من لدن إبراهيم صلى الله عليه ، إلى أن بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، فعندها هوت وتكسرت ، واشتهار ركوب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الجمل ، كاشتهار ركوب عيسى صلى الله عليه الحمار .
وفي التوارة: (( إذا جاءت الأمة الآخرة ، أتباع راكب البعير ، يسبحون الله تسبيحا جديدا في الكنائس الجدد ، فليفرح بنو إسرائيل ، ويسيرون إلى صهيون ، ولتطمئن قلوبهم ، لأنه اصطفى منهم في الأيام الآخرة أمة جديدة ، يسبحون الله بأصوات عالية ، بأيديهم سيوف ذات شفرتين ، فينتقمون ل‍ه من الأمم الكافرة في جميع الأقطار )) (1) .
وعن أشعياء النبي صلى الله عليه: (( هكذا يقول الرب إنك ستأتي من جهة التيمن ، من بلد بعيد ، ومن أرض البادية مسرعا ، قدامك الروائع والرعارع والرياح )) (2) ، والتيمن: هو ناحية الجنوب .
وعنه من فصلِ ذكرِ هاجر ، وقال مخاطبا لها ولبلادها وولدها: (( مكة قومي ، وأنيري مصباحك ، فقد دنا وقتك ، وكرامة الله طالعة
__________
(1) سبق أن ذكرنا نص المزمور التاسع والأربعين بعد المائة ، وفيه هذا النص .
(2) النص بتمامه من الترجمة الحديثة: (( فيرفع راية للأمم من بعيد ، ويصفر لهم من أقصى الأرض ، فإذا هم بالعجلة يأتون سريعا . ليس فيهم رازح ولا عاثر ، لا ينعسون ولا ينامون ، ولا تنحل حزم أحقائهم ، ولا تنقطع سيور أحذيتهم . الذين سهامهم مسنونة ، وجميع قسيهم ممدودة ، حوافر خيولهم تحسب كالصوان ، وبكراتهم كالزوبعة . لهم زمجرة كاللبوة ، ويزمجرون كالشبل ، ويهرِّون ويمسكون الفريسة ويستخلصونها ولا منقذ . يهرِّون عليهم في ذلك اليوم كهدير البحر . فإن نظر إلى الأرض فهو ذا ظلام ، الضيق والنور قد أظلم بسحبها )) . سفر أشعياء 5: 26 - 30 .

عليك ، فقد تخلل الأرض الظلام ، وغطى على الأمم الضباب ، فالرب يشرق عليك إشراقا ، ويظهر كرامته عليك ، وتسير الأمم إلى نورك ، والملوك إلى ضوء طلوعك ، ارفعي بصرك إلى ما حولك وتأملي . فإنهم سيجتمعون كلهم إليك ويحجونك ، ويأتيك ولدك من بلد بعيد ، وسترين ذلك فتبتهجين ، وتفرحين ، ويستروح قلبك ، من أجل أنه يميل إليك ذخائر البحر ، وتحج إليك عساكر الإبل ، حتى تعمرك الإبل المأبلة ، وتضيق أرضك عن القطرات التي تجتمع إليك ، ويساق إليك كباش مدين ، وتسير إليك أغنام قيدار ، وتخدمك رجال نبايوت )) (1) ،
__________
(1) النص بتمامه من الترجمة الحديثة: (( ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد ، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض ، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل ، قال الرب: أوسعي مكان خيمتك ، ولتبسط شقق مساكنك ، لا تمسكي ، أطيلي أطنابك وشددي أوتادك ، لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار ، ويرث نسلك أمما ويعمر مدنا خربة . لا تخافي لأنك لا تخزين ، ولا تخجلي لأنك لا تستحين . فإنك تنسين خزي صباك ، وعار ترملك ، لا تذكرينه بعد . لأن بعلك هو صانعك ، رب الجنود اسمه ، ووليك قدوس إسرائيل ، إله كل الأرض يدعى . لأنه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب ، وكزوجة الصبا إذا رذلت قال إلهك . لحيظة تركتك ، وبمراحم عظيمة سأجمعك . بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة ، وبإحسان أبدي أرحمك ، قال وليك الرب . لأنه كمياه نوح هذه لي ، كما حلفت أن لا تعبر بعد مياه نوح على الأرض هكذا حلفت أن لا أغضب عليك ولا أزجرك . فإن الجبال تزول ، والآكام تتزعزع ، أما إحساني فلا يزول عنك ، وعهد سلامي لا يتزعزع ، قال راحمك الرب .
أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية ، هاأنا ذا أبني بالأثمد حجارتك ، وبالياقوت الأزرق أؤسسك ، وأجعل شُرفك ياقوتاً ، وأبوابك حجارة بهرمانية ، وكل تخومك حجارة كريمة ، وكل بنيك تلاميذ الرب ، وسلام بنيك كثيرا . بالبر تثبتين بعيدة عن الظلم فلا تخافين ، وعن الارتعاب فلا يدنو منك . ها أنهم يجتمعون اجتماعا ليس من عندي من اجتمع عليك فإليك يسقط . هاأنا ذا قد خلقت الحداد الذي ينفخ الفحم في النار ، ويخرج آلة لعمله ، وأنا خلقت المهلك ليخرب . كل آلة صورت ضدك لا تنجح ، وكل لسان يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه . هذا هو ميراث عبيد الرب ، وبِرُّهم من عندي يقول الرب )) . سفر أشعياء 54: 1 - 17 .

