وروي (( أنه لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءهم آت ، يسمعون حسه ، ولا يرون شخصه ، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته ، { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [آل عمران: 185] ، إن في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفاً من كل هالك )) (1) .
فهذه أخبار مشهورة ظاهرة ، ولم نتتبع من معجزاته صلى الله عليه وآله وسلم التي رواها الواحد والاثنان . فإن ذلك يكثر ويبلغ نحو ألف معجز .
فإن قيل: فما تقولون في هذه الأخبار التي رويتموها ، هل تقولون: إنها توجب العلم على التفاصيل ؟
قيل له: في جملة هذه الأخبار أخبار توجب العلم لمن عُني بسماعها والبحث عنها ، وفيها ما يوجب اجتماعُها العلمَ على الجملة بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يظهر عليه آيات ناقضة للعادة ، ولا يمتنع أن تكون أخبار الآحاد إذا وردت تتضمن أمرا من الأمور ، أن يقع العلم بذلك الأمر على الجملة .
ألا ترى أن عامة ما يروى عن علي عليه السلام من مسائل الفقه طريقها الآحاد ، ثم يحصل العلم الضروري بأنه كان فقيها .
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك3/60 (4391) ، والشافعي في المسند 1/361 ، والطبراني في الصغير 8/110 (8120).
وكذلك حال عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وغيرهما من فقهاء الصحابة ، وكذلك كل موقف لعلي عليه السلام في الحروب ، لا يكاد يثبت إلا من طريق الآحاد ، ثم يجعل الضروري أنه كان شجاعا .
وكذلك حال الزبير ، وأبي دجانة ، وغيرهما من الشجعان من الصحابة ، وغيرهم .
وهذه الطريقة هي التي اعتمدها أصحابنا ، في إثبات إجماع الصحابة على القول بالقياس وخبر الواحد .
وبمثل هذه الطريقة يعلم جود الأجواد ، وبخل البخلاء ، وسِيَر الملوك في العدل والظلم ، فيجب على ما بيَّناه أن تكون هذه الأخبار الواردة في معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن لم يكن كل واحد منها واردا موردا يوجب العلم بجملتها ، موجبة للعلم بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كانت تظهر عليه آيات ناقضة للعادة .
فإن قيل: إن هذه الأخبار لم ينقلها إلا مَن كان مصدقا به صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا يمنع الاعتماد عليها !!
قيل له: الإعتبار في إيجاب الأخبار للعلم لا يرجع إلى أحوالهم في باب الديانات ، وإنما يرجع إلى أحوالهم في الكثرة ، وكونهم عالمين صرفة بما يخبروا به ، أو استحالة التواطؤ منهم على وضع ما يخبرون به ، فوجب بذلك سقوط هذا السؤال .
على أن هذا السائل لا يخلو:
من أن يكون من غثاء الملحدة .
أو من أهل الكتاب .
فإن كان من أهل الكتاب ، فقد علم الكل منهم أنه لم ينقل معجزات أحد من الأنبياء صلوات الله عليهم إلا من كان مصدقاً بهم ، ولم يوجب ذلك طعناً في معجزاتهم ، أو في نقلهم ، فوجب أن يكون ذلك حال نقل معجزات نبينا صلى الله عليه وآله وسلم .
وليس يؤثر فيه قول اليهود إن معجزات موسى صلى الله عليه قد نقلها النصارى والمسلمون .
وقول النصارى: إن معجزات عيسى صلى الله عليه قد نقلها المسلمون ، لأن ذلك لا يخرجها من أن يكون نقلها من جهة المصدقين بهما (1) صلى الله عليهما .
ألا ترى أن ملحدة الفلاسفة والمجوس لا ينقلون شيئا من ذلك ولا يصدقون به .
فإن قيل: فإن المخالفين لليهود في التهود ، قد نقلوا معجزات موسى صلى الله عليه ، وكذلك المخالفون للنصارى في التنصر ، قد نقلوا معجزات المسيح ، وليس للمسلمين من يخالفهم في الاسلام ، وينقل مع ذلك معجزات محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
قيل له: فليخبرنا اليهود ، هل نقل معجزات موسى عليه السلام قبل مبعث المسيح عليه السلام غير اليهود ؟!
__________
(1) في المخطوط: بها . والصواب ما أثبت .
