ذكر جملة من المعجزات التي وردت بها الأحاديث
من المشهور الظاهر ما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال لعمار: (( تقتلك الفئة الباغية )) (1) ، وهذا جرى مخبَره بعد نحو من ثلاثين سنة على ما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم ، وهذا الحديث معلوم صحته ، لا إشكال فيه ولا لبس عند أهل النقل .
وذلك لما اشتهر من تفاوض أصحاب معاوية لعنه الله فيه ، واضطراب معاوية في تأويله ، فمرة يقول: أنحن قتلناه ؟! إنما قتله من جاء به - يعني عليا عليه السلام - حتى قال علي عليه السلام حين بلغه ذلك: (( فعلى هذا يجب بأن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل حمزة بن عبد المطلب حين حمله إلى أحد )) (2) .
ومرة يقول: نحن البغاة ، لأنا نبغي دم عثمان .
فلولا أن الحديث كان مشهورا فيما بينهم ، قد عرفوه ضرورة بالشهرة والاستفاضة ، وبكثرة من سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنكره معاوية ، ولم يشتغل بتلك التأويلات البعيدة .
وقد روى أهل النقل أن ذا الكلاع كان يفاوض معاوية لعنه الله في هذا الحديث ويضطرب في قتل عمار ، فكان معاوية يلبِّس عليه ،
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه 1/172(436) ، ومسلم في صحيحه 4/2235(2915) .
(2) وقعة صفين /343.

ويقول ل‍ه: ما يقتل عماراً غير أهل العراق ، فإنا نقتله عن رأيه ونستدعيه إلينا ، وسيقتل في جملة عسكرنا ، إلى أن قتل ذو الكلاع في جملة أصحاب معاوية ، وعمار رضي الله عنه في جملة أصحاب علي صلوات الله عليه في يوم واحد ، فكان معاوية لعنه الله يقول: (( أنا بقتل ذي الكلاع أسر مني بقتل عمار ، فإنه لو بقي بعد عمار أفسد عليَّ عسكري )) (1) ، فكل ذلك يدل على أن الحديث كان معلوما عندهم .
وأيضا (( إن الزبير اضطرب يوم الجمل حين بلغه أن عماراً رضي الله عنه في عسكر علي عليه السلام ، وجعل يروِّح عن نفسه بمنعه ما بلغه التصديق ، إلى أن أخرج عينا (2) ل‍ه ، فرجع وعرَّفه أنه في جملتهم ، فقال الزبير: واقطع ظهراه ، واجدع أنفاه . ووقع عليه الأفكل ، حتى قعقع ما عليه من السلاح )) (3) ، وذلك لما عرف من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( تقتله الفئة الباغية )) .
ومن الخبر المشهور الذي لا يرتاب فيه أهل النقل ، وهو معلوم بينهم ، ما كان من (( النبي صلى الله عليه وآله وسلم من إنذار عائشة ، وتعريفه إياها: أن كلاب الحوأب تنبحها في مسراها ، وأنها لما بلغت الحوأب ونبحتها كلابها ، سألت الجمَّال عن ذلك الموضع ؟ فعرَّفها أنه الحوأب ، فأمرت أن يناخ بعيرها ، وفزعت واضطربت ، حتى جاء بها
__________
(1) وقعة صفين /341. وشرح نهج البلاغة8/24.
(2) أي: جاسوساً .
(3) رواه الشيخ المفيد في الإرشاد 2/98. والمجلسي في بحار الأنوار 15/214.

