النهاية ) (2) .
وقال مصنف سيرته الإمام الموفق بالله: كان عارفاً باللغة والنحو ، متمكناً من التصرف في منثورها ومنظومها ، وكان يعرف العروض والقوافي ونقد الشعر ، وكان فقيهاً بارعاً متقدماً فيه مناظراً. وكان متقدماً في علم الكلام وأصول الفقه ، حتى لا يعلم أنه في أي العلوم الثلاثة كان أقدم وأرجح. ولم يبلغ النهاية في العلوم الثلاثة غيره ، وإنما تقدم في علم أو علمين. وكان قد قرأ على الشيخ المرشد أبي عبد الله البصري ، ولقي علماء جميع عصره واقتبس منهم. وعلق زيادات الشرح بأصفهان عن قاضي القاضاة بقراءة غيره. وحكي عن الشيخ أبي رشيد أنه قال: لم أرَ السيد أبا الحسين منقطعا قط مع طول مشاهدتي له في مجلس الصاحب ، وكان لا يُغلب إن لم يَغلب ، وكانا يستويان إن لم يظهر له الرجحان .
وذكر بعض من صنف في أخباره ، أن الصاحب الكافي قال ذات ليلة للحاضرين: ليذكر كل واحد منكم أمنيته ، فذكروا ، فقال: أما أنا فأتمنى أن يكون السيد أبو الحسين حاضراً وأنا أسأله عن المشكلات وهو يبينها لي بألفاظه الفصيحة وعباراته المليحة. وكان قد فارقه إلى أرض الديلم .
__________
(1) الحدائق الوردية 2/65.
(2) الحدائق الوردية 2/67.
ويُحكى أن يهودياً متقدماً في المناظرة والمجادلة قدم على الصاحب ، فاتفق أنه حضر مجلس الصاحب ، فكلم اليهودي في النبوات حتى أعجزه وأفحمه ، فلما قام من المجلس ليخرج قال له الصاحب: أيها السيد أشهد أنك أوتيت الحكمة وفصل الخطاب .
وحكي عنه قدس الله روحه أنه قال: عزمت على أن أسافر إلى الأهواز للقاء قاضي القضاة أبي أحمد بن أبي علان وسماع مختصر الكرخي عنه ، فأنهيت إلى الصاحب ما وقع في قلبي ، فكتب كتاباً بخط يده وأطنب في وصفي ورفع عن قدري حتى كنت أستحيي من إيصال ذلك الكتاب ، فأوصلت الكتاب إلى قاضي القضاة ، فقال: مرحباً بالشريف فإذا شاء افتتح المختصر. ولم يزد على ذلك ولا زارني بنفسه مع تقاعدي عنه من الغد ، ولا أزارني أحدا من أصحابه .
فعلمتُ أنه اعتقد في كتاب الصاحب أنه صدر عن عناية صادقة لا عن حقيقة. فقعدت عنه ، حتى كان يوم الجمعة حضرت الجامع بعد الظهر ومجلسه غاصّ بكبار العلماء ، فقد كان الرجل مقصوداً من الآفاق ، فسئل القاضي أبو أحمد مسألة كلامية ، وكان لقي أبا هاشم فقلت لما توسط في الكلام: إن لي في هذا الوادي مسلكاً ، فقال: تكلم ، فأخذت في الكلام وحققت عليه المطالبات ، ثم أوردت أسئلة عرَّقتُ فيها جبينه ، فامتدت الأعين نحوي. فقلت بعد أن ظهرت المسألة عليه: يقف على فضلي القاضي. وسئل شيخ إلى جنبه عن مسألة في أصول الفقه ، فلما أنهى السائل ما عنده قلت: إن لي في هذا الجوّ متنفساً ، فقال القاضي: والأصول أيضا ؟! فحققت تلك
المسألة على ذلك الشيخ ، فظهر ضعفه ، فسامحته. وسئل شيخ عن يساره عن مسألة في الفقه فقلت: لي في هذا القطيع شاة ، فقالوا: والفقه أيضاً ؟! فأوفيت الكلام في تلك المسألة أيضا حتى تعجب الفقهاء من تحقيقي وتدقيقي ، فلما ظهرت المسألة كان المجلس قد انتهى. فقام القاضي من صدره وجاء إلى جنبي فقال: أيها السيد نحن ظننا أن الصدر حيث جلسنا فإذا الصدر حيث جلست ، فجئناك نعتذر إليك من تقصيرنا في بابك. فقلت: لا عذر للقاضي مع استخفافه بي مع شهادة الصاحب بخطه. فقال: صدقت لا عذر لي ، ثم عادني من الغد في داري مع جميع أصحابه وبالغ في التواضع ، فحضرته فقرأت عليه الأخبار المودَعة في المختصر فمسعتها بقراءته ، وأمدّني بأموال من عنده ، فرددتها ولم أقبل شيئا منها ، وقلت: ما جئتك عافياً مستمنحاً ، فقد كان حضرة الصاحب أوفى حالاً وأسهل منالاً ، ولم يكن هناك تقصير في لفظ ، ولا تفريط في لحظ ، ففارقته فشيعني مع أصحابه مسافة بعيدة وتأسفوا على مفارقتي (1) .
