ومن أقسام الفصاحة: جزالة اللفظ ، وهي موجودة في جلِّ القرءان وجمهوره ، وإن لم يوجد في جميعه - كما قلناه - في القسمين الأولين ، لأنه في قوة الطويل الذي يصرف على معاني مختلفة ، ومقاصد متباينة ، وأغراض متمايزة ، كالأوامر والنواهي ، والزواجر والمواعظ ، والوعد والوعيد ، والقصص والمثل ، أن يكون جميعه مؤلفا من ألفاظ جزلة ، لأن جزالته تكون لتأليفه من حروف مخصوصة ، والكلام مبني من الأسماء والأفعال والحروف ، وفي الكثير من الأسماء والأفعال والحروف ما لم يؤلف من الحروف التي تقتضي الجزالة ، والفصيح إذا صار إلى تلك الأسماء والأفعال والحروف ، فلا بد من إيرادها على ما هي عليه ، إذا كان متكلما بكلام العرب .
ولهذا لا يمكن في شيء من أشعار فحول الشعراء ، وكلام البلغاء ، أن يكون من أوله إلى آخره مؤلفا من ألفاظ جزلة .
فأما العذوبة فهي أمكن ، لأنها تكون بالتلاؤم ، وأن لا تكون الكلمة مؤلفة من حروف متنافرة ، وذلك أمكن من الجزالة ، وقد يكون ذلك بتلاؤم الحركات والسكنات ، كما يكون بتلاؤم الحروف ، وأما مواضعها من القرءان فأكثر من أن يأتي عليها الاحصاء والعد ، ونحن نذكر منها مواضع ننبه بها على ما سواها .
من ذلك قوله عز وجل: { كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) } [البقرة] .
وقوله: { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } [البقرة: 20] ، وفي هذه الآية من وجوه الفصاحة سوى الجزالة ما نبينه في موضعه .
وكقوله: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ } [البقرة: 197] .
وكقوله عز وجل: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [البقرة: 179] ، وقوله: { وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [البقرة: 194] .
وقوله عز وجل: { فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) } [البقرة] ، وقول عز وجل: { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ (137) } [الأعراف] ، وقوله: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) } [الأعراف] .
وكقوله: { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) } [الأعراف] .
وقوله عز وجل: { فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) } [الأعراف] .
وكقوله عز وجل: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) } [هود] ، وهذه السورة أكثر ألفاظها من ألفاظ الجزالة مع العذوبة . وفيها: { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء
أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ } [هود: 44] ، وفيها: { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } [هود] .
ومن ذلك عامة سورة القصص وهو من الفصاحة العجيبة ، لأن أول هذه السورة في اقتصاص أحوال موسى صلى الله عليه من مولده إلى مبعثه إلى قصده فرعون ، مبلِّغاً ما أرسل به إليه ، وذلك مما يصعب جدا في اقتصاص أحوال بعينها ، لأنه لا بد من ضعف يَعرِض فيما جرى مجراه ، فإذا أردت أن تتحقق ذلك ، فتأمل كلام الفصحاء إذا قصدوا هذا القصد .
ومن ذلك عامة { حم } السجدة . تأملها تجدها على ما قلناه .
ومن ذلك: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) } [النجم] ، وما بعدها من الآيات .
ومن ذلك قوله عز وجل: { أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) } [النمل] .
ومن ذلك في السور القصار قوله: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5) } [الفيل] .
وقوله عز وجل: { وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) } [العاديات] .
وتتبُّعُ هذا مما يتعذر ، فإن أكثر القرءان على هذا ، ونحن إذا بينا سائر أقسام الفصاحة ننبه (1) في أثنائها أيضا على ما فيها من الجزالة ، وإن هذا باب عام فيه . وإن كان بعض الألفاظ يزيد على بعض في (2) هذا المعنى ، أعني: في الجزالة والعذوبة .
ومن أقسام الفصاحة: الاستعارات والتشبيهات ، وإحداهما قريبة من الأخرى ، وإن كان بينهما فصل ، وذلك أن التشبيه هو أن يذكر الشيء باسمه ، ويشبهه بغيره ، كقولك: زيد مثل الأسد شجاعة ، وكالريح جودا ، وكالبدر حسنا .
والاستعارة أن تنقل إليه اسم الشيء المشبه به ، وذلك كقولك: حمار ، إذا وصفته بالبلادة ، أو كلب ، إذا وصفته بالخساسة . والاستعارات والتشبيهات في القرءان كثيرة حسنة ، واقعة موقعها لحسنها ، وشرف موضعها .
ونحن نذكر منها جملا ننبه بها على ما سواها ، لأن استيفاءها مما يطول ويتعذر .
__________
(1) في المخطوط: نتيه . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: وفي . والصواب ما أثبت .