وقيدار هو: ابن إسماعيل صلى الله عليه ، وهو جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ونبايوت: هو أخو قيدار ، وأولاده شديدو القلب .
ومن كتاب أشعياء: (( سكان البادية والمدن وقصور آل قيدار يسبحون ، ومن رؤوس الجبال ينادون ، هم الذين يجعلون لله الكرامة ، وينهون تسبيحه في البر والبحر ، يرفع علما لجميع الأمم ، فيصفر لهم من أقاصي الأرض ، فإذا هم سراع يأتون )) (1) . وقيدار بن إسماعيل هو جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ونداؤهم بالتلبية من رؤوس الجبال ، وتسبيحهم لله عز وجل هو الذي ظهر من المسلمين ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم هو صَفَّر لمواسم - أي: نادى - فأتوه مسرعين .
وفي الانجيل: قال المسيح صلى الله عليه للحواريين: (( أنا ذاهب وسيأتيكم الفيرقليط (2) . روح الحق الذي لا يتكلم من قِبَل نفسه ، إنما هو كما يقال ل‍ه ، وهو يشهد علي به )) (3) .
__________
(1) هذا النص بالمعنى من النصين المذكورين سابقا نص الإصحاح الخامس من أشعياء ، ونص الإصحاح الرابع والخمسين من أشعياء .
(2) الفيرقليط - بكسر الفاء -: كلمة عبرانية معناها: أحمد ، صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي كتب النصارى يكتبونها بفتح الفاء ليكون معناها: المحامي ، والمؤيد ، والشفيع ، والنائب عن غيره ، وهكذا . وهذا النص في إنجيل يوحنا في الإصحاح الرابع عشر وما بعده ، ومكتوب بدل فيرقليط كلمة: (( المُعَزِّي )) ، بضم الميم وفتح العين تشديد الزاي مكسورة .
(3) هذا النص بالمعنى في إنجيل يوحنا ، ونص العبارات التي اقتبس منها المؤلف بالمعنى هو: (( إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب - الله - فيعطيكم معزيا - فارقليط - آخر ، ليمكث معكم إلى الأبد ، روح الحق الذي لا يستطيع أن يقبله ، لأنه لا يراه ولا يعرفه )) . إنجيل يوحنا 14: 15 - 17 .
(( ومتى جاء المعزى الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق ، الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي ، وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء ، قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا ، سيخرجونكم من المجامع ، بل تأتي ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله . وسيفعلون هذا بكم ، لأنهم لم يعرفوا الأب ولا عرفوني . لكني قد كلمتكم بهذا ، حتى إذا جاءت الساعة تذكرون أني أنا قلته لكم . ولم أقل لكم من البداءة لأني كنت معكم . وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلني ، وليس أحد منكم يسألني: أين تمضي ؟ لكن لأني قلت لكم هذا ، قد ملأ الحزن قلوبكم . لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق ، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي . ولكن إن ذهبت أرسله إليكم . ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية ، وعلى بر ، وعلى دينونة ، أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي . وأما على بر فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضا . وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دِينَ . إن لي أموراً كثيرة أيضا لأقول لكم ، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن ، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه لا يتكلم من نفسه . بل كل ما يسمع يتكلم به ، ويخبركم بأمور آتية . ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم )) . إنجيل يوحنا 15: 26 - 27 ، و16 - 1 ... إلخ .

