وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ } [الحشر] ، وهذه قصة مشهورة ، وهي قصة بني النضير ، وذلك أنهم كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فغدروا ونقضوا العهد ، وهموا باغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأوحى الله بذلك إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وبما تآمروا بينهم . وهذا إحدى المعجزات .
ثم تقدم إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمفارقة موضعهم ، والجلاء عنه ، وأعلمهم أنهم نقضوا العهد وبما تآمروه بينهم .
فأذعنوا وعزموا على الجلاء ، فراسلهم عبد الله بن أبي بن سلول ، وكان من كبار المنافقين ، ووعدهم بالنصرة . وأنه مع أصحابه معهم ، وأنهم إن خرجوا إلى الجلاء أجلوا معهم ، وإن قاتلوا نصروهم ، وأنهم لا يطيعون فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فشهد الله عز وجل أنهم لكاذبون ، وأنهم لا يفون لليهود بما وعدوهم ، فجرى الأمر في ذلك على ما أخبر الله به عز وجل وشهد به عليهم ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرج بني نضير عن حصونهم ، فلم يخرج المنافقون معهم ، ولا نصروهم في قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني قريظة صبرا ، وسبي ذراريهم ونسائهم بعد ما حاصرهم ، وحارب أهل

خيبر حتى ظفر بهم وبديارهم وأموالهم ، فلم ينصروهم ، كما أخبر الله عز وجل في ذلك عنهم ، فكان في القصة ثلاث من المعجزات:
إحداها: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مضى إلى بني النضير ، ومعه أمير المؤمنين عليه السلام وأبو بكر وعمر وغيرهم ، في أمر كان عرض ، وجلس مستندا (1) إلى جدار حصنهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فتآمروا فيما بينهم ، واتفقوا على أن يرسلوا عليه من فوقه صخرة تقتله ، فأتاه الوحي في الحال ، وعرف ما كانوا تآمروا ، فقام في الوقت من موضعه ذلك وعاد إلى المدينة ، ولم يعرف أحد من أصحابه السبب في ذلك ، إلى أن عرَّفهم صلى الله عليه وآله وسلم ذلك .
فكان ذلك أمرا واضحا في وقوفه على سرهم ، من غير خبر أتاه من جهة أحد من الناس ، ولا يجوز أن يكون إلا من جهة الوحي .
والثانية: ما أخبر من سر المنافقين ومراسلتهم ، فإنهم كانوا مجتهدين في إخفاء ذلك .
والثالثة: خبره عز وجل عنهم أنهم كاذبون ، وأنهم لا يفون لهم بما وعدوهم ، فجرى الأمر على ذلك .
ومن ذلك قوله عز وجل بعد هذه القصة: { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ } [الحشر: 14] ، فجرى الأمر على ما أخبر عز وجل . فإن من قاتل منهم لم يقاتل إلا من { وَرَاء
__________
(1) في المخطوط: مسندا . ولعل الصواب ما أثبت .

جُدُرٍ } ، ولم يبرزوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما برز المشركون يوم بدر ، ويوم أحد وحنين . وهذا مما لا يجوز أن يطلع على حقيقته إلا الله عز وجل ، العالم بالمغيبات .
ومن ذلك قوله عز وجل في اليهود: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } [الأعراف:167] ، وقد علمنا [ذلك] من أحوالهم ، لأنهم في جميع المواضع مقهورون مستذلون ، لا يمكنهم الثبات إلا مع الجزية والصغار ، وأحوالهم خلاف أحوال النصارى . فإن للنصارى دارا (1) ومملكة مثل الروم وما حوله ، على ما أخبر الله تعالى في القلة والذلة .
ومن ذلك قوله عز وجل: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) . . . } [المسد] إلى آخر السورة . وذلك إخبار عن موته على الكفر ، وجرى مخبره على ما أخبر به عز وجل ، وهو مما لا يعلمه إلا علام الغيوب .
ولهذه الآيات في القرءان نظائر ، وفيما ذكرنا كفاية وبلاغ لمن نصح نفسه ، وأنصف عقله ، واتبع رشده .
فإن قيل: ولم ادعيتم أن الإخبار عن الغيوب يتضمن الاعجاز الذي إذا أتى به إنسان وادعا النبوة ثبتت نبوته ؟ وما أنكرتم أن يصح ذلك من المنجم الذي يخبر عن الشيء ، فيتفق أن يكون مخبره على ما أخبر به ؟!
__________
(1) في المخطوط: دار . والصواب ما أثبت .