فمن ذلك قوله عز وجل: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) } [البقرة] ، فشبَّه المنافقين الذين (1) أظهروا الإيمان ، وانتفعوا به بين المسلمين ، بمن استوقد نارا ، حتى أضاءت ما حوله ، وشبَّه أحوالهم عند الموت وبعد الموت ، في أنهم لا ينتفعون بما أظهروه من الإيمان ، ثم { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } حتى بقوا في { ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) } ، ثم استعار لهم عز وجل اسم الأصم والأبكم ، وضم الأعمى فقال: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ (18) } [البقرة] ، فهم في إعراضهم عن استماع الحق بمنزلة الصُّم الذين لا يسمعون ، وفي تركهم النطق بالحق - على ما أمرهم الله عز وجل ودعاهم إليه - بمنزلة الخرس الذين لا ينطقون .
ثم قال عز وجل: { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ . . . } [البقرة: 19] إلى آخر الآية ، فشبههم في حيرتهم وتبلدهم ، واضطراب أمورهم ، وحرج صدورهم ، بمن يكون في ظلمات ورعد وبرق ، ثم ذكر هذا المعنى بقوله عز وجل: { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء } [الأنعام: 125] ، ثم زاد في وصف أحوالهم ، فقال: { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ } [البقرة: 20] ، ثم رد عز وجل هذا المعنى - أعني تأثير البرق في الأبصار - في غير هذه الألفاظ ، فقال: { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) } [النور] ، وهذا من الفصاحة العجيبة والبلاغة التامة ، أن يَرِد معنى واحد (2) بألفاظ مختلفة تجمعها الفصاحة .
ثم عاد عز وجل إلى ذكر من بدأ بذكرهم ، فقال: { واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) } [البقرة] ، وهذا قسم من الفصاحة ، وهو أن يجري ذكر شيء ثم يتجاوز إلى ذكر غيره ، ثم يعطفه عليه ويعاد ذكره - أعني المذكور أولا - مثل قول جرير:
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام (3)
فجمعت هذه الآية أنواع الفصاحة ، منها الجزالة في اللفظ ، مع التشبيهات والاستعارة الواقعة ، والعطف آخر الكلام على أوله .
ومن الأمثال الحسنة والتشبيهات الواقعة ، ما ذكره عز وجل من قوله عز وجل: { مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ . . . إلى قوله: يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) } [البقرة] (4) ، فشبَّه عز وجل من
__________
(1) في المخطوط: الذي . والصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: واحدا . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) البيت مطلع قصيدة مكونة من ثمانية وأربعين بيتا ، لجرير . انظر ديوانه .
(4) كمال الآيات: { . . . الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ . . . } .
أنفقوا ابتغاءً لوجه الله ، وطلباً لثوابه الرادع (1) ، بما يحصل لهم من الربح بحبة ، وبمن له جنة بربوة ، آتت أكلها ضعفين .
وشبَّه من أحبط ثواب انفاقه بطلب الرياء والسمعة ، بصفوان عليه تراب إذا أصابه الوابل ، وبمن له جنة وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت . وكلها تشبيهات وأمثال ، واقعة بألفاظ جزلة .
ومن الاستعارة الحسنة قوله عز وجل: { وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } [الإسراء: 24] ، وقوله: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) } [الشعراء] ، فجمعت الآية بين الاستعارة (2) الحسنة ، والجزالة البالغة ، والعذوبة اللطيفة . وأخذ هذا المعنى الكميت فقال:
خفضت لهم مني جناحي مودة ... إلى كنف عطفاه أهل ومرحب (3)
فأخذ اللفظ والمعنى ، ولكن لم يرزق تلك العذوبة الصافية ، وذلك الماء المتسلسل ، على أن هذه اللفظة في غرة هذا البيت مع ما بها ، والباقي كما ترى (4) .
__________
(1) كذا في المخطوط .
(2) في المخطوط: فجمع بين الآية الاستعارة . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) البيت من قصيدة للكميت الأسدي ، مطلعها: ... طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
1@ . . .
(4) في المخطوط: يرى . ولعل الصواب ما أثبت .
ومن الاستعارة الحسنة العذبة مع الجزالة قوله عز وجل: { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا } [مريم: 4] ، فاستعار للبياض اسم الاشتعال ، مصبوبا في قالبه ، مقصورا عليه ، وهذا من الفصاحة البالغة .
