رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً (93) } [الإسراء] . وقد حدث بعدئذ أن رَقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السماء ليلة الإسراء ، بعد تقديم هذه الاقتراحات بأمد طويل ، فكان وقوع الارتقاء على هذا النحو ، دليلاً ناطقاً على أن الحكمة الإلهية لم تكترث قط بمطالب الكفار ، ولم تُعِرها أية قيمة ، بل جاء الرقي في السماء ليلة المعراج ، مظهر تكريم بحت من الله لنبيه ، لم تنزل به الإرادة العليا على رغبة بشر ، ولم يرتب على إيقاعه ما يترتب - غالباً - على وقع التحدي ، من إيمان أو كفران ، بل تركت مسألة اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو التخلف عنه ، موكولة إلى المعجزة العقلية الفريدة ، معجزة القرآن الكريم ، { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } [الكهف: 29] .
وقد أقسم المشركون مرة أنهم يؤمنون لدى أية معجزة مادية تقع ، كما يضرب الشاب لوالده أن يرضي نوازع طفولته ثم يسمى بعدئذ رجلاً ! فأبى الله إلا أن يردهم إلى أفئدتهم وأبصارهم ، يتعرفون بها الحق ويثبتون بها عليه ، فإن معجزات الأرض والسماء لا غناء فيها إن لم يستنر القلب والعقل بما أودع الله فيهما من نور ، { وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) } [الأنعام] . ويزيد هذا المعنى جلاء ، قول القرآن في تصوير موقف الكافرين ، وبيان ما انطوت عليه أفئدتهم وأبصارهم من عناد وغباء ، { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ
إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15) } [الحجر] . فماذا تجدي المعجزات المادية مع هؤلاء ؟! وهم إنما ضلوا لاستغراق قلوبهم وعقولهم ، وهم لو تفتحت قلوبهم لاكتفوا بالقرآن آية لا تعلوها آية ، ومعجزة لا تدانيها معجزة ، { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) } [محمد] .
النبي الانسان
ولئن كان القرآن هو الكتاب الذي يصور للإنسانية آفاق كمالها ، إن محمداً صلوات الله عليه وسلامه هو الرجل الذي حقق في شخصه وفي آثاره أعلى ما تنشده الانسانية من مُثُل ، فقد رفع شأن (( الضمير )) عندما أعلن أن التقوى تستقر في القلوب الزكية ، ولا تغني عنها قشور العبادات ، وثبَّت قيمة العقل وجعله أصل دينه ، وأسس عليه المسلمون حضارة متشعبة الثقافات والفنون ، وصلت ما انقطع من تراث الانسانية الفكري ، وكانت البذور المنتجة التي أورثت العالم حضارته الحديثة .
ثم إن هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو المحرر الأول للانسان ، والمقرر الأول لحرية العقل والضمير . لقد جعل الكون كله مسخراً لنشاط الانسان الذهني والبدني ، وجعل الانسان سيداً في نفسه ، سيداً لعناصر هذا العالم ، عبداً لله فقط ، فلا سلطة البتة لدهاقين السياسات والديانات ! ونبي الاسلام عربي ، ولكن الدين الذي جاء به لا جنسية له ، وأي جنسية لدين
يخاطب العقل حيث كان ؟ ويبني أدلته على النظر في فجاج الأرض والسماوات ؟!
بينَ النبوة والعبقرية
تاريخ البشر حافل بأسماء الكثيرين من أصحاب المواهب الرفيعة ، والكفايات الضخمة . وعتْهُمُ الانسانية في ذاكرتها ، وسجلت لهم في صحائف الخلود ما قاموا به من أعمال جليلة ، وروت للأجيال آيات مجدهم ، وآثار نبوغهم ، لتكون منه عبرة حافزة . والعظمة قدر مشترك بين ألوف من الناس ، ظهروا في شتى الأعصار والأمصار ، ودفعهم امتيازهم المعنوي إلى اعتلاء القمة ، إلا أن العظماء يتفاوتون فيما بينهم تفاوتاً بعيد المدى .
ألا ترى كواكب السماء ونجومها ، إن بعضها أكبر من الآخر ألف ألف مرة ؟! ومع ذلك فالدراري الصغيرة ليست من الحصى والجنادل !
