يكشف هذه الجملة أنَّا نعلم أن الكاتب الذي يكتب الرسائل في أعلى طبقات الفصاحة إذا عدل عنها إلى الشعر ، ربما لم يمكنه أن يأتي به في أعلى طبقات الفصاحة ، وكذلك الشاعر المفلق ربما أمكنه في الشعر أن يرتقي إلى طبقات الفصاحة ، فإذا أخذ يكتب الرسائل هبط عن مرتقاه .
وعلم أن هذا الخطيب المصقع ، أو المحاور الفصيح ، قد يعدل الواحد منهما عما هو نهاية فيه إلى غيره ، فلا يمكنه بلوغ النهاية فيه .
فوضح بما ذكرنا أن العلم بإيقاع الفصاحة في نظم مخصوص ، علم ثالث غير العلم بالنظم ، والعلم بالفصاحة .
فلم يمتنع أن يتعذر ما ذكرنا ، لفقد ذلك العلم . وهذه العلوم هي التي يعبر عنها بالطبع ، فيقال: فلان مطبوع في كذا ، غير مطبوع في كذا . والمرجع به إلى العلوم التي ذكرناها .
يكشف ذلك أنا نعرف من حال الخليل والأصمعي ، ومن جرى مجراهما ، أنهم كانوا يعرفون الفصاحة ولم تتعذر عليهم . وكانوا يعرفون وزن الشعر ولم يكن يتعذر . ومع هذا نعلم أن واحدا منهم لم يكن يمكنه أن يأتي بمثل أشعار امرئ القيس ، والنابغة ، والأعشى ، ومَن دونهم من فحول الشعراء ، وليس السبب فيه إلا ما ذكرناه ، ولهذا تجد من يتفاصح (1) في كثير من أجناس النظم إذا طلب نظم القرءان ، سقط
__________
(1) يعني: يدعي الفصاحة ويحاولها .

دون غرضه ، وهبط دون مرتقاه ، وليس ذلك إلا أنه يفقد العلم الذي معه يصح إيقاع الفصاحة في هذا النظم المخصوص .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إذا كان هذا النظم لم يكن عُرِفَ قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فما أنكرتم أن يكون معجزا على الانفراد ، لأنه بالاتيان به يكون ناقضا للعادة ؟
قيل ل‍ه: ليس معنى قولنا في المعجز: إنه ناقض للعادة ، أنه أتى به من غير أن كان مثله قبل ذلك الوقت ، لأن السبق إلى الشيء لا يوجب كونه معجزا . ألا ترى أن كثيرا من الصناعات قد ابتدئت ، ووقع السبق إليها من أقوام ، ولا يصح ادعاء المعجز في شيء [منها] .
وإنما نريد بقولنا: إنه ناقض للعادة ، أن مثله يتعذر على جميع البشر . والعادة المنقوضة استمرار الحال في تعذره على ما قلنا .
فأما قول من يقول: إن الاعجاز في الصرف في جملة القرءان ، فهو عندي بعيد جدا ، لأن الصرف عن الشيء يمكن أن يُدَّعا ، إذا عُلِمَ أنه مقدور عليه ، غير متعذر وجود مثله ، ممن ادعا أنه مصروف عنه .
وليس هاهنا ما يبين أن الاتيان بمثل القرءان كان ممكنا للعرب غير متعذر عليهم ، بل قد ذهبنا على خلاف ذلك ، فبان سقوط من ادعاه .
وأيضا القول بذلك يؤدي إلى أن يُعرف الفرق بين ما يتعذر على الناس ، وبين ما لا يتعذر ، لأنه لو جاز لهم أن يقولوا: إن العرب صُرِفوا عن الاتيان بمثل القرءان ، وإن لم يثبت تَأَتِيِّه منهم ، لجاز أن

