إحداهما: أضعف الحالات .
والأخرى: أقواها .
ثم نبَّه على ما بينهما . فجمع في الآية وجهين من الإيجاز:
أحدهما: تقليل الحروف .
والثاني: حذف الوسائط بين الحالتين ، مع جزالة اللفظ ، وحسن المعنى ، ثم [لما] أراد عز وجل بسط هذا المعنى قال: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الانسان مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } [المؤمنون] .
وهذا باب كبير من الفصاحة ، لأن البليغ هو الذي يبسط الكلام إذا شاء بسطه من غير خطل ، ويرخي عنان الخطاب ، ويتمطى ظهر الاطناب ، ويوجز إذا شاء الإيجاز من غير تحيف للمعنى .
وحكي عن بعض الفصحاء أنه وصف كاتبا بالبلاغة ، فقال: (( إن أخذ طوبارا ملاه (1) ، وإن أخذ شبرا كفاه )) ، يريد: أنه كان يبسط إذا شاء ، ويوجز إذا شاء .
ومن هذا الباب قوله عز وجل: { إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) } [الذاريات] ،
__________
(1) يعني: ملأه ، وإنما حذفت الهمزة تسهيلا على لغة هل الحجاز ، وليستقيم السجع. والطوبار: الورق الطويل الذي يطوى .
فأراد عز وجل هذا الإيجاز ، ثم لما أراد أن يزيد هذه الصفة يسيرا مع البسط ، قال: { كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ (20) } [القمر] .
ثم لما أراد أن يزيد على ذلك في البسط ، قال عز من قائل: { فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ (8) } [الحاقة] .
ثم لما أراد عز وجل البسط التام ، بسط في السورة التي يذكر فيها هودا صلى الله عليه ، والسورة التي يذكر فيها الأعراف ، والسورة التي يذكر فيها الشعراء ، وعلى هذا أوجز ذكر ثمود ، فقال عز وجل: { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) } [الحاقة] ، ثم بسط ذلك في سائر المواضع ، ومن ذلك قوله عز وجل: { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ } [النحل: 53] . فانظر - رحمك الله - إلى هذا الإيجاز مع استيفاء المعنى ، تعلم أنه أبلغ ما يمكن في بابه .
ثم زاد عز وجل بسطه يسيرا ، فقال: { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ } [الجاثية: 13] .
وقال أيضا: { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [لقمان: 20] ، ثم بسط عز وجل ذكر الآية ونعمه في السورة التي يذكر فيها النحل من قوله: { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) . . .
إلى قوله: وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) } [النحل] (1) ، ثم من قوله: { وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا . . . إلى قوله: أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) } [النحل] (2) ، ومن قوله عز وجل: { وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا
__________
(1) كمال الآيات: { ... وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ ... } .
(2) كمال الآيات: { . . . إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ . . . } .
... إلى قوله: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) } [البقرة] (1) ، وعامة هذه السورة في ذكر نعم الله عز وجل .
ومن ذلك قوله عز وجل: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) } [فصلت] ، وقوله (2): { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) } [الأعراف] ، فدلَّ عز وجل بهاتين الآيتين على حسن العشرة بأوجز اللفظ ، ثم ضبط ذلك في السورة التي يذكر فيها الحجرات أتم بسط .
ومن الاختصار الحسن قوله عز وجل: { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } [المنافقون: 4] ، وقد طلب هذا المعنى بعض الشعراء فقال:
ولو أنها عصفورة لحسبتها مسومة ... تدعو عبيدا وأرنما (3)
وقال آخر: ... ... ... ... ...
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلا تكر عليكم ورجالا (4)
وقال آخر: ... ...
__________
(1) كمال الآيات: { . . . وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ . . . } .
(2) في المخطوط: قوله . والصواب ما أثبت .
(3) لم أقف عليه.
(4) البيت لجرير ، ورد في ديوانه هكذا: خيلا تشد ...
أراني الخوف عدَّتهم ألوفا ... وكان القوم خمسا في ثلاث (1)
فلم يتفق لهم هذا الاختصار ولا هذه العذوبة .
وسمعت بعض أهل الأدب يحكي أن شاعرين كانا يتهاجيان فقال أحدهما في صاحبه: ...
يحسب كل صيحة عليه
فكاع (2) الآخر عنه ، وضعفت نفسه إعجابا بهذا البيت ، إحساسا من نفسه بالعجز عن مثله ، إلى أن عرف أنه أخذه من القرءان ، فتجرأ عليه ، وعادت له قوته ، وأخذ في مهاجاته .
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [البقرة: 179] ، وقد أخذ هذا بعضهم فقال: (( وبعض القتل أحيا للجميع )) .
وقال غيره: (( القتل أفلُّ للقتل )) . فلم يقع من ذلك موقع قوله: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } ، وتتبُّعُ هذا مما يطول .
وأما القسم الثاني من الاختصار فهو الذي يكون بالحذف ، وذلك يتنوع أنواعا كثيرة .
فمن ذلك أن يحذف (3) المضاف ويقام المضاف إليه مقامه ، كقوله عز وجل: { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) } [يوسف] ، أراد: أصحاب العير ، وأهل القرية .
__________
(1) لم أقف عليه.
(2) كاع: هاب وجبن .
(3) في المخطوط: تحذف . ولعل الصواب ما أثبت .
وكقوله: { إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ } [الإسراء: 75] ، أي: ضعف عذاب الحياة ، وضعف عذاب الممات .
وكقوله عز وجل: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) } [القيامة] ، ذُكِرَ عن أكثر المفسرين أن المراد: إلى ثواب ربها ناظرة ، فحذف الثواب .
