الكلام في بيان ماله كان معجزاً
اعلم أن ما فيه من الإخبار عن الغيوب لا إشكال في كونه معجزا ، لأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عن علام الغيوب ، وسنفرد لذلك كلاما بعون الله .
وأما ماله كان معجزا من غير هذا الوجه ، فقد اختلف فيه على ما نبينه .
وهذا الاختلاف لا يقدح في الدليلين اللذين قدمنا ذكرهما ، لأن واحدا منهما لم يُبْنَ على وجه مخصوص مما اختلف فيه .
وإنما بنينا الدليل الثالث فقط على وجه مخصوص مما اختلف فيه ، لأنه مبني على أنه صار معجزا للنظم المخصوص ، واقعا في أعلى طبقات الفصاحة ، على ما مضى القول فيه ، فأي وجه من الوجوه التي اختلف فيها صح ، لم يقدح فيما قدمناه من الدليلين .
وذلك أنهما مبنيان على أنه قد تعذر على العرب الاتيان بمثله ، على وجه انتقضت به العادة ، فلأي وجه كان التعذر لم يؤثر ذلك في كونه معجزا .
ألا ترى أن نبياً من الأنبياء لو أتى بما يتعذر الاتيان بمثله على جميع البشر علمنا أنه معجز ، وإن شككنا أنه تعذر لجنسه أو صفته ، أو لأية صفة كانت من صفاته ، أو لأن الخلق أجمع صرفوا عنه ، على أي وجه حصل الصرف ، لأن الذي يتم به كونه معجزا ، هو حصول التعذر على وجه تنتقض به العادة ، فكذلك ما قلناه في وجوه إعجاز القرءان .

فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إذا كان كل واحد منكم يطعن في الوجه الذي يعتمده صاحبه في بيان الوجه الذي كان ل‍ه القرءان معجزا ، ويبين فساده ، فليس يثبت شيء من تلك الوجوه ، وإذا بطلت تلك الوجوه أجمع لم يصح كونه معجزا ، لأنه لا يكون معجزا إلا لوجه يخصه .
قيل ل‍ه: الصحيح لا يفسد لطعن من يطعن فيه ، أو يحاول إفساده ، فإذا ثبت ذلك ، لم يجب فساد تلك الوجوه أجمع ، ولم يمنع أن يكون في جملتها وجه صحيح لا يؤثر فيه طعنُ مَن يطعن .
وإذا ثبت ذلك صح ما ادعيناه ، من كونه معجزا على ما بيناه . وإن اختلف في الوجه الذي ل‍ه كان معجزا .
ونعود إلى ذكر الوجوه التي ادعا أن إعجاز القرءان يتعلق بها ، ونبين ما نعتمده منها .
اعلم أن من الناس من ذهب إلى أن القرءان لم يتعذر الاتيان بمثله ، لشيء من أوصافه . وإنما الاعجاز هوالصرف .
ومنهم من قال: إن الاعجاز هو الفصاحة المجردة ، وإنها قد بلغت الحد الذي يتعذر الاتيان بمثلها على جميع البشر ، وهذا قول الأكثرين من المتكلمين .
ومنهم من ذهب إلى أن الاعجاز: إنما هو في النظم المخصوص الذي تميز (1) به القرءان عما سواه .
__________
(1) في المخطوط: يميز . ولعل الصواب ما أثبت .

ومنهم من ذهب إلى أن الاعجاز فيهما جميعا - أعني النظم مع الفصاحة البالغة أعلى طبقات الفصاحة - وهذا هو الذي يصح عندي ، ويتضح لدي .
على أن من قال بالصرف لابد ل‍ه من الرجوع إلى بعض هذه الوجوه ، لأن الصرف عنده لم يقع عن جميع الكلام ، وإنما وقع عن كلام ل‍ه صفة مخصوصة ، وتلك الصفة لا بد من أن تكون هي الأسلوب ، أو الفصاحة ، أو هما جميعا . والكلام في الصرف يأتي بعد هذا الموضع .
والذي يبين صحة ما اخترناه وادعينا صحته ، أنه لا يخلو:
من أن يكون الاعجاز فيه تعلَّق بالأسلوب المجرد .
أو الفصاحة المجردة .
أو بهما جميعا ، ولا يصح ادعاء من يدعي تعلُّقه بالنظم ، أي الأسلوب فقط ، لأنا نعلم ضرورة أن تميز نظم القرءان عن سائر أساليب الكلام المنثور كأسلوب الخطب ، وأسلوب الرسائل ، وأسلوب كلام الكهنة وأسجاعهم ، وأسلوب المحاورات ، ليس أكثر من تميز بعض الأساليب عن بعض .
وقد علمنا أن من تَقَدَّم (1) في بعض هذه الأساليب حتى بلغ فيها الغاية ، لا يجوز أن يتعذر عليه الأسلوب الآخر ، حتى لا يمكنه أن يأتي
__________
(1) في المخطوط: يقدم . ولعل الصواب ما أثبت .