يقال: إن الناس صُرِفوا عن فعل الأجسام والألوان والحياة والقدرة ، وإن لم يثبت أن شيئا منه متأَتٍّ منهم ، وهذا واضح السقوط . وكذلك القول في الصرف عن القرآن .
وأما سؤالُ مَن يسأل من أهل هذه المقالة ، فيقول: إذا كان الانسان قادراً على أن يقول: { الْحَمْدُ للّهِ } [الفاتحة: 2] ويتأتى منه أن يقول: { رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } [الفاتحة] ، وغير متعذر عليه أن يأتي على جميع القرءان ، فما الذي يمنعه عن الاتيان بمثله ؟! ومتى يحصل التعذر ، أعند أول كلمة ، أو عند الثانية ، أو الثالثة ، أو ما بعدها ؟! وذلك مما لا يصح ، فثبت أن الاعجاز هو الصرف . فإنه من ركيك السؤال ، لأنا قد بيَّنا فيما تقدم أن إنشاء الخطبة ، أو الشعر ، أو الرسالة ، أو نظم القرءان ، في أعلى طبقات الفصاحة ، يحتاج إلى علم زائد على العلم بالنظم والفصاحة ، وذلك العلم الزائد هو الذي يعبر عنه بالطبع ، فلا وجه لهذا السؤال .
على أنا نوضح سقوطه ، بأن نقول لهذا السائل: أليس قد علمت أن كل أحد ممن يعرف لغة العرب يمكنه أن يقول: (( فإنك )) ، ويمكنه أن يقول: (( كالليل )) ، ويمكنه أن يقول: (( الذي )) ، ولا يتعذر عليه أن يقول: (( هو مدركي )) ، ويتأتى منه أن يقول: (( وإن خلت )) ، ويتأتى منه أن يقول: (( أن المنتأى )) ، ولا يتعذر عليه أن يقول: (( عنك واسع )) .

أفترى أن كل من يعرف لغة العرب ، يمكنه أن يأتي بمثل قول النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك أوسع (1)

فيقال ل‍ه: متى يحصل المتعذر عليه عند أول لفظة ، أو عند الثانية ، أو عند الثالثة ، أو بعدها ؟! ثم يلزم ذلك في جميع أشعار العرب وخطبهم ، وهذا فساد أظهر من أن يحتاج إلى الاطناب ، ولا بد لهذا السائل من الرجوع إلى ما تقدم من جوابنا .
ولهذا قالوا: إن الشاعر المفلق: هو الذي ترمي (2) قريحته بالبيت بعد البيت .
والمتوسط: من يأتي بالمصراع بعد المصراع .
والمتكلف: من يأتي بالكلمة بعد الكلمة ، حتى يؤلفها شعرا .
وليس الفاصل بين الشاعر الأول والثاني أو الثالث إلا العلوم التي أشرنا إليها ، المعبَّر عنها بالطبع ، وهكذا أحوال الخطباء والمترسلين ، منهم (3) من يستجيب طبعه إلى أن يأتي بالفصول بعد الفصول ، والأسجاع بعد الأسجاع ، يكاد يتسلسل عليه ماء العذوبة ، ويبعد عن التكلف والتعسف ، ومنهم من يؤلف الكلمة إلى الكلمة ، والسجع إلى
__________
(1) البيت للنابغة الذبياني ، انظر ديوانه.
(2) في المخطوط: يرمي . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: عنهم منهم . والصواب ما أثبت .

السجع ، متعمدا أن تنادي على نفسها بأنها متكلفة متعسفة ، وليس الفاصل بينهم إلا الطبع .
وعلى أن الاعجاز لو كان من جهة الصرف ، لكان الصرف هو المعجز ، ولم يكن القرءان معجزا . وهذا خلاف ما يُعلم من دين المسلمين ، لأن المسلمين مجمعون على أن الله عز وجل جعل القرءان معجزا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم .
ويدل على ما قلناه أيضا ، من كون القرءان معجزا في نفسه ، ما حكى الله عز وجل حيث يقول: { ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) } [المدثر] .
وما ذكر من اجتماع أبي جهل ، وعتبة بن ربيعة ، في ملأ من قريش يتعجبون من القرءان حين قالوا: نحتاج إلى رجل يعرف الشعر ، ويعرف كلام الكهنة .
فقال عتبة: أنا لذلك ، ومضى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتلا عليه قول الله عز وجل: { حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) } [فصلت] ، حتى مر في السورة وانتهى إلى قوله: { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) } [فصلت] ، فقام مرعوبا مدهوشا .
وقال: سمعت الشعر ، وسمعت كلام الكهنة ، وما هذا شيئا من ذلك )) (1) ، وإلى سائر ما ذكر من غيرهم في أمر القرءان ، فلو كان
__________
(1) سيرة ابن هشام1/314 .