وفي حكاية يوحنا عن المسيح صلى الله عليه: (( الفيرقليط لا يجيئكم ما لم أذهب ، فإذا جاء وبخ العالم على الخطية ، ولا يقول من تلقاء نفسه شيئا ، ولكن مما يسمع به يكلمكم ، ويسوسكم بالحق ، ويخبركم بالحوادث والغيوب )) (1) .
وفصول كثيرة في التوراة والزبور والانجيل .
وعن أشعياء وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين غير ما ذكرنا . لكنا اقتصرنا على هذا القدر ، لأن فيه كفاية . وهذه الفصول
__________
(1) هذا النص في التعليق السابق .

يُقِرُّ بها حفاظ أهل الكتاب ، وليسوا ينكرون منها إلا اسم نبينا صلوات الله عليه ، ويتأولون النبوءات تأويلات ظاهرة الفساد .
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا عليهم: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالانجيل } [الأعراف: 157] ، وتلا حكاية عن المسيح صلى الله عليه: { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ } [الصف: 6] ، وتلا: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (70) } [آل عمران] ، وتلا: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } [الأنعام: 20] .
فلو لم تكن هذه الآيات من عند الله عز وجل ، ولم يكن اسمه مكتوبا في كتبهم ، ولم يكن أحبارهم عالمين بذلك ، لم يكن صلى الله عليه وعلى آله وسلم يورد عليهم ذلك ، لأنه لا يزيدهم إلا نفاراً عنه ، وتحققاً بتقوله ، حاشاه من ذلك ‍‍.
فإن قيل: هذا الذي حكيتم من كتب الأنبياء صلوات الله عليهم صحيح ، وهذه الصفات موجودة في تلك الكتب ، إلا أن الموصوف بها لم يجئ بعدُ بتة (1) .
__________
(1) هكذا يقول اليهود إلى اليوم في نبوءات التوراة عن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ويلقبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلقب: المسيح المنتظر ، كما يلقبون أنبياءهم وعلماءهم وملوكهم ، ليوهموا الناس أنه سيأتي من بني إسرائيل .

قيل ل‍ه: أرأيتم إن جاء مَن تدَّعونه ، ثم أنكره منكر . ما يكون برهانكم عليه ؟‍
فإن قيل: إذا جاء أتى بالمعجزات . فمهما قالوا في ذلك فهو جوابنا .
ثم يقال لهم: إذا أتى مَن توجد فيه الأوصاف المذكورة ، فيجب أن نعلم أنه هو الذي بشَّرت به الأنبياء صلوات الله عليهم ، لأنه لا يجوز أن يعرِّفنا نبي من الأنبياء أنه يأتيكم رجل حاله كذا وصفته كذا . فإذا أتاكم فافعلوا به كذا ، من تصديق أو تكذيب ، ثم يأتينا رجل بتلك الصفة ، ولا يكون هو مراداً بذلك الخبر ، بل يكون المراد غيره ، والمقصود سواه . لأنه لو كان ذلك كذلك ، كان ضربا من التلبيس ، ويجب أن يمنع الله عز وجل منه . وفي هذا إبطال هذا السؤال .
فإن قيل: بيِّنوا أن تلك الأوصاف حاصلة لنبيكم صلى الله عليه وآله وسلم ؟
قيل ل‍ه: ما جاء في التوراة: (( جاء الله من سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبل فاران )) ، لا التباس في أن المراد بقوله: (( واستعلن من جبل فاران )) هو ابتعاثه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن جبال فاران لا إشكال في أنها جبال مكة ، ولم تظهر عبادة الله عز وجل وتسبيحه وتهليله ، وخلع الأصنام والأنداد بمكة ظهوراً انتشر في الآفاق ، وتحمله الركبان ، إلا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، كما أن ظهور ذلك بظهور سيناء ، لم يكن إلا بموسى صلى

الله عليه ، وظهوره بساعير لم يكن إلا بعيسى صلى الله عليه ، وفي ذلك ثبوت أن هذه البشارة كانت بشارة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنه لو جاز أن يقال ذلك في موسى وعيسى صلى الله عليهما ، لجاز في محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وأنت إذا تأملت الأوصاف التي ذكرناها وبيَّناها ، وجدت جميعها في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصفاً وصفاً . فيتبين لك أنه الموصوف بها . فإذا ثبت ذلك ، ثبت أنه المشير بها ، لأن خلاف ذلك مما لا يجوز في حكمة الله الحكيم عز وجل .
- - -