أصحابها ، وحلف - على ما في الخبر - نحو (1) من ثلاثين رجلا أن ذلك الموضع ليس بحوأب )) (2) ، واشتهرت القصة فيه ، حتى ذكر كلاب الحوأب أهل اللغة في كتبهم .
وقال الخليل في كتاب (( العين )): (( الحوأب موضع حيث نبحت الكلاب عائشة )) ، وقال ثعلب في كتاب (( الفصيح )): (( وهي كلاب الحوأب مهموز - يعني الحوأب )) ، وقد ذكر[ه] أيضا القتيبي في (( أدب الكتاب )) ، ولشهرة هذه القصة لا يكاد يذكر الحوأب إلا ويذكر الكلاب التي نبحت عائشة .
ومن الخبر المشهور قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: (( إنك تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين )) (3) ، يعني بالناكثين: أصحاب الجمل ، والقاسطين: أهل الشام ، والمارقين: أهل النهروان ، فكان كل ذلك على ما أخبر صلى الله عليه وآله وسلم .
__________
(1) في المخطوط: نحوا . والصواب ما أثبت .
(2) رواه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة /55 . وهو في كنز العمال برقم (31668) ، بلفظ: عن عائشة (( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه: أيتكن التي تنبحها كلاب الحوأب ؟ فلما مرت عائشة ببعض مياه بني عامر ليلا نبحت الكلاب عليها ، فسألت عنه ؟ فقيل لها: هذا ماء الحوأب ، فوقفت وقالت: ما أظنني إلا راجعة ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال ذات يوم: كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب ؟! قيل لها: يا أم المؤمنين إنما تصلحين بين الناس )) . ورواه أيضا في كنز العمال برقم (31671) ، بلفظ: عن طاوس أن رسول الله صلى الله عليه وآله سلم قال لنسائه: (( أيتكن التي تنبحها كلاب كذا وكذا ، إياك يا حميراء )) .
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 148 (4668) ، و 3 (150) .

ومن المشهور قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: (( أشقى الأولين عاقر الناقة ، وأشقى الآخرين قاتلك ، يخضب هذه من هذه وأشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى لحيته ورأسه )) (1) . فكان ذلك على ما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن المشهور المستفيض حديث ذى الثدية ، وهو (( أن عليا عليه السلام لما قتل أهل النهروان قال: اطلبوا ذا الثدية ، فطُلِب ، فلم يوجد ، فقال علي عليه السلام: والله ما كَذبتُ ولا كُذِبت ، فاطلبوا . وما زالوا يطلبونه حتى وجدوه ، فإذا هو رجل مخدج اليد ، إذا مددتها امتدت ، وإذا أرسلتها انقبضت ، في رأسها حلمة كحلمة ثدي المرأة . فسُّر أمير المؤمنين عليه السلام وسُّر الناس )) (2) ، ولا يجوز أن يكون علي عليه السلام عرفه إلا بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
على أن في أكثر الأخبار أن عليا عليه السلام قال: (( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبرني أن فيهم رجلا يده كهيئة الثدي )) (3) .
ومن المشهور المستفيض الذي لا يرتاب فيه أهل النقل ، وأصحاب السير والتواريخ ، ولاشتهارها يعرفها كثير من العامة قصة كسرى ،
__________
(1) أخرجه الحاكم في مستدركه 3/122(4590) ، والطبراني في معجمه الكبير 1/106(173) ، وابن عمرو الشيباني في الآحاد والمثاني 1/147(174) ، والبيهقي في سننه الكبرى 8/59(15848) ، وأبو يعلى في مسنده 1/431 (569) ، وعبد بن حميد في مسنده 1/60(92) .
(2) أخرجه النسائي في السنن الكبرى 5/163(8569) .
(3) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 3/ 358(5962) ، وأبو داود في سننه 4/245(4769) .

وهو (( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتب إليه كتابا يدعوه إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فلما ورد عليه الكتاب مزقه ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخبر ، قال: مزق ملكه ، فكان كما قال صلى الله عليه وآله وسلم .
ثم غضب كسرى ، وكتب إلى صاحبه باذان ، وكان على اليمن ، يأمره بإشخاص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فبعث باذان رسولين إليه صلى الله عليه وآله وسلم يُعرِّفانه بالصورة ، ويقولان ل‍ه: أجب شاهنشاه الملوك: كسرى . فإنك إن فعلت ذلك كتب لك الملك باذان إليه ، ليحسن إليك ، وإن أبيت فهو من تعلم - يعنيان كسرى - يهلكك ويهلك قومك ، ويخرب ديارك .
فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انصرفا وعودا إلي غدا . فأتاه صلى الله عليه وآله وسلم الوحي بأن كسرى وثب عليه ابنه شيرويه وقتله ، في ساعة كذا ، من ليلة كذا ، من شهر كذا ، فلما دخلا عليه صلى الله عليه وآله وسلم عَرَّفهما ما نزل الوحي به من وثوب شيرويه على أبيه كسرى وقتله ل‍ه ، فاستعظما ذلك وعادا إلى باذان ، فقصا عليه القصص ، فقال باذان: ما هذا كلام ملك ، بل هو كلام نبي مرسل ، لكنا ننتظر ، فإن ورد الخبر بما قال ، فهو نبي مرسل لا شك فيه ، وإن يكن غير ذلك ، نرى فيه رأينا . فورد عليه كتاب شيرويه بذلك ، فأسلم باذان ومن معه من الفرس )) (1) .
__________
(1) بحار الأنوار 20 / 377 .