فإذا فحصنا تواريخ العظماء ، وفيهم الأنبياء من مبلِّغي الوحي ، وفيهم الفلاسفة من قادة الفكر ، وفيهم المخترعون من علماء الكون ، وفيهم الزعماء من قادة الجماهير ، وفيهم الأدباء من حملة القلم ، وفيهم ، وفيهم . فإن هذا التمحيص وما يستتبعه من موازنة وترجيح ، لا يميل بقدر أحد من أولئك العظماء ، من الحد الذي يهوي فيه إلى منازل السوقة .
العباقرة
كثيراً ما تكون العظمة امتداداً في موهبة من مواهب النفس ، بل كثيراً ما يكون هذا الامتداد على حساب المواهب الانسانية الأخرى . فإما أصابها
بالضمور والشلل ، وإما ردّ النواحي الأخرى من شخصية العظيم إلى مثيلاتها في سائر الناس ، بل قد تكون أبعد سقوطاً وأشد ضراوة !! ومن هنا لا تعدم في سيرة كل عظيم من أولئك المشهورين نقطة سوداء وجانباً غائماً .
كان نابليون قائداً محنكاً مِسعر حروب ، ولكنه كان ساقط الخلق ، فاحش الغدر .
وكان جاك روسو أديباً ثائراً ، من أعظم واضعي دساتير الحرية في العالم ، ولكنه كان معوج السلوك ، هزيل الشرف .
وكان بسمارك داهية في السياسة لا يبارى ، وكان كذلك كذاباً مزوراً .
وهناك من الفلاسفة والشعراء ، والمفكرين والمخترعين ، من تفجئك في أحوالهم وأعمالهم أمور شائنة ، تستغرب كيف يصدر مثلها عنهم !!
وهم - مع هذا كله - عباقرة ، لأن انتاجهم العلمي والأدبي ، وتراثهم الرائع الفريد ، يسمو بهم فوق مستوى العامة ، والذين طهرت سيرهم من هذه الشوائب ، تراهم مبرزين في ناحية ، ومعتادين في ناحية أخرى ، أو مرضى بما يفسد عليهم أفكارهم .
فأبو العلاء الأديب الرقيق المتشائم ، لو وهب معدة قوية ، أو بصراً حاداً ، لكان لفلسفته اتجاه آخر غير التبرم بالدنيا ، وتسخُّط الوجود فيها .
ومن أعظم زعماء العلماء من تراه أسير عقدة نفسية ، أو شذوذ جنسي ، أو أثرة حادة !
ومنهم المصابون بجنون العظمة وتقديس الذات ، وكراهية شيء معين أو محبته !
ولذلك تتسم حياتهم بالنقائض الموزعة على جانب مستور منهم ، وجانب مكشوف للجماهير ، لا غبار عليه . وقد اعتبرت الحضارة الأوربية هذا التناقض شيئاً عادياً مألوفاً ، ومن ثم أباحت للعظماء أن تكون لهم شخصية مزدوجة ، ورأت أن تنتفع الأمم بمواهبهم ، وأن تتجاوز لهم عن سقطاتهم . والانجليز يعرفون أن (( نلسن )) مات وهو يختلس عرض غيره ، ولكنهم يغضون الطرف . ويعرفون أن (( تشرشل )) خان عهوداً شخصية واجتماعية ، بَيدَ أنهم يتعامون عنها . فلْنَدَع هذا الفريق المعدود من زعماء العالم ولنرتفع . أجل لنرتفع كثيراً ، لنصل إلى مستوى أكرم وأطيب ، ولنتكلم عن صنف آخر .. هم
الأنبياء
لئن كانت العبقرية امتداداً في موهبة واحدة ، أو في جملة مواهب ، إن النبوة امتداد في المواهب كلها ، واكتمال عقلي وعاطفي وبدني ، وعصمة من الدنايا ، ورسوخ في الفضائل ، وعراقة في النُّبْل والفضل .
هُمُ الرجالُ المصابيحُ الذين همُ ... كأنهم من نجومٍ حيَّةٍ صُنعوا
أخلاقُهُم نُورهُم مِن أي ناحيةٍ ... أَقبَلتَ تَنظرُ في أخلاقهم سَطعوا
فالذين يُرَشّحون للنبوة يُصطفَون لها اصطفاء .
