الوصفُ بالعبقرية
يقولون: إن النبوة هبة لا كسب ، وفضل يغدق ، لا نصيب يطالب به ويسعى إليه ، وهذا حق { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ } [الزخرف: 32] ، { أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (38) } [الطور] .
بَيْدَ أن هذا الخير لا ينزل اتفاقاً ، ولا يدرك اعتباطاً !
وقد حاول شاعر في الجاهلية - بكثرة الكلام في الإلهيات - أن يكون نبياً ففشل ، وتوقع نفر من الأحبار والرهبان أن يصيبوا هذا الشرف ، ففاتهم مع تشوقهم إليه ورغبتهم فيه . إن الله سبحانه وتعالى يختار لهذا المنصب العظيم أهله !!
ومَن ظن أن العصمة تمنع المحنة والابتلاء ، أو أن الرسل الكرام ليسوا أكثر من حملة وحي ، وظيفتهم التبليغ المجرد ، كأن أحدهم مكبر صوت تنفخ من ورائه الملائكة ، فليست له مواهب ، ولا استعداد خاص ، ولا امتيازات رفيعة .
مَن ظن ذلك فقد ضل في فهم المرسلين ، وجهل ما حباهم الله به من خلال ، تجعل أعظم فلاسفة الأرض لا يصل إلى مصاف أقدامهم .
إن الكتَّاب الذين ألفوا في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصفوه بالعبقرية ، يمكننا أن نقبل منهم هذا الوصف بحذر وبقدر .
نقبله إذا كان القصد منه كشف النقاب عن معالم العظمة الشخصية ، وإلقاء ضوء على البطولة الأدبية لأولئك المصطفَين الأخيار .
ونقبله إذا كان القصد منه الاعتراف بمبدأ الوحي الذي يصل المادة بما وراء المادة ، وهذا هو أساس النبو الأول .
ونرفضه إذا كان وصفاً لعظمة إنسانية معتادة ، تسلك صاحبها مع غيره من رجال التاريخ البارزين .
ذلك موقف المسلم من جمهرة المؤلفين والمؤرخين ممن كتبوا في حياة النبي الأمين " (1) .
- - -
__________
(1) عقيد ة المسلم 187-204.
ترجمة المؤلف
من الجدير بالذكر أن لخراسان وما جاورها من المناطق صلة وثيقة وقديمة ، بالتشيع لأهل البيت عليهم السلام عموما ، ولأئمة الزيدية ودعاتها خصوصا ، فالإمام يحيى بن زيد بن علي عليه السلام لاذ بخراسان وفجر ثورته من هنالك ، وأحبه الناس حتى أنه عام قتل واستشهد لم يولد ولد في خراسان إلا وسمي: يحيى ، ومشهده على مشارف الجوزجان مشهور مزور .
ومن بعده الإمام يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، والذي توجه أيضا إلى خراسان ، وكان الحسن بن زيد الملقب بالداعي الكبير مع يحيى بن عمر حين خرج إبان خلافة المتوكل والمستعين ، ولما قتل يحيى ، والذي سبق أن خرج إلى خراسان ، خرج الحسن هاربا وداعيا مع بعض أصحابه إلى الديلم ، ثم إلى طبرستان حيث نشر دعوته ، فبايعه أهلها عام (250هـ) ، ثم غزا بعد ذلك الري - طهران - ثم جرجان إلى أن توفي عام (270هـ) .
ثم تولى بعده أخوه الإمام محمد بن زيد ولقب بالداعي الصغير ، لأن بعض الزيدية لم يعدهما من الأئمة ، بل من الدعاة ، ولهذا لقبا بالداعيين .
وخرج الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام إلى آمل قبل ظهوره في اليمن ، فنزل الإمام الهادي عليه السلام مع أصحابه ومنهم أبوه ، وبعض عمومته فندقا ، فامتلأ الفندق بالناس حتى كاد السطح أن يسقط وعلا صيته في آمل ، حتى خافه محمد بن زيد ، فكتب إليه الحسن بن هشام ، وكان وزيرا لمحمد بن زيد بأن ما يجري يوحش ابن عمك . فقال: ما جئنا ننازعكم
أمركم ، ولكن ذكر لنا أن لنا في هذه البلدة شيعة وأهلا ، فقلنا: عسى الله أن يفيدهم منا ، وخرجوا مسرعين ، وثيابهم عند الخياط لم يسترجعوها .
وأقام الإمام الناصر الأطروش دولة إسلامية هنالك .
من هنا نرى أن طبرستان والأقاليم المجاورة لها ، كانت أرضا خصبة لتقبل الفكر الزيدي ، فليس غريبا أن تنشأ فيها الدولة الزيدية والتي استمرت عدة قرون .
المؤلف
هو الإمام المؤيد بالله أبو الحسين ، أحمد ، بن الحسين ، بن هارون ، بن الحسين ، بن محمد ، بن هارون ، بن محمد ، بن القاسم ، بن الحسن ، بن زيد ، بن الحسن ، بن علي ، بن أبي طالب عليهم السلام .