وقال أيضا: وسمعت الشيخ أبا الفضل ابن شروين رحمه الله يقول: دع أئمة زماننا ، إنما الشك في الأئمة المتقدمين من أهل البيت وغيرهم ، هل كانوا مثل هذا السيد في التحقيق في العلوم كلها أم لا ؟!
قال: وسمعت القاضي أبا الحسين الرفّاء يقول: ليس اليوم في الدنيا أشد تحقيقاً في الفقه من السيد أبي الحسين الهاروني .
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 265 - 267.
وحكي أن المؤيد بالله سئل عن الطلاق الثلاث بلفظة واحدة في مجلس الصاحب ، فكلمه القاضي أبو القاسم بن كج ، وكان إمام أصحاب الشافعي ، وآل الكلام إلى جميع من حضر من الفقهاء ، فانقطعوا في يده ، فقال الصاحب: يقال: لا علم لطائفة فيهم هذا الأسد ، يعني المؤيد بالله .
وحكي أنه ورد عليه من كلار مسائل صعبة على أصول الهادي ، فأجاب عنها ، وهذه المسائل موجودة ، فقال الصاحب: لست أتعجب من هذا الشريف كيف أتى بهذا السحر ، وإنما أتعجب من رجل بكلار كيف اهتدى إلى مثل هذه الأسئلة (1) .
وقال الشهيد حميد: ولقد حكى لي بعض أصحابنا الواصلين من ناحية العراق ، وهو الفقيه الفاضل الحسن بن علي بن الحسن الديلمي اللنجائي رضي الله عنه ، أنه بات ليلة من الليالي ومعه رجل من الصالحين ، فبات ذلك الرجل يعبد الله عز وجل والسيد المؤيد بالله بالقرب منه ، فلما طلع الفجر قام المؤيد للصلاة ، فقال له ذلك الرجل: أيها السيد أتصلي بغير وضوء ؟! فقال: لم أنم في هذه الليلة شيئا ، وقد استنبطت سبعين مسألة. ولقد كان علماء عصره يعجبون من تحقيقه وشدة تدقيقه. ولا عجب من أمر الله يؤتي فضله من يشاء ، ولذرية الرسول صلى الله عليه وآله المزّية على من عداهم ، والفضل على من سواهم .
ولقد سمعت شيخنا الفاضل العالم محيي الدين محمد بن أحمد بن الوليد القرشي الصنعاني رضي الله عنه يحكي أن السيد المؤيد بالله قدس الله روحه ،
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية /269 -270.
لما توفي وأقبل الناس إلى أخيه السيد أبي طالب عليه السلام يسألونه ، فقال له قائل: أين كان هذا العلم في حياة السيد أبي الحسين ؟! فقال: أوكان يحسن بي أن أتكلم والسيد أبو الحسين في الحياة ؟! مع أن علم السيد أبي طالب غزير ، وفهمه جم كثير ، على ما نحكي ذلك .
وروينا أنه قيل لأخيه السيد أبي طالب عليه السلام: أتقول بإمامة أخيك؟ فقال: إن قلنا بإمامة زيد بن علي ، فما المانع من القول بإمامة أخي؟! فانظر كيف شبهه عليه السلام بأعلى الأئمة قدراً ، وأغزرهم علماً ، لأنا قد بيّنا أنه أقام خمسة أشهر يفسر سورة الحمد والبقرة ، وذكرنا غير ذلك مما يكثر (1) .