ولْتُخبِرنا النصارى هل نقل معجزات المسيح قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير النصارى ؟!
فلا بد لهم من أن يقولوا: لم ينقل ذلك غير من ذكرتم !!
قيل له: فهل قدح ذلك في نقل معجزات موسى صلى الله عليه ، أو معجزات المسيح عليه السلام في تلك الأزمنة ؟!
فلا بد لهم من أن يقولوا: لم يقدح ذلك في نقل تلك المعجزات !!
قيل لهم: فكذلك حال نقل المسلمين معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أنه لا يقدح فيها أن غيرهم لا ينقلها .
على أنا نقول لليهود والنصارى: نحن لا ننقل شيئا من معجزات موسى وعيسى عليهما السلام إلا من جهة القرءان ، وإخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها . فلو لم تثبت نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لم يثبت عندنا شيء من معجزات موسى وعيسى عليهما السلام ، يكشف ذلك أن علمنا بنار إبراهيم صلى الله عليه كعلمنا بفلق البحر ، وإن كان اليهود والنصارى ينكرون نار إبراهيم !!
وعلمنا بكلام المسيح في المهد ، كعلمنا بإبرائه الأكمه والأبرص ، وإحيائه الموتى ، وإن كان النصارى ينكرون كلامه في المهد !!
وإنما أردنا بذلك أنا لم نعلم شيئا من ذلك إلا من جهة القرءان ، وخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وإن كان السائل من ملحدة الفلاسفة والمجوس ، قيل لهم: فأنتم أيضا قد علمتم كثيراً من أحوال أرسطا طاليس وأفلاطون ومن جرى
مجراهما ، وأخبارهم بنقل أصحابهم لها ، ولم يكن ذلك عندكم موجباً للقدح في ذلك النقل .
وكذلك يقال للمجوس: وأنتم أيضا قد عرفتم كثيراً من أخبار زرادشت ، وأخبار ملوكهم بنقل أصحابهم لها ، ولم يقدح ذلك عندكم (1) في نقلهم ، فكذلك حال نقل المسلمين لمعجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يوجب فيه قدحا !!
والأصل في هذا الباب: أن الأحوال التي يكون العهد بها متقادما ، لا ينقلها ولا يهتم بحفظ أخبارها إلا من كانت له دواعٍ قوية إلى ذلك ، فليراع ما ذكرناه في أخبار الأمم كلها ، ونقلها . وليس يجب أن يكون ذلك قادحا في شيء من النقل ، فكذلك حال المسلمين .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن هذه الأخبار كانت في الأصل ضعافا ، وإنما قويت فروعها بالديانات والعصبيات ، وتلقِّي الأتباع لها بالتصديق ، وإلا فأصولها انتشرت بنفسين أو ثلاثة من أصحاب المغازي كابن إسحاق ونحوه .
قيل له: أما من ذهب من العلماء إلى أن الاعتبار في باب الأخبار الموجبة للعلم ، هو تحصيل العلم الضروري دون أوصاف الأخبار والمخبِرين . فإن هذا السؤال ساقط عنهم .
__________
(1) في المخطوط: عندهم . ولعل الصواب ما أثبت .
فأما من راعى صفات المخبرين . فجوابه أن نقول (1): من أين لهذا السائل أن هذه الأخبار في الأصل كانت ضعيفة ؟! بل المعلوم من حالها أنها كانت في الأصل أقوى وأظهر .
ولئن جاز لقائل أن يقول في الأخبار هذا القول ، ويدعي هذه الدعوى ، من غير أن يقيم عليها برهانا ويكون لها أدلة ، لجاز أن يقال مثله في أخبار البلدان أجمع ، وسِيَر الملوك وأحوالهم كلها .
وهذا يؤدي إلى أن لا يثبت شيء من الأخبار ، ولا يصح أن يعلم بها شيء من الأمور المتباعدة . وهذا واضح السقوط ، لأنه من المعلوم من أحوال الأمم أجمع ، أنهم قد علموا من أحوال سلفهم من الملوك وغيرهم ، أمورا كثيرة من جهة الأخبار .
وهذا السؤال إن صح ، أدى إلى أن لا يصح العلم بشيء من ذلك ، وفي علمنا أن الأمر بخلاف ذلك ، مما يكشف فساده .