ومن ذلك قوله عز وجل: { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ . . . } [النور: 35] إلى آخر الآية ، فسمى نفسه باسم: النور ، لَمَّا كان عز وجل هو خالق النور ومنشؤه ، مع ما فيه من النفع العظيم لأهل السماوات والأرض ، وهذا من الاستعارة الحسنة ، ومن تسمية الفاعل بفعله . ومنه قول الشاعر:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار (1)
وعلى هذا تَأَوَّل مَن قرأ: إنه عمَلٌ غير صالح - برفع اللام وفتح الميم - ثم شبَّه نوره بالمصباح ، فقال: { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ } [النور: 35] ، ثم شبَّه الزجاجة بالكوكب ، فقال: { الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } ، وهو أضوأ الكواكب ، ثم عاد إلى ذكر المصباح ، وهذا يسمى الالتفات ، فقال: { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ . . . إلى قوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء } ، فعاد إلى ذكر النور ، وهذا أيضا مما يسمى: الالتفات ، وهو
__________
(1) البيت للخنساء من قصيدة ترثي بها أخاها صخرا . ورد في المخطوط هكذا: تراعى إذا غفلت . مصحفة .
أن يجري ذكر شيء ثم يتجاوزه إلى غيره ، ثم يذكر ثانياً ، كما قال جرير:
متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام (1)
فجمعت هذه الآيات وجوها من الفصاحة ، منها جزالة اللفظ ، ومنها الاستعارة ، ومنها تشبيه بعد تشبيه ، ومنها الالتفات بعد الالتفات .
ومن التشبيه الواقع قوله عز وجل بعد هذه الآية: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ } [النور: 39] . لما كانت أعمالهم محبطة لا نفع فيها في الآخرة ، شبهها بالسراب الذي لا نفع فيه ، ولأنه مما يظن الناظر أنه ماء ، وكذلك الكافر لما يظن أن له نفعا في عمله ، شبهه أيضا به ، فهذان وجهان من التشبيه . وفيه تشبيه ثالث وهو انكشاف حال كل واحد منهما عن أنه لا نفع فيه لراجيه . وفيه تشبيه آخر وهو تشبيه الكافر بالظمآن ، وتشبيه ظنه بظنه ، وتشبيه خيبته بخيبته عند شدة حاجته إليه ، و قوة تعويله عليه ، فقد جمعت الآية هذه الوجوه من التشبيهات مع جزالة اللفظ ، وحسن المعنى ، وقد عُدَّ من محاسن امرئ القيس أنه جمع بين تشبيهين في بيت واحد ، حيث يقول:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
__________
(1) سبق تخريجه .
ومن التشبيه الحسن في هذا المعنى قوله: { مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [إبراهيم: 18] .
ومن الاستعارة في هذا المعنى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23) } [الفرقان] ، فعبَّر عن فعله عز وجل بالقدوم ، وعن أعمالهم بالهباء المنثور .
ومن التشبيه الحسن قوله عز وجل: { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (19) } [الانسان] .
ومن التشبيه قوله تعالى: { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا } [يونس: 27] .
ومن ذلك قوله عز وجل: { كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4) } [الصف] .
ومنه قوله عز وجل: { فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) } [الحج] .
ومن الاستعارة قوله عز وجل: { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } [البقرة: 223] ، فسماهن: حرثا ، لأن النسل يخرج منهن ، كما يخرج الزرع من الأرض .
ومن ذلك قوله عز وجل: { وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } [البقرة: 267] أي تترخصوا ، فسمى الترخص: إغماضا ، لأن الانسان يصرف بصره عما لا يحب أن يراه ، ويقف على حقيقته .
ومن ذلك قوله عز وجل: { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ } [المائدة: 64] ، أراد: كلما أهاجوا شرا .
وأمثال هذا في القرءان أكثر من أن يعدَّ ويحصى (1) ، وهي عادة العرب في مخاطباتها ومحاوراتها ، وأشعارها وخطبها ، ولم نطول الكتاب بذكر ما ورد عنهم في هذا الباب ، لشهرته واستفاضته .
ومن أقسام الفصاحة: الإيجاز .
وذلك ينقسم إلى قسمين ، قد يكون بتقليل الحروف مع استيفاء المعنى ، وقد يكون بالحذف ، والحذف على أنحاء شتى ، ونحن نبينه على جميع ذلك بذكر بعضه ، إذ استيفاء جميعه مما يطول .
فمن الإيجاز بتقليل الحروف ، قوله عز وجل: { وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } [النمل: 91] ، ومن ذلك قوله عز وجل: { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) } [النازعات] ، قلَّلَ الحروف في هذا الموضع ، لما أراد الإيجاز ، وبسط حيث أراد البسط في هذا المعنى ، فقال: { أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) } [عبس] ، وقال أيضا: { خَلَقَ الانسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4) } [النحل] .
فانظر - رحمك الله - إلى شرف هذا الكلام ، فإنه أوجز هذا الإيجاز ، وذكر للإنسان حالتين:
__________
(1) في المخطوط: تعد وتحصى . ولعل الصواب ما أثبت .