ولست أقول: إن هذا التفصيل مشهور عند كثير من العامة والخاصة ، وإنما أقول: إن قدر المعجز منه مشهور ، وهو ورود الرسل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتهديد ، وتعريفه صلى الله عليه وآله وسلم إياهم أن كسرى قد قتل .
فأما أهل النقل فهم يعرفون القصة بشرحها وطولها . وقد حذفنا ما لم نحتج إليه منها .
ومن ذلك قصة العباس بن عبد المطلب (( حين أُسِرَ يوم بدر ، فلما جاء إلى المدينة قال ل‍ه صلى الله عليه وآله وسلم: افْدِ نفسك وابني أخويك ، عقيل بن أبي طالب ، ونوفل بن الحارث .
قال: ليس لي مال .
قال: فأين المال الذي وضعته بمكة ، حين خرجت عند أم الفضل ليس معكما أحد ؟! ثم قلت لها: إن أُصبتُ في سفري هذا ، فللفضل كذا ، ولعبد الله كذا ، ولقثم كذا ، ولعبيد الله كذا .
فقال العباس: والذي بعثك بالحق ما عَلِمَ هذا غيري وغيرها ، وإني لأعلم أنك رسول الله صلى الله عليك ، ففدى العباس نفسه وابني أخويه )) (1) . وهذه قصة مشهورة ظاهرة عند أهل النقل .
ومن ذلك قصة عمير بن وهب الجمحي في سبب إسلامه ، وهي (( أنه وصفوان بن أمية الجمحي قعدا في الحجر يتذاكران قتلى بدر ، ويتوجعان لهم ، ويقول صفوان: لا خير في العيش بعدهم . فقال عمير:
__________
(1) أخرجه أحمد في المسند 1/353 (331 ) .

لولا دَين عليّ ، وما أخشى من ضيعة عيالي بعدي . ركبت إلى محمد بعلة أسيرٍ لي في أيديهم ، وقتلته .
فقال ل‍ه صفوان: فعليَّ دينك . وعيالك أسوة بعيالي ، فتكاتما ذلك ، وخرج عمير حتى قدم المدينة ، ودخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متوشحا بسيفه ، فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه فلببه ، فلما رءاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أرسله يا عمر ، ادن يا عمير . ما حاجتك ؟
قال: جئت للأسير الذي في أيديكم .
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أصدقني ما الذي جئت ل‍ه ؟
قال: ما جئت إلا لذلك .
فقال ل‍ه صلى الله عليه وآله وسلم: بل قعدت أنت وصفوان في الحجر ، وقص عليه ما كان جرى منهما . وقال ل‍ه: جئت لتقتلني والله حائل بيني وبينك .
فقال عمير: أشهد أنك رسول الله . هذا أمر ما حضره غيري وغير صفوان ، وما أخبرك به إلا الله عز وجل ، فأسلم وشهد شهادة الحق ، وحسن إسلامه )) (1) .
ومن المشهور (( أن ناقة ضلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض غزواته ، فطلبوها ، فلم يجدوها ، فتكلم أهل النفاق وقالوا: إنه يخبرنا أخبار السماء ، ولا يدري أين ناقته ؟ فأتاه صلى الله
__________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير17/58 ( 188) .