قلوب نقية تربطها بالملأ الأعلى أواصر الطهر والصفاء . وعقول حصيفة ناضجة ، لا تنخدع عن حقائق الأشياء ، ولا يصيبها ما أصاب كبار
الفلاسفة ، من شرود وعماء . وأجسام مبرأة من العلل الخبيثة ، والأمراض المشوهة أو المنفرة . وصلة بالناس قوامها البر والخير . فليس يتصور في حق نبي لله ، أنه أخلَّ بحق المروءة والفضل ، بَلْهَ أن يرتكب ما يخدش الشرف ، أو يقدح في العصمة !
ثم إن الرسل أمناء على الوحي السماوي ، والهداية الاسلامية ، فكلامهم حكمة ، وحياتهم أسوة ، سريرتهم وعلانيتهم سواء ، ليست لأحدهم صفة مطوية ، وصفحة مكشوفة .
طرائق معيشتهم الخاصة كمناهج دعوتهم العامة ، تنضح عفافاً واستقامة . ظلوا بين الناس ما شاء الله ، فكانت مجتمعاتهم بركة ، ثم قبضوا فخلفوا أقدس مواريث ، وأقدس تركة ، وحسبك أنهم خيرة الله من خلقه ، { اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام ] ، { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (76) } [الحج] . وأقدار الرسل تتفاوت سناء وسمواً .
فالرسول في قبيلة محدودة ، أفضل منه الرسول لمدينة فيها مائة ألف أو يزيدون ، أفضل منه الرسول لشعب بأسره .
وصاحب الكتاب المستقل أفضل ممن يحكم بشريعة سابقة ، ولا نزال نرقى في مراتب العظمة ، ولا نزال نحلق صعداً نحو القمة ، ولا نزال نقطع أشواطاً بعد أشوط في مدارج الكمال البشري ، حتى نصل إلى مستوى تنحسر دونه أبصار العباقرة مهما طمحت ، وتتطامن عنده أقدار الأنبياء مهما عظمت ، لنجد صاحب الرسالة العظمى إلى خلق الله قاطبة ، ملتقى الفضائل المشرفة
، ومظهر المثل العلياء ، التي صورتها الخيالات ثم صاغها الله انساناً يمشي على الأرض مطمئناً .
ذلكم هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلكم منزله بين عباقرة الأرض وأمناء الوحي !
أفق للمجد يزهو على كل أفق ، وتسطع فيه أشعة متموجة تنطلق بالحب والحنان والرحمة ، والعقل والفراسة والحكمة . هيهات هيهات أن يدرك كنه ذلك أحد ، فالعظيم لا يعرفه إلا عظيم مثله ، ومن كمحمد في الناس ؟!!
كيف ترقى رقيك الأنبياء ... يا سماء ما طاولتها سماء
لم يساووك في علاك وقد ... حالَ سناً منك دونهم وسناء
مسك الختام
كان المرسلون الأولون مصابيح تضيء في جوانب الليل الذي ألقى بِجِرِانه على أنحاء الدنيا ، فلما بدأ فجر الانسان ينشق عنه الظلام ، وبدأت أشعة الرسالة العامة تتهادى في الأفق ، انتقل العالم من عهد إلى عهد .
لا تذكروا الكتب السوالف قبله ... طلع الصباح فأطفأ القنديلا
والكلام في عظمة الشخصية التي حملت عبء هذه الرسالة يطول ، وحسبنا أن الله عز وجل جمع في سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من شارات السيادة والنبالة ، ما تفرق في النبيين من قبل .
ولقد ذكر الله أسماء ثمانية عشر نبياً ، فيهم أولو العزم وأصحاب الرسالات الأولى ، ثم قال: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) } [الأنعام] .
وهذا الأمر بالاقتداء كان ماثلاً في ذهن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقوم بتبليغ الدعوة . فلما طعن أحد المنافقين في تصرف له وهو يقسم الغنائم قائلاً: هذه قمسة ما أريد بها وجه الله . كظم النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيظه وقال: (( رحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر )) .
ومن ثَمَّ قال المفسرون في شرح هذه الآية: إنها تومئ إلى فضل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على من سبقه .
فإن خصال الكمال التي توزعت عليهم ، التقت أطرافها في شخصه الكريم .
كان نوح صاحب احتمال وجَلَد وصبر على الدعوة .