ذكر ما قيل في أمره صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل التأكيد
اعلم أن الفصول التي ذكرناها في هذا الباب ، مِن العلماء مَن ذكر كثيراً منها على سبيل الاستدلال على صحة نبوته صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن كان الأوضح أن ذكرها على سبيل التأكيد والإيضاح ، لما تقدم من الأدلة والبراهين أولا .
وإن كان ما ذهب إليه أولئك العلماء - رحمهم الله - ليس ببعيد .
فمن ذلك: ما اختص به صلى الله عليه وآله وسلم من الأحوال التي اجتمعت فيه على وجه لم يصح أنه اجتمع في أحد ، على ما نقل وذكر ، كالحكم الذي رسخ فيه صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنه من مولده إلى مبعثه ، وإلى أن اختار الله عز وجل ل‍ه دار كرامته ، مع اختلاف الأحوال عليه ، وتقلب الأمور لديه ، ومباشرته ما باشره ، من دعاء أعدائه إلى الدين مع غلظتهم عليه ، وإظهارهم الجفاء ل‍ه من كل وجه أمكنهم ، ووجدوا السبيل إليه ، لم يقع منه ما ينسب إلى الحدة ، أو يُعدّ من الخفة ، أو يجري مجرى النزق والطيش .
ومن تتبع أخباره صلى الله عليه وعلى وآله وأحواله ، عرف ذلك وتحقَّقَه .
هذا مع أن أحدا ممن ادعا الحلم ، وانتسب إليه ، لم يخل في كثير من الأوقات مما يجري مجرى الحدة والنزق . كأحنف بن قيس ، ومعاوية

لعنه الله ، وغيرهما . فقد حكي على كل ، ولكل منهم أمور منكرة من ذلك .
ثم اختص صلى الله عليه وآله وسلم مع ذلك بالصبر في مواطن الجزع ، على وجه لم يسمع بمثله لغيره ، فقد جرى عليه في أول مبعثه صلى الله عليه وآله وسلم ما لا يخفى على حامل أثر ، ولا ناقد خبر ، من الأذى ما يطول ذكره .
ثم جرى على عمه حمزة بن عبد المطلب رحمة الله عليه بمرأى منه ومسمع . وجرى عليه صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه يوم أحد من الكفار ما جرى . وجرى عليه من المنافقين قبل ذلك وبعده ، ما هو مشهور عند أهل الآثار . ومع ما كان يقاسيه من الضر والجوع ، ويقاسي معه أهل عنايته وهو في أثناء نكد الأحوال ، لم ينفد صبره ساعة من حياة ، ولم يظهر لأحد ضيق صدره ، ولا جزع لشيء من ذلك .
ثم كان صلى الله عليه وآله وسلم من الوفاء ، بحيث لم يَدَّعِ عليه عدو مكاشح ، ولا منابذ مكافح ، خلاف ذلك ، لظهور الأمر فيه ، ثم انضم إلى ذلك الزهد الخشن ، الذي لم يُرتَبْ فيه ، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم ملك العرب ، وأقصى اليمن إلى أقصى الحجاز ، وإلى عمان ، ثم توفي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم ينقل أنه ترك عينا ولا وَرِقا .
ولا كان بنى دارا ، ولا شق نهرا ، ولا استبقى عينا .

واستأثر الله به ، وعليه دَين ، وكفن صلى الله عليه وآله وسلم في ثيابه التي كان يعبد الله فيها .
وحاله في ذلك أجمع ، كانت مشهورة عند أوليائه وأعدائه ، لم يختلف فيه اثنان ، ثم كان مع ذلك أشد الناس تواضعا . كان يأكل على الأرض ، ويجلس عليها ، ويلبس الخَلِق ، ويمشي في الأسواق ، كواحد من العامة ، ويجالس المساكين . وروي أنه كان يقول: (( إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد ، وأشرب كما يشرب العبيد )) (1) .
ثم كان مع ذلك أشجع الناس ، وأقواهم قلبا ، وأثبتهم وأشدهم جماحا ، ما فرَّ قط ، ولا خاف ، ولا كان منه ما اتفق للشجعان من حَولِه (2) ، أو قوته .
ويوم حنين لما ولَّى أصحابه مدبرين ، ثبت هو الثبات الحسن في نفر من عترته ، حتى رجع إليه أصحابه ، وأظفره الله على أعدائه . ويوم أحد لما شاع في أصحابه القتل الذريع ، وجرى على حمزة صلى الله عليه ما جرى ، ثبت أحسن الثبات ، ولم يولِّ القوم دبره ، ولم يقف موقفا - مع قلة تجلد أصحابه وكثرة أعدائه - إلا ثبت ، ولم يعرض ل‍ه فيه اضطراب ولا عجز ، ثم انضاف إلى ذلك كرمُ عفوه ، وعظيم صفحه ، مع كثرة الأعداء عليه .
__________
(1) طبقات ابن سعد 1/ 92.
(2) الحول: القوة .

30 / 32
ع
En
A+
A-