قيل ل‍ه: لأن الخبر عن الغيب على وجه يكون صدقا على جهة الاستمرار ، لا يصح إلا من العالم به ، لأن ذلك لو صح من غير العالم ، لم يمكن (1) الاستدلال بالفعل المحكم المتقن ، على أن فاعله عالم ، لأن من جوَّز ذلك ، يلزمه أن تكون الأفعال الكثيرة المنتظمة المتسقة تقع من المبَخِّت الذي ليس بعالم به ، لأن الخبر الصدق في حكم الفعل المتقن ، في احتياجه إلى أن يكون الفاعل ل‍ه عالما ، وهذه الجمل هي من علوم البدايه (2) التي لا تعزب عن كامل العقل ، بل عن المراهق ، وإن لم يبلغ كمال العقل .
فإن قيل: كيف ادعيتم أن ذلك من البدايه ، وأنتم تجدون كثيرا من العقلاء ، يعتقدون في الكهان والمنجمين ، أنهم يجوز أن يخبروا عن الغيوب ؟
قيل لهم: إنهم لا يجوزون ذلك ، إلا إذا اعتقدوا أنهم عالمون بذلك ، وليس ذلك خلاف ما ادعيناه ، من أن العلم بأن الاخبار عن الغيب لا يصح إلا من العالم .
ومن جملة البدايه أن أولئك أخطأوا ، حين اعتقدوا أن هؤلاء يعلمون الغيب ، ولم يعتقدوا أنهم أخبروا من غير أن يعلموا (3) .
__________
(1) في المخطوط: يكن . والصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: البداية . والصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: علموا . ولعل الصواب ما أثبت .

فإن قيل: فإنا نجد من يعتقد في كثير من المجانين أنهم يخبرون عن الغيب .
قيل ل‍ه: هؤلاء يعتقدون أن الجن هم الذين ينطقون على ألسنتهم ، وأن الجن يعلمون ذلك ، فليس في العقلاء من يضيف الإخبار عن الغيب إلا إلى العالم به ، على بعض الوجوه .
وقد رأيت من سخفاء الفلاسفة من يذهب إلى أن الانسان إذا احتمل ربما أخبر عن الغيب . ومن يقول ذلك ، يذهب إلى أن النفس عالمة ، فإذا احتمل خلُصت النفس ، وجرى مجرى النائم الذي يرى ما يكون مما لم يكن بعد في نومه . وهذا وإن كان هذيانا لا يؤبه ل‍ه ، وكان ما يراه النائم على خلاف ما ذهبوا إليه ، فإنا ذكرناه لنبيِّن أنه لا أحد من العقلاء يعتقد أن المخبِر عن الغيب إذا كثر[ت] أخباره ، واستمرت على وجه يكون صدقا ، يجوز أن يكون غير عالم ، فإذا ثبتت هذه الجملة ، نقول: إن الانسان قد ثبت أنه عالم بعلم يتجدد ل‍ه ، والعلم لا يخلو من أن يكون ضروريا أو مكتسبا .
وقد علمنا أنه لا طريق يمكن للإنسان أن يكتسب به العلم بالغيوب ، لأن العلوم تكتسب بالنظر في الأدلة ، ولا أدلة على الغيوب ، فلم يبق إلا أن مَن علم الغيوب يعلمه بعلم يضطره الله إليه ، أو بخبر يأتيه من قبله عز وجل ، وأيهما كان معجزا . لأنه متعذر على جميع الخلق الاتيان به ، إلا من خصه الله عز وجل به ، كفلق البحر ، وقلب العصا حية ، وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص .

فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم تلك الغيوب من طريق التنجيم ، كما يعرفها حذاق المنجمين ، وإذا صار ذلك لم يجب كونه معجزا على ما ادعيتموه ؟!
قيل ل‍ه: هذا يسقط من وجهين:
أحدهما: أن المنجم لا يمكنه أن يخبر عن تفاصيل الأمور ، ولا يحصل ل‍ه العلم بذلك ، وإنما يحصل ل‍ه غالب الظن . لذلك يصيب في شيء ، ويخطيء في غيره . وذلك من أحوال المنجمين معلوم .
يبيِّن ذلك أنهم يدَّعون أن في جملة الكوكب الثابتة وهي التي تسمى: بيابيات كواكب كثيرة ، لا يعرفها أحد من الناس ، وفيها السعود والنحوس ، وإن حصول ما يحصل منها في الطالع ، يغيِّر الاحكام من غير أن يشعر بها المنجم ، فيعتذرون للخطأ الذي يتفق لهم بذلك ، وربما نسبوه إلى خطأ أصحاب الرصد ، وربما ينسبون بعض الزيجات إلى أن فيها خطأ كثيرا ، وكل ذلك لأن الصواب لا يستمر لهم ، لأنهم لا يمكنهم أن يحكموا تفاصيل الأمور ، وليس كذلك إخبار الله عز وجل في القرءان عن الغيوب . فوجب أن يكون صَدَرَ عن علام الغيوب ، الذي لا تخفى عليه خافية تبارك وتعالى .
والوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان بلغ في علوم النجوم المبلغ الذي كانت ل‍ه هذه الأمارات من أجلها - مع استحالة ذلك - لوجب أن يظهر اشتغاله بها ، وصرف العناية إليها ،

وأخذها عن أهلها . ولم يكن للعرب اختصاص بهذا الجنس من العلم ، ولم يُعرف أحد منهم به ، ولم يكن يجوز أن يخفى عليهم .
ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مولده ومنشؤه في أقوام لم يتعاطوا هذا العلم ، ومسافرته إلى الشام قبل البعثة كانت مع قومه ، وكانت أياما قليلة . فبان بما بيناه أنه لم يكن من أهل هذه الصنعة .
على [أن] المتعاطي لهذه الصنعة إذا بلغ مبلغ المتوسطين منها ، فلا بد ل‍ه من مدارسة أهله ، والنظر في كتبهم ، بل لا بد ل‍ه من آلات يعرف بها الطوالع التي يبني عليها الاحكام . فكيف من بلغ الغاية ؟! وإذ قد علمنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتعاط شيئا من ذلك ، ولم يشتغل به ، ولم يعرف شيئا منه ، فقد بطل قول من قال: إن ما أتاه عليه السلام أتاه من طريق النجوم .
وأيضا بمثل ما عرفنا أن الفرزدق وجريراً لم يكونا فقيهين ولا متكلمين ، وأن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمداً لم يكونوا شعراء ، وأن سيبويه لم يكن متكلما ، وأن أبا الهذيل لم يكن متطببا ، وأن الشافعي لم يكن متفلسفا . نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن منجما .
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرى ذلك في المنام ، وكان قد عرف من نفسه أنه صحيح الرؤيا ، فكان يخبر بما يرى ، تعويلا على ما عرف من نفسه ؟!

