بمناوأته ، فلو لا أن الخبر صدر من عند علام الغيوب ، لم يكن يجوز أن يورده النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، خشية أن يظهر منهم ما يوجب تكذيبه .
ومن ذلك قوله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة] ، يعصمه الله عز وجل من الناس كما وعده ، وجرى الأمر فيه إلى قبضه صلى الله عليه وآله وسلم ، على ما دل عليه الخبر .
وهذا أمر الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه ، لأن الانسان لا يدري ما يجري عليه إلى أن يموت ، سيما من كان على مثل حاله صلى الله عليه وآله وسلم في كثرة الأعداء .
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } [الأنفال: 7] ، وهذه الآية قد تضمنت خبرين من أخبار الغيوب .
أحدهما: ما وعدهم الله عز وجل به من كون إحدى الطائفتين لهم ، وأنه يظفر بها ، والطائفتان:
أحدهما: العير التي كانت مع أبي سفيان .
والثانية: الذين خرجوا للمحاماة عنهم من أحزاب قريش ، فأظفرهم الله تعالى بأحزاب قريش يوم بدر ، وأنجز لهم الموعود .
فإن قيل: الآية نزلت بعد الكائنة ، وإذا كان هذا هكذا ، فليس فيه خبر عن الغيب ، لأنه خبر عن الواقع المعلوم ؟!
قيل له: الآية تضمنت تقدم الوعد على الكائنة ، لأن الوعد لا بد من أن يتقدم الموعود ، ولولا أنه كان معلوما عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ذلك الوعد كان قد حصل لهم ، لم يكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليتلو عليهم ما تلاه ، لأنه جرى (1) مجرى أن يقول لهم: قلت لكم أمس شيئا ، وهم يعلمون أنه لم يقله لهم ، وأنه يفضح القائل ، ويظهر كذبه ، وتقوُّله (2) بين أصحابه . فبان أن الوعد في الأمل (3) والوعيد كان قد تقدم . وأن الموعود جرى على ما وُعِدوا به . ومثل هذا لا يجوز أن يصدر إلا عن علام الغيوب سبحانه وتعالى .
ويبين ما قلناه من أن الوعد كان قد تقدم ، قوله عز وجل بعد هذه الآيات: { وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } [الأنفال: 10] ، والبشرى لا تكون إلا قبل حصول الشيء . فدل ذلك أيضا على أنهم كانوا مبشرين قبل وقوعه .
الوجه الثاني الذي تضمنته الآية من الإخبار عن الغيوب ، قوله عز وجل: { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } [الأنفال: 7] ، وهي العير التي كانت مع أبي سفيان ، فأخبر عما في نفوسهم ، ولم يقل أحد منهم: إن الذي كان في نفسي خلاف ذلك .
__________
(1) في المخطوط: مجرى . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: ويقوله . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) كذا في المخطوط .
على أن ذلك لو لم يكن معلوما أنه صدق ، وأنه من عند علام الغيوب ، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يتلوه عليهم ، خشية أن يكون المخبَر بخلافه فيظهر كذبه .
فإن قيل: هذا معلوم لكل عاقل أنكر فيه ، فإن المعلوم من أحوال الناس أن الظفر بالأموال التي لا مدافع عنها ، أحب إليه من الظفر بالمقاتلة للذين (1) لا يظفر بهم إلا بعد شدة ، وبعد أن يقتل منهم من يقتل ، ويجرح من يجرح .
قيل له: هذا الذي ادعيتم غير مستمر ، وإن كان الأكثر ما ذكرتم . وذلك أن من الناس من يكون قتلُ الأعداء وأسرُهم وجرحُهم والظفر بهم ، أحب إليه من كثير من الأموال التي تأتيه عفوا ، ولهذا ترى الرجل ينفق ماله من طارف وتليد ليتوصل به إلى النكاية في العدو .
وإذا ثبت ذلك ، ثبت أن إخباره عن جميعهم - مع كونهم معروفين بشدة الحمية والعصبية - أنهم يودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم ، خبر عن الغيب .
ومن ذلك قوله عز وجل: { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) } [آل عمران] ، والخبر عن أن الكفار الذين كانوا يعادون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغلبون ، خبر عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى ، ولأنه لا سبيل لأحد إلى أن يعلم أن أولئك الكفار ، مع كثرة عددهم ، ووفور عددهم ، هم
__________
(1) في المخطوط: الذين . ولعل الصواب ما أثبت .
يغلبون لا محالة . وقد جرى الأمر على ما ورد الخبر به ، فإن جميعهم غُلِبوا وقُهِروا واستُذِلُّوا .