وقال أيضا: كان في بعض الليالي يطالع مسألة مع الملحدة الدهرية ، فاشتبه عليه جواب مسألة ، فأمر باتخاذ مشعلة وقصد باب قاضي القضاة ، بعد قِطْع من الليل وهدوء الناس والأصوات ، فأُخبر قاضي القضاة بحضوره ، فاشتغل خاطره وهيأ مكاناً وجلس فيه حتى إذا دخل عليه وجاراه في تلك المسألة وانفتح له جوابها واتضح لديه ما كان منها ، قال له قاضي القضاة: هلا أخّرت إلى الغد وتعنيت في هذا الوقت ؟ فقال المؤيد مغضباً من كلامه متعجبا: ما هذا بكلام مثلك !! أيجوز لي أن أبيت وقد أشكلت علي مسألة ، ويمكننني أن أجتهد في حلّها ؟! فاعتذر إليه قاضي القضاة وقال: إنما ذكرت هذا الكلام على الرسم الجاري من الناس ، وطيَّب قلبه وعاد إلى منزله (2) .
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 268 - 269.
(2) أخبار أئمة الزيدية / 271.
وقال الموفق بالله: وحُكيَ أنه وقع بينه وبين قاضي القضاة وحشة واستزادة بسبب مسألة الإمامة ، فتقاعد عن لقائه حدود شهر ، حتى ركب إليه قاضي القضاة وقال له: قد بلغك حديث جدك الحسن بن علي وأخيه الحسين وقول الحسين: لولا أن الله فضلك في السن علي حتى أردت أن يكون السبق لك إلى كل مكرمة ، لسبقتك إلى فضل الاعتذار ، فإذا قرأت كتابي هذا فاسبق إلى ما كتب الله لك من حق السبق ، والبس نعلك وقدِّم في العذر والصلح فضلك. فقال المؤيد بالله: قد أطاع قاضي القضاة أيضا فضل سهمه وعلمه ، وعمل بمقتضى ما زاده الله من سهمه ، واعتنقا وطالت الخلوة والسلوة بينهما .
وكان الصاحب يقول: الناس يتشرفون بالعلم والشرف ، والعلم تشرف بقاضي القضاة ، والشرف ازداد شرفاً بالشريف أبي الحسين .
وكان الصاحب يعظمه كل الإعظام ، وكانت يمينه للسيد المؤيد بالله ، ويساره لقاضي القضاة ، وكا لا يرفع فوق المؤيد أحداً ، إلى أن قدم العلوي رسولاً من خراسان وكان محتشماً عند السلطان ملك الترك الخاقان الأكبر مبجلاً عنده ، حتى أن الصاحب استقبله ، فلما دخل عليه أجلسه عن يمينه ، فلما دخل المؤيد بالله رآه على مكانه فتحير ، فأشار غليه الصاحب أن يرتفع إلى السرير الذي استند إليه الصاحب ، فصعد المؤيد بالله إلى السرير وجلس في الدست الذي كان عليه (1) .
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 271 - 272.
شعره
من شعره عليه السلام قوله:
تُهذِّبُ أخلاقَ الرجالِ حوادثٌ ... كما أنَّ عينَ السَّبك يُخلصه السَّبكُ
وما أنا بالواني إذا الدهرُ أمَّني ... ومن ذا مِنَ الأيام ويحكَ ينفكُّ
بلانيَ حيناً بعد حينٍ بلوتهُ ... فلم أُلفَ رِعديداً يُنهنهُهُ السَّهكُ
وحنَّكني كَيْما يقود أزمَّتي ... فطحطحتُهُ حنكاًَ وما عقَّني الحنكُ
ليعلمَ هذا الدهرُ في كلِّ حالةٍ ... بأنّي فتى المضمارِ أصبحَ يَحتكُّ
نماني آباءٌ كرامٌ أعزَّةٌ ... مراتبُها أنَّى يُحيطَ بها الدَّركُ
فما مُدركٌ بالله يبلُغُ شأوهَم ... وإن يكُ سبَّاقاً فغايتهُ التَّركُ
فلا بَرقُهم يا صاحِ إن شِمتَ خُلَّبٌ ... ولا رفدُهم ولسٌ ولا وعدُهُم إفكُ