وكان إبراهيم صاحب بذل وكرم ومجاهدة في الله .
وكان داود من أصحاب الشكر على النعمة وتقدير آلاء الله .
وكان زكريا ، ويحيى ، وعيسى من أصحاب الزهادة في الدنيا ، والاستعلاء على شهواتها .
وكان يوسف ممن جمع بين الشكر في السراء والصبر في الضراء .
وكان يونس صاحب تضرع وإخبات وابتهال .
وكان موسى صاحب شجاعة وبأس وشدة .
وكان هارون ذا رفق .
حتى تنظر إلى سيرة محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذه السير السابقة ، فتراها كالبحر الخضم تصب فيه الأنهار .
فمَبلَغُ العلمِ فيه أنهُ بَشَرٌ ... وأنهُ خيرُ خلق الله كُلّهمِ
موئل البطولات
من ذوي المواهب من يعيشون في عزلة قصيّة عن الجماهير ، ويؤثرون البقاء في البرج العاجيّ ، عما تستتبعه مخالطة الناس ، من سخط وتبرم .
ومنهم من يلقي بنفسه في معترك الحياة ومعه عُدة النجاح ، مع عمق النظرة ، وذكاء الفكرة ، والبصر النافذ إلى أدواء الشعوب وأدويتها . غير أنه مع هذه المواهب الجليلة ضيق العاطفة ، لا يألف إلا القليلين ممن هم على شاكلته في المزاج ، أو من يتفقون معه في الأهداف .
ومن العظماء من أوتي امتداداً في شخصيته ، وبسطة في مشاعره ، تجرف الناس إليه ، وتعلق القلوب به . ولسنا نقصد بهذا قوة السيطرة على العامة ، والقدرة على تحريكهم وتسخيرهم ، كلا كلا . وإنما نقصد هذا النوع من العظماء الذي يلتف به أصحاب الكفايات الكبيرة ، ويرمقونه بالإجلال ، ويقدمونه على أنفسهم ، عن طواعية واختيار .
وقد ظهر أفراد قلائل من زعماء الشعوب على هذا الغرار الفذ ، وتركوا في تاريخهم أثراً لا يمحى .
على أن الانسانية لم تعرف في ماضيها الطويل - ولن تعرف - رجلاً وقّرَه الأبطال وكرَّمه العظماء ، وانطبعت محبته في شغاف القلوب ، كما عرف ذلك في النبي الكريم ، محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
كان أصحاب الشجاعة في القتال يحبونه ، لأنه أشجع منهم حين تحمر الحدق ويشتد البأس .
وكان أصحاب الحذق في السياسة والتدبير يحبونه ، لأنهم يرونه أكثر منهم مرونة ، وأرحب أفقاً .
وكان الأجواد الأسخاء يرونه وقد ملك وادياً من الإبل والغنم ، فما غربت عليه الشمس إلا وهو مِنَحٌ وهدايا للطالبين والراغبين .
وكان العبَّاد يرونه صواماً قواماً ، والزهاد يرونه عفيفاً مترفعاً ، وأصحاب البيان واللسان يرونه فصيحاً معرباً . حتى المعجبون بالقوى المادية ، كانوا يرونه مصارعاً يهزم العمالقة .
وهكذا ما عرف أحد من العظماء ميزة في نفسه يفخر بها ، إلا وجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خلق أعرق منها وأرقى . ولذلك يرفع إليه بصره مثلما يرفع الناس أبصارهم إلى القمم الشواهق التي لا تنال ! ومع هذا الجلال الفارع ، وذلك الامتياز الرائع ، فقد كان هذا الرسول الأمين قريباً بسهولة طبعه من كل فرد ، فما يعز مناله على أرملة أو مسكين ، بل بلغ من اتساع عواطفه وتدفق مشاعره ، أن كل فرد كان يحس في نفسه أنه آثر الناس عند رسول الله ، وأقربهم إليه ، وأعزهم عليه . كالشمس ترسل أشعتها فيستمتع الجميع بها ، ويأخذ كل امرئ حظه من الدفء والحرارة والمتعة ، لا يحس بأن أحداً يشاركه فيها ، أو يزاحمه عليها . كذلك كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم مع صحابته ، يأوون من نفسه الكبيرة إلى كنف رحيم .