بشيء منه ، وإن لم يمكنه التصرف فيه وبلوغ الغاية ، كما أمكنه في النظم الآخر .
يبين ذلك أن الخطيب المصقع ، وإن تعذر عليه إنشاء الرسائل على الغاية التي يطلب لها ، فليس يتعذر عليه جملة ، بل لا بد من أن يتمكن من إنشائها في الطبقة الدنيا أو الوسطى ، وكذلك من تقدم في صناعة الرسائل ، هذا حكمه (1) في الخطب ، وكذلك المقدَّم في المحاورات ، المتناهي فيها .
فإذا ثبت ما بيناه ، ووضح أن من تقدَّم وبرع في بعض هذه الأساليب حتى فاق نظراءه ، وقرع أكفاءه ، لا يتعذر عليه الاتيان بأسلوب القرءان في الطبقة الدنيا ، فصح بما بيناه أنه لا يمكن أن يقال: إن الاعجاز تعلَّق بمجرد النظم .
ولا يمكن أن يقال: تَعلَّق بمجرد الفصاحة ، لأن ذلك لا يتم إلا بأن تعلم أن القرءان قد بلغ في الفصاحة مبلغا ، تجاوزت (2) الحد الذي يتمكن منها البشر تجاوزا انتقضت به العادة ، ولا يمكن ادعاء هذا العلم ، لأنه لا يخلو من أن يكون ضرورة أو مكتسبا ، ولا يجوز أن يكون ضروريا ، لأن ذلك لو كان كذلك لاشترك فيه جميع من ل‍ه قَدَم في اللغة ، وحظ من العلم بمواقع كلام العرب ، والأمر بخلاف ذلك ، لأن
__________
(1) في المخطوط: هذه حكمة . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: وتجاوزت . ولعل الصواب ما أثبت .

مثل ذلك في التمييز فيه ، وفي غيره من الكلام ، وفي سائر الصناعات ، يجب أن يكون طريقه الضرورة .
فإذا ثبت بما بيناه أن ادعاء التعذر في كل واحد من الأمرين لا يمكن ولا يصح ، ثبت أن الاعجاز تعلق بمجموعها ، لأنا قد علمنا تعذر الاتيان بمثله على العرب ، بما أثبتناه وأوضحناه في كتابنا هذا ، والصفتان جرتا مجرى واحدا - أعني النظم والفصاحة - في المَيل إلى التعذر ، فوجب القول: بأنه تعذر الاتيان بمثل القرءان في الصفتين جميعا ، فصح ما ذهبنا إليه .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إنَّا وإن لم نعلم الآن ضرورة أن القرءان قد بَايَنَ سائر كلام العرب في الفصاحة مباينة انتقضت بها العادة ، فإنا نجوِّز أن يكون العرب الذين كانت المعرفة ل‍هم بذلك جِبِلَّة وطبيعة ، عرفوا ذلك ضرورة .
قيل ل‍ه: تجويز ذلك لا يؤيد صحة ما ادعيتموه ، لأن الذي بني عليه الدليل ، لا يغني فيه التجويز ، وإنما يجب أن تثبت فيه الصحة على القطع ، حتى يصح الدليل الذي بني عليه ، وأنتم لم تثبتوا صحته ، ولا يستقيم سؤالكم .
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون مَن تأمل قول الله عز وجل: { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) } [هود] ، وقوله سبحانه: { وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)

وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) } [النجم] ، وقوله عز وجل: { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) وَمَاء مَّسْكُوبٍ (31) } [الواقعة] . عرف ما ادعيناه ، من أن فصاحة القرءان وقعت على وجه انتقضت به العادة ؟!
قيل ل‍ه: نحن لا ننكر أن ألفاظ هذه الآيات جزلة واقعة في أعلى طبقات الفصاحة من جهة الجزالة ، إلا أن بين أن يكون الكلام كذلك ، وبين أن تنتهي فصاحته إلى حيث تنتقض العادة بَونٌ (1) ، وهذه الآيات لا يكاد يذكرها إلا المتكلم الذي لا يتصور من أقسام الفصاحة إلا جزالة اللفظ .
وذلك لعمري قسم منها عظيم الموقع ، وإن كانت أقسام الفصاحة كثيرة متنوعة ، على ما نذكرها ونبينها بعد الفراغ من هذا الفصل ، وإنما صار هذا القسم يشترك في العلم به من خفَّتْ بضاعته في معرفة كلام العرب أو توفرت ، لأن لها حلاوة تُدرك من جهة السمع ، كما أن للألوان المخصوصة كالصفرة والخضرة ونحوهما حلاوة تدرك من جهة البصر ، وكذلك ما يختص سائر الحواس ، وليس كذلك سائر أقسام الصناعات ، لأن العلم بها مفتقر إلى العلم بطرائق العرب في منظوم كلامهم ومنثوره ، وجهات تصرفهم فيها ، وكثير من أحوال لغاتهم وعاداتهم في إيرادها .
__________
(1) البون: الفرق .