عليه وآله وسلم الوحي بموضعها وحالها ، فقال للناس: إني لا أعلم إلا ما علمني الله ، وإن الناقة في موضع بعينه - ذكره - قد تعلق زمامها بشجرة بعينها ، فمضوا وطلبوا فوجدوها كما أخبر به صلى الله عليه وآله وسلم )) (1) .
ومنها (( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ حفنة من الحصى ، فاستقبل بها قريشا ، ثم قال: شاهت الوجوه ، ثم نفحهم بها ، فكانت الهزيمة ، فأنزل الله عز وجل في ذلك: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى } [الأنفال: 17] )) (2) .
ولا يجوز أن يخاطب الله عز وجل في كتابه [رسوله] صلى الله عليه [وآله وسلم] إلا وذلك الرمي مشهور حاله عندهم ، لأن أحواله صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الجملة (3) كانت معلومة لأصحابه ، ظاهرة فيهم لا خفاء بها (4) عندهم .
ومن ذلك (( نعيه النجاشي وهو صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة ، وصلاته عليه ، ثم ورد الخبر بموته في اليوم الذي كان نعاه )) (5) .
__________
(1) أمالي أبي طالب/67 (17) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه3/1402 (1777) ، وابن حبان في صحيحه 14/452(6520) .
(3) في المخطوط: الحملة . ولعل الصواب ما أثبت .
(4) في المخطوط: به . والصواب ما أثبت .
(5) أخرجه البخاري في صحيحه 1/420(1188) ، ومسلم في صحيحه 2/657(951) .

ولشهرته جعل كثير من الفقهاء تكبيره صلى الله عليه وآله وسلم أصلا في الصلاة على الجنائز .
ومن ذلك حديث المسرى فإن (( رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أسري به إلى بيت المقدس ، وعاد إلى مكة في ليلة واحدة ، حدَّث أصحابه بما شاهد في طريقه ، فسئل عن عير كانت لقريش في الطريق ، فقال: لقيتها بمكان كذا ، ومررت عليها ، ففزع فلان . فقيل ل‍ه: يا فلان ما رأيت ؟
فقال: ما رأيت شيئا ، إلا أن الإبل نفرت .
وقالوا ل‍ه: أخبرنا متى تأتينا ؟
قال: تأتيكم يوم كذا وكذا ، يقدمهم جمل أورق ، عليه غرارتان ، أحدهما: سوداء . والأخرى: بيضاء .
قالوا: أي ساعة ؟
قال: ما أدري أطلوع الشمس من هاهنا أسرع ، أو طلوع العير من هاهنا ؟!
قال: فلما كان ذلك اليوم بعثوا رجلا من هاهنا ، ورجلا من هاهنا . فقال رجل: هذه الشمس قد طلعت ، وقال الآخر: هذه عيركم قد طلعت )) (1) .
__________
(1) أخرجه الطبراني في الكبير 7/282 (7142) ، والصدوق في أماليه /448 ، وانظر سيرة ابن هشام 2/ 43-44.

وقال أيضا صلى الله عليه وآله وسلم: (( مررت بالعير فوجدت أربابها نياما ، ولهم إناء فيه ماء ، وقد غطوا عليه ، فكشفت غطاءه وشربت ما فيه ، ثم رددت الغطاء كما كان . وإن القوم لما وردوا سئلوا عن الإناء وحاله ، فكان الأمر على ما قال صلى الله عليه وآله وسلم )) (1) .
وفي الحديث: (( أن المشركين لما سمعوا ذلك أنكروه ، وحكوا ذلك لأبي بكر فقال: إن كان قال ذلك ، فقد صدق ، فسمي: صديقا (2) .
وقال ل‍ه المشركون: صف لنا بيت المقدس . فوصفه صلى الله عليه وآله وسلم لهم ، وقال: جعل المسجد بحذائي ، حتى وصفته )) (3) ، وهذه قصة مشهورة ، ولشهرتها ذكرها الله عز وجل في كتابه .
ومن ذلك حديث (( الشاة المسمومة ، التي قدمتها امرأة يهودية إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بخيبر ، فلما أكل منها لقمة أو لقمتين ، وأكل منها مَن هناك من أصحابه ، قال: إنها تخبرني أنها مسمومة ، وقال لها: لم فعلت ذلك ؟ قالت: أردت إن كنت كاذبا أن يستريح الناس منك ، وإن كنت نبيا لم يضرك )) (4) . وهذه قصة
__________
(1) سيرة ابن هشام 2/ 43-44.
(2) سيرة ابن هشام 2/40 .
(3) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير 17/58 ( 188) .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه 2/ 923(2474) ، ومسلم في صحيحه 4/ 1721(2190) .

26 / 32
ع
En
A+
A-