ثم يقال له: مما يفسد دعواك هذه ، ويوضح سقوط سؤالك هذا ، أنا قد علمنا أن هذه المعجزات لم تزل تنقل من أيام الصحابة إلى يومنا هذا ، عصرا بعد عصر ، وزمانا بعد زمان . ومن المعلوم أن هذا النقل كان ظاهرا مستفيضا قبل مولد أصحاب المغازي ، نحو ابن إسحاق وغيره . فكيف يصح أن ينسب ذلك إليهم ؟!
فإن قيل: عامة هذه الأخبار ينقلها الواحد والاثنان والثلاثة ، وما يزيد على ذلك ، ولا يمكن أن يذكر من نقلها إلا نحو هذا العدد .
__________
(1) في المخطوط: يقول . ولعل الصواب ما أثبت .
قيل له: لا يمتنع أن يكون الخبر مستفيضا شائعا يجب العلم به ، وإن كان ما نذكر من أسماء الناقلين هذا القدر .
ألا ترى أنا نعلم ضرورة أنه كان يوم بدر ، و جرى فيه ما جرى ، وظفر المسلمون على المشركين . ونعلم أيضا يوم أحد وما جرى فيه ، وكذلك سائر المغازي ، ونعلم ضرورة من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الظهر أربع ، والمغرب ثلاث . ولو تتبعنا أسماء من ينقل ذلك ممن لهم ذكر في الكتب ، لم يزد على ما ذكرتم ، وهذا لا يوجب الشك في هذه الأخبار ، فكذلك حال المعجزات .
فإن قيل: ما الفرق بين هذا النقل ، وبين نقل الإمامية نصوص أئمتهم ومعجزاتهم ؟
قيل له: الفرق بينهما ظاهر ، لا يخفى على من تأمل حال النقلين ، وذلك أن ما نقلته الإمامية من ذلك ، لم يثبت أن أئمتهم ادعوا شيئا من ذلك ، بل الثابت عنهم أنهم كانوا ينكرون ذلك ويستبرأون منه ، ولظهور إنكارهم ذلك قالت (1) الإمامية: إن ذلك الانكار منهم كان على سبيل التقية ، ولم يقولوا: إنه لا أصل له ، إلا أن يتواقح (2) اليوم بعض من يدعي الكلام منهم فيجحده ، ثم هم لم يَدَّعوا أن شيئا من ذلك كان ظاهرا على الولي والعدو .
__________
(1) في المخطوط: ذلك ما قالت . والصواب ما أثبت .
(2) من الوقاحة .
وإنما يدعون أموراً يلبسونها إلى أنها كانت في السر ، وبحيث لم تظهر إلا للواحد والاثنين ، وأحوال معجزات الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بخلاف ذلك ، لأنه لا يُرتاب في أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعي ذلك . وأن ما نقل منها وادعي ، كان على رؤوس الأشهاد ، وحضور الملأ من المسلمين والمشركين ، كما نقل ذلك في حديث الاستسقاء ، وتكثير الطعام ، وخبر الميضأة ، وما كان منه صلى الله عليه وآله وسلم من غرز السهم في بئر بالحديبية ، ونحو ذلك . فأي فرق بين النقلين أوضح وأبين مما ذكرناه ؟!!
فإن قيل: فما الفرق بين نقلكم هذا ونقل اليهود والنصارى أنهم قتلوا المسيح وصلبوه ؟!
قيل لهم: إننا لا ننكر أنهم رأوا شخصا مقتولا مصلوبا ، وأنهم في هذا القدر صادقون . وإنما شُبِّه لهم ، فظنوا أن المقتول هو المسيح .
واختلف أهل العلم في كيفية التشبيه ؟ فذهب الأكثر إلى أنه تعالى ألقى شبه عيسى صلى الله عليه على رجل من أصحابه ، فظنوا أنه عيسى (1) . وهذا التأويل عندي سائغ .