بهم زَهَتِ الأعرابُ في كلِّ مشهدٍ ... سكونٌ ولخمٌ ثم كِندةُ أوعكُّ
وقال عليه السلام يمدح الصاحب الكافي:
سقى عهدها صوبٌ من المُزنِ هاطلٌ ... تحيَّى به تلك الرُّبى والمنازلُ
منازلُ نجمُ الوصل فيهنَّ طالعٌ ... يُضيءُ ونجمُ الهجرِ فيهنَّ آفلُ
ومُرتبعٌ للَّهوِ بينَ ربُوعها ... مسارحُهُ مأنوسةٌ والمناهِلُ
رياضٌ حَكَتْ أبرادَ صنعاءَ رُقمُها ... غداةَ حباها الوشيَ طلٌّ ووابلُ
وكلُّ سحابٍ شافَهَ الأرض قُربهُ ... كأنَّ التِماعَ البرقِ فيه مشاعلُ
سحبنا عطافَ اللهو في عرصاتها ... وعنَّ لنا فيها غزالٌ مغازلُ
وطابت بها الأيامُ إذ سمحتْ لنا ... بما سَمَحَت والدهرُ عنهنَّ غافلُ
وكان شبابي عاذلاً لعواذِلي ... وليس لها في أنْ تُعاتبَ طائلُ
نَعِمنا بها لم نعرفِ البؤسَ والأسَى ... فلا الجهلُ مُنتابٌ ولا الوصلُ راحلُ
كأنيَ أُغرى بالصبابةِ كُلمَّا ... وشَى بيننا الواشي ولجَّ العواذلُ
لياليَ عينُ الوصلِ فيها قريرةٌ ... كما أَنَّ دمع الهجرِ أَخرقُ هاملُ
وإذ لِمَمي للغانياتِ صوائدٌ ... ولي حَولَ ربّاتِ الحجالِ حبائلُ
أجُرُّ رِدائي صبوةً وصبابةً ... هُما شيمٌ أرضى بها وشمائلُ
إلى أن بدا للشَّيبِ بين مفارقي ... أساطيرُ لم تنهض لهنَّ أناملُ
فللأُنس عنّي حيثُ كنتُ تنكُّبٌ ... وللهمِّ حولي حيث سرتُ قنابلُ
أتانا الربيعُ الغضُّ في ثوبِ عفَّةٍ ... فجاءَ به أُنس من الغيِّ حائلُ
إذا حاول الضَّلالُ إسعافَ أهله ... فمِن دون ما يبغي مِنَ الصَّومِ خامل
كذا مَنْ يسوسُ الصاحبُ القرمُ أمرهُ ... تتمُّ له النُّعمى وتَزكو الفضائلُ
ولمَّا انتحى النَّيروزُ خدمةَ بابه ... تنسَّكَ حتى ليسَ ينحوهُ باطلُ
غَدَا سيفه الظمآنُ في اللهِ مُصلتاً ... على منكبِ الجوزاء منه الحمائلُ
وفصلُ خطابٍ لم تنله الأوائلُ ... إذا عَنَّ لم تشمخ بسحبانَ وائلُ
تبلَّجُ عنه غُرَّةُ الدين والهدى ... وشخص الرَّدى من وقعه مُتضائلُ
دعا دعوةً لله جرَّدَ سيفها ... فللكفر منها حيثُ شاء زلازِلُ
ولمَّا شكت أرضُ الجبال خطوبَها ... ولاذَت به حين اعترتها الغوائلُ
وأَذرَت دُموعاًَ مثلَ نائله الذي ... يفيضُ وهَلْ تُغني الدموعُ الهواملُ
دعا نحوها عزماً كَبَا البرقُ دونَه ... وكلَّ لديه السيفُ والسيفُ قاصلُ
فشقَّ ظلام الظُّلم عن وجه أهلها ... ولم يبقَ فيها عن سَنَا العدل عادل
وأوضح فيها للنجاةِ دلائلاً ... وقد غُمِرت تلك النُّهى والدلائلُ
ومِنْ قبلُ ما حكَّمتَ قي كل مارقٍ ... أقامَ مقامَ الرّوحِ منه المَناصل
صوارمَ واصلن الطُّلى فألِفْنَها ... وإنَّ قضايا المُرهَفاتِ فواصلُ
وشرَّدت من أبقت سيوفُك منهمُ ... ومن دونِ ما لاقوهُ تَطوي المراحِل
وليس لهم إلا السيوفُ منازلٌ ... وليس لهم إلا الحُتوفُ رواحِلُ
ألا أَيُّهذا الصاحبُ الماجدُ الذي ... أناملُه العُليا غُيوثٌ هواطِلُ
أناملُ لو كانت تُشيرُ إلى الصَّفا ... تفجَّرَ للعافينَ منها جَداول