القرءان أمرا لا يتعذر مثله على العرب وإنما صرفوا ، كان لا يتعجب منه المتعجب ، ولا يحار فيه الحائر ، وإنما كان يكون التعجب والحيرة في صرفهم .
ألا ترى أن نبياً لو قال: معجزتي أن أكلمكم اليوم إلى المساء بما تكرهون ، فلا يمكن أحد (1) منكم أن يجيبني ، لأنكم تصرفون عنه ، كان الاعجاز في صرفهم هو الذي يكون أعجوبة .
وقد يحار من يحار دون مخاطبته المعهودة لهم ، كذلك يجب أن يكون حال القرءان والصرف على أوضاعهم لو كانت صحيحة ، وفي جري الأحوال على خلاف ذلك دلالة على فساد قولهم .
فأما السور القصار ، فليس يبعد عندي أن يقال: إنهم صرفوا عن الاتيان بمثلها ، إذ ليس يظهر لنا في نظمها وفصاحتها ما يمكن أن نقول: إن الاعجاز تعلَّق (2) فيه ، وهذا فيه نظر . والله أسأل حسن التوفيق .
ونحن نبين الآن فصاحة القرءان وشرف موقعه ، ومصادفة نظمه أعلى (3) طبقات الفصاحة ، إذ به يتم ما اعتمدناه وبنينا كلامنا عليه . والله الموفق والمعين .
هذا ولست أطمع في أن أذكر جميع مزاياه وعجائبه ، وما اختُص به من دقائق المعاني ، وعلو رتبته في الفصاحة ، ومباينته عامة كلام
__________
(1) في المخطوط: أحدا . والصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: يعلق . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: على . ولعل الصواب ما أثبت .

العرب ، مما يوجب شرفه ، ويدل على بلوغه ذروة البلاغة ، وغارب (1) الفصاحة ، التي أذكر [منها] يسيرا من كثير ، وغيضا من فيض ، على ما يحضرني في الحال ، منبها به على ما سواه ، مستعينا بالله عز وجل ، ومستمدا من فضله ، وراغبا إليه عز وجل أن يكتبه في صحفنا ، إذا الصحف نشرت ، وإذا السماء كشطت ، ويُبِيِّض وجوهنا يوم تبيض وجوه ، وتسود وجوه . حسبي الله وكفى .
- - -
__________
(1) الغارب: من الدابة ما بين السنام إلى العنق ، منه: حبلك على غاربك .

الكلام في بيان أن القرءان في أعلى طبقات الفصاحة
اعلم أن هذا لا يتم إلا بأن نبين جُملا من أقسام الفصاحة ، ثم نبين أن نظم القرءان مشتمل عليها ، ونبين مزايا القرءان فيها ، ونُلحق بذلك ما يكشف عن غرضنا في هذا الباب كشفاً يوضحه ، ولا يبقى معه لمرتادِ الحق شبهة ، بعون الله عز وجل ، وحسن توفيقه .
اعلم أن أصل الفصاحة هو الإبانة عن المعنى المقصود بحسن البيان . وهذا معنى ما حكى الله عز وجل عن موسى صلى الله عليه: { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا } [القصص: 34] ، أي: أحسن بيانا .
فمن أقسام الفصاحة أن يكون الكلام مركبا من اللغات الفاشية في العرب ، التي لم يسترذلها أحد منهم ، نحو (( عنعنة تميم )) ، و (( كشكشة ربيعة )) ، وذلك أن قوما من تميم تجعل الهمزة المفتوحة عينا ، وأنشد الخليل فيه:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وجيها موشك عن يصدع الكبدا (1)