__________
(1) عن ابن عباس قال: (( لما أراد الله أن يرفع عيسى عليه السلام إلى السماء ، خرج إلى أصحابه وهم اثنا عشر رجلا من غير البيت ، ورأسه يقطر ماء ، فقال لهم: أما إن منكم من سيكفر بي اثنتي عشرة مرة ، بعد أن آمن بي ، ثم قال: أيكم سيلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ، ويكون معي في درجتي ، فقام شاب من أحدثهم سنا ، فقال: أنا ، فقال عيسى: اجلس ، ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب فقال: أنا . فقال: نعم أنت ذاك ، قال: فألقي عليه شبه عيسى ، قال: ورفع عيسى عليه السلام من روزنة كانت في البيت إلى السماء ، قال: وجاء لطلب من اليهود فأخذوا الشبيه فقتلوه ثم صلبوه ، وكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به ، فتفرقوا ثلاث فرق ، قال: فقالت فرقة: كان فينا الله ما شاء ثم صعد إلى السماء ، وهؤلاء اليعقوبية . وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه ، وهؤلاء النسطورية . وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه ، وهؤلاء المسلمون . فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقاتلوها فقتلوها ، فلم يزل الاسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله سلم ، فأنزل الله عليه: { فآمنت طائفة من بني إسرائيل } ، يعني: الطائفة التي آمنت في زمن عيسى ، { وكفرت طائفة } ، يعني: الطائفة التي كفرت في زمن عيسى ، { فأيدنا الذين آمنوا } في زمان عيسى { على عدوهم } ، بإظهار محمد صلى الله عليه وآله سلم دينهم على دين الكفار ، { فأصبحوا ظاهرين } )) . أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 6/339 (31876) .
وذهب بعض العلماء إلى أن اليهود لما لم يجدوا عيسى ، لأن الله عز وجل قد رفعه إليه ، أخذوا رجلا من أصحابه فألبسوه مثل ثيابه ، وستروا وجهه ، ثم قتلوه وصلبوه ، وأوهموا الباقين أنهم قد قتلوا المسيح صلى الله عليه ، والذين فعلوا ذلك من اليهود ، كانوا عددا يسيرا من رؤسائهم . وهذا أيضا محتمل جائز . فأي الأمرين كان ، فالأمر فيه مخالف لنقل المسلمين معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لما بيَّنا من كون عمومها لم يخفَ على المسلمين والمشركين وأهل الكتاب ، لظهورها ووقوعها على وجهِ مَن شاهدوها وعاينوها على ما ذكرناه .
فإن قيل: فما الفرق بين نقلكم هذا ونقل الصوفية معجزات بشار الراعي ، وبشر الحافي ، وإبراهيم بن أدهم ، ومن نحا نحوهم ؟!
قيل له: الفرق بينهما هو بعينه ما ذكرناه في الفرق بين نقلنا ونقل الإمامية ، لأنه لم يثبت أن هؤلاء الصالحين ادعوا شيئا من ذلك ، بل
الأظهر أنهم كانوا ينكرون ذلك خشية الفتنة ، وما جرى مجراه ، ولم يمكنهم رحمهم الله أن ينكروا (1) ذلك ، ثم من ينقله لا ينقل أن شيئا من ذلك كان بين الجمع العظيم ، وإنما يدعي أنه ظهر على سبيل الاخفاء ، أو لآخر معه . فأي اشتباه يقع بين نقل المسلمين معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وبين نقل الصوفية الذي سألتم عنه ؟!!
وقد أشار إلى هذا صاحب (2) الكتاب الملقب بـ (( الزمرد )) ، بأن قال: (( القوم الذين شاهدوا هذه الآيات ، لم يخلوا من أن يكونوا وقفوا حوله صلى الله عليه وآله وسلم على مقدار دائرة ضيقة تسع لنحو من خمسين رجلا ، أو على مقدار دائرة عظيمة تسع الخلق العظيم . فإن كانوا في مقدار دائرة واسعة ، اقتضى ذلك بُعدهم عما يشاهدونه ، وذلك يُجَوِّز التلبيس ، وأن يكون للشك فيه مسوِّغ )) .
وعن هذا بحمد الله أجوبة:
أحدها: أن يقال لهذا الجاهل المزري بعقله: أما علمت أن هذا السؤال يؤدي إلى أن لا يصح أن يعلم شيء من الأحداث والكوائن التي جرت في الدنيا من طريق الأخبار والنقل ؟!!
لأنه يصح أن يقال في كل حادثة أو كائنة: إن المحدقين بها لمشاهدتها إما إن كانوا في مقدار دائرة ضيقة أو واسعة ، فإن كانوا في مقدار دائرة ضيقة صح عليهم التواطؤ ، وإن كانوا في مقدار دائرة
__________
(1) في المخطوط: أنهم رحمهم الله ينكروا . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) هو ابن الراوندي .