أبوه
هو الحسين ، بن هارون ، كان من أعبان أصحاب الناصر الأطروش ، وكان إمامي المذهب.
أمه
أم الحسن ، بنت علي ، بن عبد الله الحسيني العقيقي .
مولده
ولد بآمل طبرستان في الكلاذجة ( محافظة مازندران حاليا ) تقع في شمال إيران على بحر الخزر . ولد سنة (333هـ) .
نشأته
نشأ في أحضان أسرة علوية كريمة ، تترشف رحيق العلم العلوي ، وتتنسم عبق الخلق النبوي ، " نشأ على السداد ، وأحوال الآباء الكرام والأجداد ، وتأدب في عنفوان صباه حتى برع فيه " (1) .
أخذ في طلب العلم والتوفر على المعرفة منذ نعومة أظفاره ، مع أخيه الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين .
شيوخه
1ـ أبو العباس أحمد ، بن إبراهيم ، بن الحسن الحسني (خاله) .
2ـ أبو الحسين ، علي ، بن إسماعيل ، بن إدريس .
3ـ أبو عبد الله البصري شيخ المعتزلة المتوفى سنة (377هـ) .
4ـ قاضي القضاة عبد الجبار ، بن أحمد ، بن عبد ا لجبار ، شيخ المعتزلة المتوفى سنة (415هـ) .
5ـ قاضي القضاة أبو أحمد ، بن أبي علان .
6ـ أبو بكر المقري أحد علماء الحنفية .
7ـ الحافظ محمد ، بن عثمان النقاش .
8ـ أبو رشيد ، سعيد ، بن محمد النيسابوري .
__________
(1) الحدائق الوردية 2/65.
تلامذته
1ـ الإمام الموفق بالله أبو عبد الله الحسين ، بن إسماعيل الحسني ، والد الإمام المرشد بالله ، وصاحب كتاب (( الإحاطة )) في علم الكلام ، وكتاب (( الإعتبار وسلوة العارفين في الزهد )) .
2ـ الإمام أبو الحسين أحمد ، بن أبي هاشم ، المعروف بالشريف (( مانكديم )) وهو الذي قام بالإمامة بعده بـ(( لنجا )) سنة (417هـ) .
3ـ الشريف أبو جعفر الزيدي ، الزاهد العابد ، الذي استدعاه المؤيد بالله عليه السلام ليستخلفه أكثر من مرة فأبى .
4ـ الفقيه أبو القاسم ، بن تال الهوسمي الزيدي المتكلم ، راوي المذهب عن المؤيد بالله ، وجامع (( الإفادة ، والزيادات )) المتوفي سنة (420هـ) .
5ـ علي بن بلال الآملي الزيدي ، مولى السيد المؤيد بالله وأخيه أبي طالب ، وصاحب كتاب (( الوافي )) وتتمة (( مصابيح أبي العباس الحسني )) .
6ـ القاضي يوسف الخطيب الجيلاني صحبه ستة عشر عاما .
7ـ القاضي أبو الفضل زيد ، بن علي الزيدي .
8ـ أبو منصور ، بن شيبة الفرزاذي .
9ـ الشريف أبو القاسم ، بن زيد ، بن صالح الزيدي .
10ـ الشريف محمد ، بن زيد الجعفري .
11ـ القاضي أبو بكر الموحدي .
12ـ أبو الحسين الآبسكوني .
13ـ أبو علي ، بن الناصر الأطروش .
14ـ أبو الفوارس توران شاه ، بن خسرو شاه .
15ـ أبو عبد الله ، بن الحسين ، بن محمد سياه سريجان .
16ـ أبو القاسم يوسف ، بن كج الدينوري ، وكان إمام أصحاب الشافعي .
مؤلفاته
قال الموفق بالله: وله عليه السلام التصانيف المعجبة ، فمنها في الأصول: (( كتاب النبوات )) وهو يدل على غزارة علمه في الأصول ، ثم في الأدب ، فإنه بيّن المعارضات التي عورض بها القرآن الكريم ، وكشف عن إدحاضها وأبان عوارها بكل وجه ، وسلك في ذلك من طريقة علم الأدب ما يدل على علو منزلته وارتفاع درجته .
وله في الأصول: (( التبصرة )) كتاب لطيف ، وله في فقه الهادي عليه السلام (( كتاب التجريد )) وشرحه أربعة مجلدة استوفى فيها الأدلة من الأثر والنظر ، وأحسن فيها كل الإحسان. وله (( البلغة )) أيضا في فقه الهادي عليه السلام ، وله في فقه نفسه (( الإفادة )) مجلد ، و (( الزيادات )) مجلد ، علق ذلك أصحابه عنه. وفيه كل مسألة عجيبة ، وفتوى غريبة. ولهذين الكتابين شروح وتعاليق عدة ، ومهما طلبت الغرائب فإنها توجد في فقهه عليه السلام منصوصة (1) .
__________
(1) أخبار أئمة الزيدية /268.
من مؤلفاته:
1- كتاب إثبات النبوة. طبع عام (1979م) ، وهو هذا الذي بين يديك .