أراد: أن يصدع .
وقوم من ربيعة يقولون للمرأة: عليش ، وإليش ، وبش . يريدون: عليكِ ، وإليكِ ، وبكِ . فيجعلون الكاف شينا ، وينشدون:
فعيناش عيناها وجيدش جيدها ... سوى أن عظم الساق منش دقيق (2)
__________
(1) لم أقف عليه .
(2) يريد: ... فعيناك عيناها وجيدك جيدها
1@سوى أن عظم الساق منك دقيق

والبيت لم أقف عليه .

قال الخليل: مَن ترك عنعنة تميم ، وكشكشة ربيعة ، فهو من الفصحاء (1) .
ومن ذلك ما حكي عن قوم من العرب أنهم يكسرون النون ، التي تدخل على الفعل المستقبل فيقول: نِذهب (2) ، ونِخرج .
ومن ذلك جر الاسم لمجاورة المجرور ، وإن لم يكن ذلك حقه ، كقولهم: جحرُ ضبٍ خربٍ ـ ولذلك ذهب نُحاة البصرة إلى أنه لا يجوز أن يتأول قول الله عز وجل: { وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [المائدة: 6] ، إذا قُرئ بجر اللام ، فيقال: إن ذلك لمجاورة المجرور .
فأصل الفصاحة أن يَسْلم الكلام من ذلك وأشباهه ، وقد سَلِمَ كل القرءان من أوله إلى آخره . فهذا باب من الفصاحة .
ولهذا قرأ أبو عمر: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } [مريم: 63] (3) ، ولم يتأوله على لغة من يجعل المنصوب للألف ، فيقول: (( خذ رجلاها (4) واخلع نعلاها )) .
ومثل ذلك:
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها (5)
__________
(1) في المخطوط: فهم الفصحاء . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: ونذهب . والصواب ما أثبت .
(3) لفظ الآية هكذا: { قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ . . . } .
(4) في المخطوط: خدر جلاها . ولعلها مصحفة ، والصواب ما أثبت .
(5) البيت لابن الوردي . وقبله بيت واحد فقط . ... زوجة مجد الدين والدها
1@في أخذ عرض المجد أشبهاها

انظر ديوانه .

وممن (1) قرأ بالألف من حمله على أنَّ (( أَنْ )) بمعنى (( نعم )) ، وكره تأويله على الوجه الأول لما قلناه .
ومن أقسام الفصاحة: أن يكون الكلام مؤلفا من لغات ترتفع عن المبتذل السوقي ، وتنحط عن المستفل الحُوشي (2) . ولهذا نجد أشعار الفصحاء المجيدين ، نحو امرئ القيس ، والنابغة ، وزهير ، والأعشى ، جارية على هذه الطريقة ، لا يكاد يوجد فيها الحوشي المستفل ، إلا أن تتفق ندرا ، وإنما يكثر ذلك في كلام الأجلاف من العرب والمتكلفين ، نحو الشماخ ، ورؤبة ، ومن نحَّا نحوهما .
فأما السوقي (3) المبتذل ، فَقَلَّ ما يتفق في كلام أهل البادية ، وإنما يكثر ذلك في كلام الموَلَّدين (4) وأشعارهم ، والقرءان من أوله إلى آخره مؤلف من النمط المختار في هذا الباب .
فهذان القسمان من الفصاحة قد استمرا في جميع القرءان بحمد الله ومنِّه .
__________
(1) في المخطوط: وفيمن . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) المستفل: الهابط ، والحوشي: الغامض من الكلام .
(3) السوقي: نسبة إلى السُّوقة ، وهي الرعية ، سميت بذلك لأن الملوك تسوقها فتنساق .
(4) المولدون: المولودون بين العرب وليسوا بعرب .

19 / 32
ع
En
A+
A-