لأَغنيتَ حتى ليس في الأرض مُعدمٌ ... وأعطيتَ حتى ليس في الأرض آملُ
وكم لك في أبناءِ أحمدَ من يدٍ ... لها مَعلَمٌ يومَ القيامة ماثلُ
إليكَ عقيدَ المجد سارت ركابُهم ... وليسَ لهم إلا عُلاكَ وسائل
فأعطيتهم حتى لقد سئموا اللُّهَى ... وعادَ من العُذَّال من هو سائل
وأسعدتَهم والنحسُ لولاك ناجمٌ ... وأَعززتهَم والذُّلُ لولاكَ شامل
فكلُّ زمانٍ لم تزيِّنه عاطلٌ ... وكلُّ مديحٍ غير مدحكَ باطلُ
ولما قال أحمد بن محمد الهاشمي المعروف بابن سُكَّرة:
إن الخلافةَ مُذْ كانتْ ومُذْ بدأتْ ... معقودةٌ بفتىً من آل عباس
إذا انقضى عُمرُ هذا قامَ ذا خلفاً ... ما لاحتِ الشمسُ وامتدَّتْ على الناس
فقلْ لمنْ يرتجيها غيرهُمْ سفهاً ... لو شِئتَ روَّحتَ كربَ الظنِّ بالياسِ
فأجابه السيد المؤيد بالله قدس الله روحه في حال حداثته:
قُلْ لابن سُكرةٍ يا نَغْلَ عباس ... أَضحتْ خلافتكُم منكوسَةَ الراسِ
أمَّا المطيعُ فلا تُخشَى بوادِرُهُ ... يعيشُ ما عاشَ في ذُلٍّ وإتعاسِ
فالحمدُ لله رَبِّي لا شريك له ... خصَّ ابنَ داعي بتاجِ العّزِ في الناسِ(1)
فأحوج المؤيد بالله إلى مفارقة جيلان وامتد إلى الري وأنشد:
فررتُ من العُداة إلى العُداةِ ... وكنتُ عددتُهم زُمَرَ الثِّقاتِ
لقد خابتْ ظنوني عند قومٍ ... يرونَ محاسِني من سَيِّئاتي
يُهِيجونَ الغُواةَ عليَّ هيجاً ... وهم شَرٌ لديَّ من الغُواةِ (2)
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية / 274 - 280.
(2) أخبار أئمة الزيدية / 282 - 283.
ورعه وزهده وحلمه
كان عليه السلام في الورع والتقشف والاحتياط والتقزز إلى حد تقصر العبارة دونه ، والفهم عن الإحاطة به. وتصوَّف في عنفوان شبابه حتى بلغ في علومهم مبلغاً منيعاً ، وحل في التصوف والزهد محلاً رفيعاً ، وصنف سياسية المريدين. وكان عليه السلام يحمل السمك من السوق إلى داره ، وكانت الشيعة يتشبثون به ويتبركون بحمله فلا يمكِّن أحداً من حمله ، ويقول: إنما أحمله قسراً للهوى وتركاً للتكبر ، لا لاعواز مَن يحمله. وكان قدس الله روحه يجالس الفقراء وأهل المسكنة ، ويكاثر أهل الستر والعفة ويميل إليهم ، ويلبس الوسط من الثياب القصيرة إلى نصف الساقين قصيرة الكمين. وكان يرقع بيده قميصه ، ويشتمل بإزارٍ إلى أن يفرغ من إصلاحه. وكان يلبس قلنسوة من صوف أحمر مبطنة يحشوها بقطن ، ويتعمم فوقها بعمامة صغيرة متوسطة. وكان يلبس جورباً يخيطه من الخِرَق ثم يلبس البطيط. وكان لا يتقوَّت ولا يُطعم عياله إلا من ماله. وكان يردّ الهدايا والوصايا إلى بيت المال ، وكان يكثر ذكر الصالحين ، وإذا خلا بنفسه يتلو القرآن بصوت شجي حزين. وكان غزير الدمع ، كثير البكاء ، دائم الفكر ، يتأوّه في أثنائه ، وربما تبسَّم أوكشر عن أسنانه .
قال القاضي يوسف: صَحبته ست عشرة سنة فلم أره مستغرقاً في الضحك. وكان لا يفطر في شهر رمضان حتى يفرغ من العشاء الآخرة. وكان يداوم على الصلاة بين العشائين ، ويُطعم في شهر رمضان كثيراً من