الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) } [غافر] . . . إلى آخر القصة .
ولو تتبعنا الآيات الجارية هذا المجرى في العذوبة ، وحسن الديباجة ، لاحتجنا أن نذكر عامة آيات القرءان ، ولكن نبهنا بما ذكرنا على ما سواه ، فتأمل - رحمك الله - مواقع هذه الألفاظ ، وحسن نظامها ، وخِفَّتها على السمع ، وقبول النفس لها ، واهتزازك لسماعها ، لتعلم حقيقة ما ذكرناه . وأنت إذا راعيت هذا الباب في عامة القرءان إذا تلوته ، تبينت صحة ما قلناه ، وظهر لك شواهده ، ووضحت دلائله .
ومن كبير أقسام الفصاحة: حسن التصرف . وهذا الباب أيضا لا يمكن بالتعمل ، ولا يستجيب للمتكلف ، بل لا بد له من العلوم الضرورية المعبَّر عنها بالطبع . وبهذا (1) تفاضل الخطباء والشعراء وأصحاب الرسائل .
وإذا تأملت تصرف القرءان في المعاني المقصودة ، عرفت أنه زائد في الحسن على تصرف جميع أقسام الكلام وأنواعه ، وشهد لك قلبك أنه ليس من كلام البشر ، لمجاوزته في الحسن جميع كلامهم ، لأنك تجد عامة كلام الناس إذا أخذوا في الاقتصاص والتصرف في المعاني المختلفة
__________
(1) في المخطوط: وهذا . ولعل الصواب ما أثبت.
، والأغراض المتباينة ، والمقاصد المتغايرة ، يضعف بناؤه ، ويَهِي (1) نسجه ، ويظهر عليه الاختلال ، وحال القرءان بخلاف ذلك .
ألا ترى إلى قوله عز وجل: { وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) } [الرعد] .
تأمل - رحمك الله - حسن هذا التصرف ، فإنه ذكر الدليل على فساد قول من يضعف (2) هذه الحوادث إلى الطبع ، وحرره على وجه أسقط عنه كثيرا من الأسئلة ، بأن بيَّن أن في الأرض قطعا متجاورة ، يقرب بعضها من بعض ، ليسقط سؤال من يقول: إن الأرضين إذا تباعدت أطرافها ، اختلفت التربة ، فكان منها الطيب والخبيث ، لأن ذلك يبعد في المتقارب منها .
وكذلك الهواء لا يمكن أن ندعي أن تغيرُّه هو المؤثِّر ، لأن الأرضين ما لم تتباعد بعضها من بعض ، لا يظهر في أهويتها التغير ، وكذلك الماء إذا كان واحداً لا يمكن أن يُدَّعا أن اختلاف الأكل راجع إلى اختلاف الماء ، فدل بذلك على أنه من فعل القادر الحكيم ، تبارك وتعالى .
__________
(1) يهي: يضعف ، يقال: وهى الرجل ، إذا ضعف .
(2) كذا في المخطوط .
ومعنى هذه الآية: معنى كلمي (1) ، فإذا أردت أن تعرف حال هذا التصرف ، وشريف موقعه ، فتأمل كلام المتكلمين . هل تجد لشيء منها هذا الجنس الرابع ؟لأنه جمع فيها بين حسن المعنى وشرف الوضوح ، وجزالة اللفظ وعذوبته ، مع جمع المقاصد الكثيرة في ألفاظ يسيرة ، بحيث ربط بعضها ببعض ، وحسم عنها مطاعن المعترضين . من ذلك قوله عز وجل بعد هذه الآية: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) } [الرعد] ، فتأمل ما جمعت هذه الآية من المعاني ، بأن ذكر جهل القوم باستعجالهم السيئة قبل الحسنة ، ثم بيَّن عز وجل أنه أنزل العذاب بمن كان قبلهم من المنحرفين عن طاعته ، المسرعين إلى معصيته ، زاجراً لهم عما هم فيه ، ومحذراً لهم عواقب مَن قبلهم .
ثم بَيَّن لهم أنه عز وجل يغفر لعباده وإن كانوا ظالمين ، إذا تابوا وأنابوا ، وأنه عز وجل شديد العقاب ، لمن أصرَّ وأقام على ما نهي عنه . فجمع هذه المعاني وكساها حسن اللفظ ، إذ فيه ما يسميه أهل الصنعة: المطابق . لأنه ذكر الحسنة والسيئة ، والمغفرة والعقاب ، مع الجزالة والعذوبة . فهل يكون في التصرف أحسن من هذا ؟!!