وهذا مذهب للعرب مشهور ، وهو في القرءان كثير .
وقد يكون بحذف اسم أو فعل أو جواب ، كقوله عز وجل: { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى } [الرعد: 31] ، وتقديره: لكان هذا القرءان ، فحذفه .
وكقوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ } [التوبة] ، تقديره: لكان ذلك خيراً لهم ، فحذفه .
ومثله قوله عز وجل: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) } [النور] ، ومثل ذلك: { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } [الزمر: 9] ، وتقديره: أيساويه من لا يكون كذلك ؟! فحذفه .
ومثله في الشعر كثير ، فمن ذلك قول الشاعر:
فأقسم لو شيٍ أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا (1)
__________
(1) البيت من قصيدة لامرئ القيس . ورد في ديوانه هكذا: وجدك لو شيء . . . انظر ديوانه .
معناه: أردناه ولم نقبل منه .
ومثله قول الشاعر:
عصاني إليها القلب إني لأمره ... سميع فما أدري أرشد طلابها (1)
معناه
عصيت إليها القلب إني لأمرها
معناه: فما أدري أرشد هو أم غي ؟ فحذف .
ومثله قول النابغة:
أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما يزل برحالنا وكأن قد (2)
يريد: كأن قد زالت ، فحذف .
ومن ذلك أن يضمر أحد المذكورين ويظهر فعل الآخر لهما ، وذلك كقوله عز وجل: { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [البقرة: 6] - إذا قرئ بكسر اللام - المراد: وألحقوا الغسل بأرجلكم .
وكقوله عز وجل: { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ (18) } [الواقعة] ، ثم قال: { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ (21) } [الواقعة] ، والمراد: ويؤتون بفاكهة ولحم طير ، لأن الفاكهة واللحم لا يطاف بهما .
وكذلك تأويل من قرأ: { وَحُورٌ عِينٌ (22) } [الواقعة] - بالجر - تقديره: ويتزوجون بحور عين ، فحذف ذلك أجمع .
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب الهذلي ، ورد في ديوانه هكذا:
1@ . . . .
(2) البيت للنابغة الذبياني ، أنشده الأشموني في الشواهد رقم (5) ، وابن عقيل رقم (2) .
ومنه قوله عز وجل: { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ } [يونس: 71] ، تقديره: وادعوا شركاءكم .
وورد مثله في الشعر:
ما حططت الرحل عنها واردا ... حتى بدت همَّالة عيناها (1)
علفتها تبنا وماء باردا
أراد: سقيتها ماء باردا ، فحذفه .
وقال الآخر:
إذا ما الغانيات برزن يوماً ... وزججن الحواجب والعيونا (2)
أراد: وكحلن العيونا ، لأن العيون لا تزجج .
وقال آخر:
يا ليت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا (3)
ورأيت بعلك في الوغى
والمراد: حاملا رمحا ، لأن الرمح لا يتقلد ، لكنه حذف المراد .
ومنه قوله تعالى: { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي } [الصافات] ، والمراد: إلى حيث أمر ربي .
__________
(1) البيت لذي الرمة ، ورد في ديوانه هكذا:
1@علفتها تبنا وماء باردا
انظر ديوانه . وهو بيت يتيم .
(2) انظر شرح التلخيص .
(3) البيت لعبد الله بن الزبعري ، ورد في ديوانه هكذا:
1@متقلدا سيفا ورمحا
انظر ديوانه . وهو بيت يتيم .
ومنه قوله: { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } [سبأ: 33] والمراد: مكركم بالليل والنهار .
ومنه قوله: { فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } [آل عمران] ، فحذف .
ومن الحذف: إقامة الضمير مقام الذكر ، نحو قوله: { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) } [ص] ، يعني: الشمس ، ولم يجر لها ذكر . وهذا رأي عامة المفسرين ، وإن كان بعضهم قال: إن المعنى: هو الصافنات الجياد (1) .
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } [النحل: 61] يعني: على الأرض ، ولم يجر لها قبل ذلك ذكر .
وكذلك قوله عز وجل: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا } [فاطر: 45] ، يعني: على ظهر الأرض .
ومنه قوله عز وجل: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) } [القدر] ، أراد به: القرءان ، من غير أن يكون جرى له ذكر .
ومثله قول الشاعر:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (2)
يعني: النفس .
__________
(1) ذكر ذلك أبو مسلم ، وعلي بن عيسى . مجمع البيان للطبرسي 5/ 113 .
(2) لم أقف عليه .
وكذلك قول لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها (1)
يعني: الشمس ، لقوله: ألقت يدا في كافر .
ومن الحذف قوله عز وجل: { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) } [الصافات] ، يعني: ذكرا حسنا ، وثناء جميلا .
ومن أقسام الفصاحة: التجنيس ، وهو أن يجمع بين كلمتين التقتا من حروف متجانسة ، وذلك مثل قوله عز وجل ، حاكيا عن صاحبة سليمان صلى الله عليه: { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44) } [النمل] .
ومن ذلك قوله عز وجل:{ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى }[ يونس:26] .
وكذلك قوله:{ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى}[الروم: 1] .
وقوله عز وجل حاكيا عن يعقوب صلى الله عليه: { يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ } [يوسف: 84] .
وكذلك قوله عز وجل: { يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) } [النور] .
وكذلك قوله عز وجل: { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) } [الليل] .
وقوله: { اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم } [التوبة: 38] ، ولم يكثر هذا الباب في القرءان لما نذكره ، وكذلك في أشعار المتقدمين ، ولا
__________
(1) البيت من معلقة لبيد .