2- كتاب التجريد . في فقه الهادي يحيى بن الحسين وجده القاسم الرسي عليهما السلام .
3- كتاب شرح التجريد ، تحت التحقيق .
4- كتاب البلغة في الفقه .
5- كتاب (( الإفادة في الفقه )) . ويسمى أيضاً (( التفريعات )) ، تَوَلَّى جمعها تلميذه أبو القاسم بن تال: ويتضمن آراءه الفقهية وعليه زيادات وشروح وتعاليق عِدَّة .
6 - كتاب (( الزيادات )) . فتاوى ومسائل عليه زيادات ، وشروح ، وتعاليق عدة ، منها شرح القاضي أبي مضر.
7 - كتاب (( نقض الإمامة على ابن قبة الإمامي )) . صنفه في شبابه.
8 - كتاب (( إعجاز القرآن في علم الكلام )) . ذكره الجنداري في رجال الأزهار .
9 - كتاب (( التبصرة )) ـ وقد طبع بتحقيقي ـ عليه تعليق لإسماعيل الرازي ، وشرح للإمام الهادي الحسن بن يحيى القاسمي .
10 - تعليق على شرح السيد مانكديم. ذكره الجنداري في رجال الأزهار .
11 - الهوسميات. ذكره الجنداري في رجال الأزهار .
12 - كتاب الحاصر لفقه الناصر. ذكره حُمَيْد في الحدائق الوردية في ترجمة الناصر الأطروش .
13 - سياسة المريدين .
14 - رسالة جواب قابوس في الطعن على الصحابة. ذكره الحاكم
الجشمي في جلاء الأبصار .
15 - كتاب الدعوة .
16 - ديوان شعر . ذكره آغا بزرك الطهراني في الذريعة ج9/ق3 ص1127 . وقال: إنه ديوان ضخم .
17 - كتاب الأمالي الصغرى . طبع .
علمه
خاض الإمام المؤيد بالله في كل بحر من بحار العلم والمعرفة ، والتقط أنفس ما فيها ، فكان رأسا في علم الكلام ، والحديث ، والفقه وأصوله. أخذ علم الكلام وفق منهج المدرسة البغدادية .
كان في الأصل إماميا يرى رأيهم على طريقة والده ، بَيْد أنه كان متحرر الفكر ، لا يتقبل أي فكرة ويعتنقها إلا بعد فحص وتدقيق ، وعندما رأى بعض الأصول الإمامية لا تقوم على بينة من صريح العقل ، أو صحيح النقل ، ورأى التناقض والتعارض البيِّن في مروياتهم عن الأئمة ، أشاح بوجهه عنها ، وأخذ في البحث والنظر عن شاطئ أمان يرسو عليه ، فألقى بعصاه واستقر به النوى في رياض الزيدية ، وأحدث ذلك الانتقال هزة في صفوف الإمامية ، مما حدا بالشيخ الطوسي المعاصر له إلى أن يؤلف كتابه الشهير (( تهذيب الاحكام )) ردا عليه وتبيينا له .
قال الطوسي في مقدمة التهذيب: بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي الحمد ومستحقه ، وصلواته على خيرته من خلقه محمد وآله وسلم تسليماً ، ذاكرني بعض الأصدقاء أيده الله ممن أوجب حقه علينا
بأحاديث أصحابنا أيدهم الله ورحم السلف منهم وما وقع فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد حتى لا يكادُ يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده ، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه ، حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا ، وتطرقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا ، وذكروا أنه لم يزل شيوخكم السلف والخلف يطعنون على مخالفيهم بالاختلاف الذي يدينون الله تعالى به ، ويشنعون عليهم بافتراق كلمتهم في الفروع ، ويذكرون أن هذا مما لا يجوز أن يتعبد به الحكيم ، ولا أن يُبيح العمل به العليم ، وقد وجدناكم أشد اختلافا من مخالفيكم ، وأكثر تبايناً من مباينيكم ، ووجود هذا الاختلاف منكم ، مع اعتقادكم بطلان ذلك دليل على فساد الأصل ، حتى دخل على جماعة ممن ليس لهم قوة في العلم ، ولا بصيرة بوجوه النظر ومعاني الألفاظ شبهة ، وكثير منهم رجع عن اعتقاد الحق لما اشتبه عليه الوجه في ذلك ، وعجز عن حل الشبهة فيه ، سمعت شيخنا أبا عبد الله أيده الله يذكر أن أبا الحسين الهاروني العلوي كان يعتقد الحق ويدين بالإمامة ، فرجع عنها لما التبس عليه الأمر في اختلاف الأحاديث وترك المذهب ودان بغيره (1) .
كان الإمام المؤيد بالله ذا عارضة قوية ، وقريحة صافية ، وبديهة حاضرة ، ولسان حاد ، محاورا من الطراز الأول ، يناظر ويحاور علماء المسلمين واليهود ، فلا يسعهم إلا التسليم له ، والإذعان لحجته .
__________
(1) تهذيب الاحكام 1/3.