ومن ذلك قوله عز وجل: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) } [التوبة] ، ذكره عز وجل في السورة التي يذكر فيها التوبة ، والسورة التي يذكر فيها الصف ، والسورة التي يذكر فيها الفتح ، وفي هذه السورة آخر الآية: { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) } [النساء: 79 ، 166 ، الفتح 28] ، فأكد الخبرَ هذا التأكيدَ ، وكرر ذكره في هذه السورة ، ثم أنجز الله عز وجل وعده لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم بإظهار دين الاسلام ، ونشر دعوته في الآفاق ، فطبقت الشرق والغرب ، وعمت العرب والعجم ، وخلصت إلى الروم والهند والترك ، وصار كثير من البلدان المنسوبة إلى هؤلاء - أعني الروم والهند والترك - من بلاد الاسلام ، والفتوح إلى الآن متصلة ترد بها الأخبار ، من النواحي والأقطار .
فأما بلاد العرب والعجم - بحمد الله ومنِّه - فقد صارت كلها بلاد الاسلام ، ولم يبق أهل ملة من الملل ، ولا أمة من الأمم ، إلا نفذ فيهم الاسلام ، حتى صار هذا الدين أعلى الأديان كلمة ، وأرفعها حكمة ، ولو كره المشركون ، كما قال الله عز وجل .
وليس يخفى على عاقل أنصف نفسه أن الخبر بهذا ، خبر عن الغيب الذي لا يطلع عليه أحد إلا الله عز وجل ، الذي يعلم ما كان
وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون ، فسبحانه لا نشرك به شيئا ، ولا نتخذ من دونه إلها ولا وليا !!
وفي هذا المعنى قال صلى الله عليه وآله وسلم وصدق ، ونحن على ذلك من الشاهدين: (( زويت لي الأرض ، فأُرِيتُ مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها )) (1) .
ومن ذلك قوله عز وجل: { الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ } [الروم] ، وهذه الآية قد تضمنت ثلاثة من الأخبار عن الغيوب .
أحدها: قوله عز وجل: { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) } ، هذا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل .
والثاني: قوله: { فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، والبضع: فوق الثلاثة ودون العشرة ، وهذا التحديد أيضا من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله .
والثالث: قوله عز وجل: { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء } ، فأخبر أنهم يفرحون في ذلك الوقت بنصر الله .
وهذا أيضا من الغيب ، لأنه خبر عن بقاء المؤمنين إلى ذلك الوقت مع قلتهم ، وطمع الأعداء في ابتسافهم (2) . وعن أنهم يفرحون ، ولا تعرض هناك أحوال تمنعهم الفرح ، لأن هذه الآية نزلت بمكة قبل
__________
(1) أخرجه مسلم في صحيحه 4/2215(2889) ، والترمذي في سننه 4/473(2176) .
(2) كذا في المخطوط .
الهجرة ، في حال ضعف المسلمين وقلتهم ، واستيلاء المشركين عليهم ، والقصة في ذلك مشهورة ، وهي (( أن الفرس كانوا غلبوا الروم ، ففرح لذلك المشركون واغتم المسلمون ، لأن الروم كانوا أهل الكتاب ، فكان المسلمون بهم آنس ، والفرس كانوا مجوسا ، وكان المشركون بهم أشبه . فأنزل الله عز وجل: { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ } ، ففرح المسلمون ، وأنكره المشركون واستبعدوه ، فخاطر (1) أبو بكر أمية بن خلف الجمحي ، على أن تعود الغلبة للروم على الفرس إلى ثلاث سنين ، وظن أن بضع معناه: ثلاث ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( زد في الأجل وفي الخطر )) ، وكان ذلك قبل نزول التحليل والتحريم ، وحين كانت المخاطرة مباحة ، ففعل أبو بكر ذلك ، وظهرت الروم على فارس لتمام سبع سنين ، ففرح المسلمون يومئذ )) (2) .
والنصر الذي ذكر الله عز وجل أن المؤمنين به يفرحون .
فقد قيل: إنه نصر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، بما أظهر له من الاعجاز الظاهر ، بإطلاعه على هذا الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل ، لأن فيه آية بينة ، ودلالة واضحة على نبوته .
__________
(1) المخاطرة: الرهان .
(2) أخرجه ابن جرير ، انظر الدر المنثور6/483 .
ويحتمل أيضا أن يكون المراد به (1) أن ذل الفرس كان فيه قوة للمسلمين ، ونصرة لهم على المشركين ، لِمَا كان من ميل المشركين إليهم ، وطمعهم في الإعتضاد بهم ، لأن الله عز وجل لا يجوز أن ينصر الكفار بعضهم على بعض ، وإن كان جائزاً أن يزيد في خذلان بعضهم ، إذا كان في ذلك ضرب من المصلحة .