قيل ل‍ه: إن المعتاد من أمر الرؤيا وصحتها ، معلوم أنه إلى أي حد يكون ، وإن كان صحيح الرؤيا قد تعرض ل‍ه أضغاث الأحلام . والتعبير أيضا قد يقع فيه الخطأ كما يقع الصواب ، ولا يستمر الأمر فيه هذا الاستمرار ، وهو يوجب غالب الظن دون العلم المقطوع به ، فإذا كان الله عز وجل خص نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من الرؤيا بما أبانه من سائر الخلق ، وبما هو ناقض للعادة ، فهو أيضا معجز دال على صحة نبوته .
فإن سألوا عن الفرق بينه صلى الله عليه وآله وسلم وبين الكاهن ، والذي ينظر في الكف ؟!
فالجواب عنه: أن الكهان لا يمكنهم الخبر عن تفاصيل الأمور على الاستمرار على وجه يكون صدقا ، وهذا معروف من أحوالهم ، لأنهم يقولون بأمور تعرض لهم ، وبأمارات تظهر لهم ، وإن أصاب الواحد منهم ، ففي شيء على سبيل الاتفاق ، ويخطئون في أشياء يظهر فيها كذبهم .
وكذلك من ينظر في الكف . إنما يخبر عن جمل الأحوال ، ولهم كلام في ذكر الأمارات الدالة على الأمور ، والأوراق المصنفة لهم في ذلك ، يذكرون حال العَظْم ، وما يظهر فيه من النقْط والتخطيط ، ومواضع ذلك من العظم الذي هو الكف ، وليس يمكنهم الخبر عن تفاصيل الأمور ، وأكثر ما يحكى من ذلك حكايات يغلب على الظن أنها كذب ، وإن صح شيء من ذلك فعلى سبيل الاتفاق ، على أنه

يجوز أن تكون الأمارات مما يظهرها الله عز وجل على مجرى العادة لكل ناظر . هذا إن صح ما يُدَّعا من ذلك . وليس الاخبار عن الغيوب التي يتضمنها القرءان مشابهاً لشيء من ذلك ، فبان وصح أنه وارد من عند علام الغيوب .
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظفر ببعض أحوال الأنبياء المتقدمين صلى الله عليهم عن تلك الغيوب ، فادعاه لنفسه ؟!
قيل ل‍ه: لا يخلو وقوع ما سألتم عنه إليه صلى الله عليه [وآله وسلم] إن كان على ما ذكرتم - ومعاذ الله من ذلك - أن يكون على طريق التواتر أو على طريق الآحاد ، ولا يجوز أن يكون على سبيل التواتر ، لأن ذلك يوجب كون تلك الأخبار ظاهرة في زمانين بين أهل الكتاب . والمعلوم خلاف ذلك .
ولا يجوز أن يكون وقوعه على طريق الآحاد ، لأن ذلك مما لا تسكن النفس إليه ، ولا يجوز أن يعتمده العاقل في بناء الأمر عليه ، على ما بيناه في نظائره فيما تقدم من كلامنا في هذا الكتاب .
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع تلك الأخبار ممن شاهده ورءآه ، واتفق صدقه بما شاهده من معجزاته فأظهرها ، وادعا أنه عرفها بالوحي ؟
قيل ل‍ه: لو كان ذلك كذلك ، لوجب على الله عز وجل المنع منه ، بأن يحول بينه وبين سماعها ، وبينه وبين إظهارها ، أو بأن يُظِهر تلك

الأخبار لغيره ، على وجه لا يمكن التمويه ، لأن ذلك لو كان على ما قلتم ، لكان شبهة لا يمكن حلها ، وكل شبهة لا يمكن حلها يجب على الله عز وجل المنع منها .
على أن هذا السؤال لا بد من أن يتضمن الاقرار بالنبوات والمعجزات .
ويمكن أن يسأل في كل معجز وما (1) يجري هذا المجرى ، بأن يقال: يجوز أن يكون عيسى صلى الله عليه ظفر ببعض الخواص التي يحيي بها الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، وأن يكون موسى صلى الله عليه ظفر ببعض منها ، يقلب بها العصا حية ، ويفلق البحر ، وليس الجواب عن ذلك إلا ما قلناه ، من أن ذلك - لو كان - شبهة لا يمكن حلها ، ويجب على القديم تعالى المنع منها . فكذلك جواب هذا السؤال ، إذا سألنا عنه . وهذا الكلام أيضا مما تقدم بيانه في كتابنا هذا .
- - -
__________
(1) في المخطوط: بم . ولعل الصواب ما أثبت .

25 / 32
ع
En
A+
A-