ثم تأمل من هذه السورة قوله عز وجل: { اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8) . . .
__________
(1) كذا في المخطوط .
إلى قوله: وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ (14) } [الرعد] (1) ، وتأمل عامة هذه السورة وما في آياتها من حسن التصرف ، وضرب الأمثال .
وتأمل قول الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء } [النساء: 1] ، ثم تأمل آية المواريث ، فإن معناها معنى فقهي (2) .
فانظر هل تجد ما يقارب ذلك في شيء من ألفاظ الفقهاء ؟ وإذا أردت ذلك فتأمل أقاصيص القرءان وأحكامه ، لترى من ذلك ما يبهر عقلك ، ويكشف لك أنه كلام مرتفع عن كلام البشر أجمع ، وعلى هذا تجد ما يتضمن الوعد والوعيد ، وأدلة العدل والتوحيد .
وإذا تأملت ذلك ، فتأمل أشعار العرب من جاهلي ، أو مخضرمي ، أو إسلامي ، وتأمل أشعار المحدثين ، وتأمل الخطب المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعن أمير المؤمنين عليه السلام ، وسائر الصحابة ، ومن بعدهم أو قبلهم من الفصحاء ، تجد القرءان مبايناً لها ،
__________
(1) كمال الآيات: { ... عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ... } .
(2) في المخطوط: فقهيا . والصواب ما أثبت .
مميزا (1) بمزايا أقسام الفصاحة عليها ، فيتضح عندك أنه على ما ادعيناه في أعلى طبقات الفصاحة ، وأن من ذهب من العلماء إلى أن الاعجاز راجع إلى مجرد الفصاحة لم يبعد عن الصواب كل البعد ، وإن كان الأصح عندي على ما قدمت أنه راجع إلى النظم والفصاحة معاً .
ومما يبين بلوغ القرءان غاية الفصاحة ، أن الشاعر ربما ضمَّن لفظة من القرءان بيتا من الشعر ، أو حشا الخطيب بها فصلا من الخطب ، أو وشَّح الكاتب بها موضعا من الرسالة ، فيتميز بحسنها عن غيرها ، ويتبين ببهجتها على ما سواها ، ويصير الموضع الذي تضمنها (2) غرة من سائره ، وبحسنه الذي اكتسبه من تلك اللفظة ، وزبرجه الذي استعاره منها .
ومما يبين ذلك: أن كثيرا من الفصحاء ، وُجِدَ في كلامهم كلمات فصيحة رائعة ، صارت لبلاغتها أمثالاً سائرة ، ووُجِدَ معناها في القرءان ، إلا أنك إذا تأملتها وجدت التفاهم (3) بينها كثيرا ، وظهر لك فضل ألفاظ القرءان على تلك الألفاظ ظهوراً تاماً . فمنها ثلاث كلمات تذكر عن أمير المؤمنين عليه السلام:
__________
(1) في المخطوط: مبراً . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: يضمنها . والصواب ما أثبت .
(3) كذا في المخطوط .
إحداها (1): (( مَن جهل شيئا عاداه )) (2) ، ومثله قول الله عز وجل: { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) } [الأحقاف] ، وقوله: { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ } [يونس: 39] .
والثانية: (( أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما )) (3) ، وفي قريب من معناه قوله عز وجل: { عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } [الممتحنة] .
والثالثة: (( المرء مخبوء تحت لسانه )) (4) ، وفي قريب من معناه قوله عز وجل: { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ } [محمد: 30] . فتأمل التفاوت الذي بين تلك الكلمات الثلاث ، وبين ألفاظ الآيات التي ذكرناها ، يَبِنْ (5) لك صحة ما ادعيناه .
ومن ذلك قول الله عز وجل: { وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } [النمل: 88] ، فانظر كم بينه وبين قول الشاعر:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... وقوف لحاج والركاب تهملج (6)
__________
(1) في المخطوط: أحدها . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) غرر الحكم للآمدي 2/ 161 ، بلفظ: (( من جهل علما عاداه )) .
(3) نهج البلاغة ، قصار الحكم / 268 ، وأخرجه الترمذي في السنن 4/360 (1997) ، والشهاب في مسنده 1/431 (739) ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(4) نهج البلاغة ، قصار الحكم/148 .
(5) في المخطوط: يبين . والصواب ما أثبت .
(6) البيت للنابغة الذبياني ، ورد في المخطوط هكذا: فارعا مثل الطود ...
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ } [البقرة: 179] ، وفي معناه قيل ما قدمنا ذكره: (( بعض القتل أحيا للجميع )) ، وقيل: (( القتل أفلُّ للقتل )) ، فلم تلحق واحدة من الكلمتين بشأوِ قوله عز وجل: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } .
ومما افتخر به النابغة قوله (1):
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع (2)
فانظر أين يقع ذلك من قوله عز وجل: { واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) } [البقرة] ، ومن قوله: { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [الأنعام: 13] .
وقد ذكرنا فيما مضى ما قيل في معنى قول الله تعالى: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } [المنافقون: 4] .
وقد عُدَّ من فصيح الكلام ما حكي عن بعض المتقدمين من قوله: (( سل الأرض من شق أنهارك ، وغرس أشجارك ، فأخرج ثمارك ، فإن لم تجبك حوارا ، أجابتك (3) اعتبارا )) . فانظر أين يقع ذلك من قول الله عز وجل: { أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) } [النمل] ؟! بل أين يقع ذلك من قوله: {
__________
(1) في المخطوط: بقوله . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) البيت للنابغة الذبياني ، انظر ديوانه.
(3) في المخطوط: حوار أجابتك . ولعل الصواب ما أثبت .
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقًا لِّلْعِبَادِ } [ق] ؟!
ومن الكلام الفصيح قول الشاعر:
بكت عيني وحق لها بكاها ... وما يغني البكاء ولا العويل (1)
لكن أين يقع ذلك من قول الله عز وجل ، حاكيا عن أهل النار: { سَوَاء عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) } [إبراهيم] ؟!! وتتبُّعُ هذا مما يطول لكثرته . وفيما ذكرناه كفاية ، وفيه تنبيه على ما لم نذكره .
- - -
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت قاله من قصيدة في رثاء حمزة بن عبد المطلب.
الكلام في ذكر ما في القرءان من الإخبار عن الغيوب
من ذلك قول الله عز وجل: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [البقرة] ، وقوله: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) } [الإسراء] ، وهذا من الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل ، لأن البشر لا سبيل لهم أن يعلموا كلاما يوجد مشتملا على التحدي والتقريع على العجز عن الاتيان بمثله ، فلا تقع له معارضة أبدا ، سيما والقوم الذين تُحِدُّوا به غاية في العداوة للمتحدي ، مع أنهم أهل البلاغة والمعرفة بذلك الشأن ، بل المعلوم أن المعارضة تقع لا محالة منهم إذا تمكنوا منها .
فإن قيل: فما يؤمنكم أن تقع المعارضة بعد هذا الوقت ، وإن لم تكن وقعت إلى هذه الغاية ؟!
قيل له: يؤمننا ذلك أن الخبر صدق ، ويُعلم أنه صدق أنه لو لم يكن صدقا ، لكان لا يجوز أن يجري الأمر في مخبَره على ما أخبر نحوا من أربعمائة سنة ، مع الأحوال التي ذكرناها . لأن ما يقال على سبيل التخمين والرجم ، لا يجوز أن يستمر الأمر في مخبَره على هذا الحد ، فعلم أنه خبرٌ صَدرَ عن علام الغيوب .
وأيضا قد علمنا أن الدواعي إلى إيراد المعارضة لم تكن حبست عن المطامع ، وكانت الصنعة أيضا في نفسها أقوالا في أمثلة العرب ، ولم يكن يكمن فيها من الفساد ما يكمن الآن . وعلى استمرار الأزمان ، ومضي الأعصار ، تزداد الصنعة ضعفا ، والدواعي قلة - لما تعذر وقوعه - فلما تعذر وقوعها (1) فيما سلف من الزمان ، كان وقوعها فيما بعد أيسر تعذرا .
وأيضا ظاهر الخطاب هو لأهل ذلك العصر ، وإن كنا قد عرفنا بدليل سوى الظاهر أن المراد به إلى آخر الدهر ، وإذا لم تقع المعارضة من أهل ذلك العصر ، وجب كون الخبر صدقا .
ومن ذلك قوله عز وجل: { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [البقرة] ، وقال أيضا في السورة التي يذكر فيها الجمعة: { قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [الجمعة] ، فأخبر أنهم لا يتمنون الموت أبدا .
فوجد مخبَر الخبر على ما أخبر به ، ولم يقل أحد منهم: إني أتمنى الموت . هذا مع ما كان عليه اليهود من شدة الحرص على تكذيبه ، وإبطال دعواه ، وتوهين أمره ، حتى أنهم استهانوا بالموت ، وما يجري من القتل الذريع عليهم ، في جنب استمرارهم على معاداته ، وتحققهم
__________
(1) في المخطوط: وقوعه . ولعل الصواب ما أثبت .