ومن ذلك قوله عز وجل: { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) } [التوبة] ، وقال في السورة التي يذكر فيها الصف: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) } [الصف] ، فوعد عز وجل أن يتم أمر الدين الذي ابتعث به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على كره من أعدائه الكفرة ، ومع كونهم مريدين اطفاء نور الحق وطمسه ، فجرى الأمر فيه على ما وعد . وهذا من الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الله عز وجل .
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3) } [الفتح] بعد قوله: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) . . . } [الفتح] . . . إلى آخر الآية .
ومن المعلوم أن نصر الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن اختار الله له دار كرامته ، كان نصرا عزيزا ، وهذا مما لا يجوز أن يكون اطلع عليه إلا الله عز وجل .
__________
(1) في المخطوط: له . ولعل الصواب ما أثبت .
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) } [الأحزاب] ، يعني: يوم الأحزاب ، ثم يقول بعد ذلك: { وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } [الأحزاب: 22] ، فدل بهاتين الآيتين (1) على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان وعد أصحابه وعداً ظاهراً ، أن الأحزاب يأتون ، وأن الله ينصرهم عليهم ، حتى عرفه المؤمنون والمنافقون وانتشر فيهم ، حتى قال المنافقون: { مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) } ، وقال المؤمنون حين رأوا الأحزاب: { هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } ، وهذا مما لا يعلمه ولا يطلع عليه إلا الله عز وجل ، لأنه لا سبيل إلى العلم بأن الأحزاب يأتونه ، وأنهم مع قوتهم وكثرتهم ينهزمون لا محالة .
فإن قيل: هذه الآية نزلت بعد يوم الأحزاب .
قيل له: هذا وإن كان كذلك ، ففيها دلالة على أن الوعد به كان قد تقدم .
ألا ترى إلى ما حكى الله تعالى عن المؤمنين والمنافقين في ذلك . والنبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا ذلك عليهم ، ولو لم يكن الأمر كذلك ، لم يكن ليتلو صلى الله عليه وآله ذلك عليهم ويدعيه ، لئلا
__________
(1) في المخطوط: بهاتان الآيتان . والصواب ما أثبت .
يكون منبهاً لهم على كذبه ، حاشاه صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك !!
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) } [الأحزاب] ، فأخبر عما في ضمائرهم من إرادة الفرار ، تعللا بأن بيوتهم عورة ، وهذا لو لم يكن كذلك ، لظهر منهم إنكاره .
ومن ذلك قوله في السورة التي يذكر فيها { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) } [ص] ، { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ (11) } [ص] ، وهي سورة مكية . أولها: ذكر قريش ، وما كان من قولهم: { هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) } [ص] ، فأخبر عز وجل في حال ضعف النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقلة أنصاره ، وقوة مشركي قريش ، أنهم جند مهزوم . فكان الأمر على ما أخبر به - عز وجل - هزموا يوم بدر .
وكذلك قوله في السورة التي يذكر فيها القمر ، وهي أيضا سورة مكية ، مخاطباً لقريش: { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) } [القمر] ، فأخبر أنهم يهزمون ويولُّون الدبر ، وهذا أمر الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل .
ومن ذلك قول الله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ }
[الأنفال: 36] ، فكان الأمر على ما أخبر به عز وجل ، لأن الكفار أنفقوا ما أنفقوا من الأموال للخروج إلى أحد ، وصار في آخر الأمر عليهم حسرة .
وكذلك ما أنفقوا لجمع الأحزاب ، وما أنفقه مالك بن عوف حين جمع هوازن يوم حنين ، صار جميع ذلك حسرة عليهم ، وغلبوا ، على ما أخبر الله عز وجل ، وهذا أيضا من الغيب الذي لا يطلع عليه أحد إلا الله عز وجل ، وليس لأحد أن يدعي أن هذه الآية نزلت بعد الانفاق ، لقوله عز وجل: { فَسَيُنفِقُونَهَا } ، والسين إذا دخلت على الفعل المضارع حققت أنه للاستقبال . فدلَّ ذلك على أن الآية نزلت قبل الإنفاق .
ومن ذلك قول الله عز وجل: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } [التوبة] ، فجرى الأمر على ما أخبر الله عز وجل به ، فإنه تبارك وتعالى عذَّب الكفار بأيدي المؤمنين ، إذ أمكنهم من قتلهم وأسرهم وسبي ذراريهم ، وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم وأخزاهم ، كما وعد سبحانه . ونصر المؤمنين عليهم وشفى صدورهم ، وأذهب غيظ قلوبهم كما أخبر . وهذا مما لا يجوز أن يعلمه قبل كونه إلا الله عز وجل .
ومن ذلك قوله عز وجل: { أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