وهذه أبواب لا يستقل بمعرفتها مَن لم يكن مطبوعا عليها ، إلا أن ينال منها حظا جزيلا ، و قسما وافرا .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تحدى بالقرءان ، وعلمنا ذلك من حاله ، ولم يثبت أن النظم كان مقصودا بالتحدي ، وإذا لم يثبت ذلك ، ثبت أنه لا بد من وجه يكون هو المقصود بالتحدي ، ثبت أن ذلك الوجه هو الفصاحة فقط ، فبطل قول من يقول: إن النظم مقصود بالتحدي ؟!
قيل ل‍ه: لا فصل بينكم وبين من قال: لم يثبت أن الفصاحة مقصودة بالتحدي ، وإذا لم يثبت ذلك ، فكان لا بد من وجه يكون هو المقصود بالتحدي ، وعليه ثبت أن ذلك الوجه هو النظم فقط ، وذلك أن القرءان ل‍ه هذا النظم المخصوص والفصاحة المخصوصة ، وقد وقع التحدي به ، وثبت عجز البشر عن الاتيان بمثله ، فلم يكن ادعاء تعلُّق العجز بأحد الأمرين أولى من ادعاء تعلقه بالآخر ، فيجب أن يقال: إنه متعلق بهما ، أو يقال: إنه لا يتعلق بواحد منهما ، ولا يصح القول بأنه لا يتعلق بواحد منهما ، لأنه لا بد من وجه به يتعلق الاعجاز ، ويكون هو المقصود بالتحدي ، فإذا ثبت ذلك ، فيجب تعلق الاعجاز بالأمرين ، وأن يكونا جميعا مقصودين بالتحدي على ما ذهبنا إليه .
على أنَّا قد عرفنا من حال كل من ادعا أنه يعارض القرءان ، أو يأتي بما يقاربه ، نحو مسيلمة ، وطليحة ، وابن المقفع ، على اختلاف

أحوالهم ، طلب الأسلوب والفصاحة معا ، ولم يكن فيهم من كان يأتي بشعر أو خطبة فيدعي أنه قد أتى بما يقاربه ، فدل ذلك على أنهم أجمعون عرفوا أن المقصود بالتحدي هو النظم والفصاحة معا . فدل ذلك على صحة ما قلناه .
على أن قوله عز وجل: { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [البقرة: 23] ، وقوله عز وجل: { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [هود: 13] ، يدل على أن النظم مقصود بالتحدي ، لأن اسم السورة لا ينطلق على الشعر ، ولا الخطبة ، ولا الرسالة ، ولا أسجاع الكهنة ، ولا المحاضرة ، وإنما ينطلق على ما له هذا النظم المخصوص .
فإذا كان كذلك ، كان قوله: { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ } [يونس: 38] جاريا مجرى أن يقول: فأتوا بجملة لها هذا النظم المخصوص ، فبان صحة ما ادعيناه من تعلق الاعجاز بالنطم مع الفصاحة .
فإن قيل: إذا ثبت أن هذا النظم المخصوص لم تكن العرب تعرفه ، ولا جرت عادتها باستعماله ، فمن أين ادعيتم أن اسم السورة يتناوله دون سائر أجناس الكلام ؟!
قيل ل‍ه: هذا الاسم جاري مجرى الأسماء الشرعية ، لأنه لم تكن العرب تستعمله في جمل شتى من أجناس الكلام ، وإنما استُعمِلَ ذلك بعد نزول القرءان ، إلا أنه لما قال عز وجل: { بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [البقرة: 23] ، وقال: { عَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [هود: 13] ، صح أنه يجوز استعماله فيما يجانس نظمه من الكلام .

وهذه دلالة قوية يجوز أن تعتمد ابتداء ، في بيان أن النظم مقصود بالتحدي ، وإذا ثبت ذلك ، ثبت تعلق الاعجاز بالنظم على ما قلناه .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن الاعجاز تعلق بالنظم فقط ؟
قيل: قد تقدم بيان فساد قول من يقول ذلك . لأنا بيَّنا أن مثل هذا النظم لا يجوز أن يتعذر على من لا يتعذر عليه سائر أجناس النظم ، وذلك يُسقِط هذا السؤال .
ولا يصح أيضا سؤال من يسأل فيقول: إذا لم يكن النظم معجزا ، فيجب أن تكون الفصاحة هي المعجزة .
ولا سؤال من يسأل فيقول: إن الفصاحة قد انتقضت بها العادة ، فلا وجه لضم الأسلوب إليها ، لأنا قد بيَّنا أن الاعجاز بهما تعلَّق ، وأنه لا سبيل لنا إلى العلم بأن فصاحة القرءان قد بلغت إلى حد انتقضت به العادة ، وبيَّنا أن الاعجاز بهما تعلَّق - أعني النظم والفصاحة - وأن ذلك جاري مجرى العلة ذات وصفين ، في أن كل واحد من الوصفين لا يتعلق الحكم به على الانفراد .
فإن قيل: فإذا قلتم: إن النظم على الانفراد غير متعذر على البشر ، وكذلك الفصاحة على الانفراد غير متعذرة على البشر ، فكيف يصح أن تقولوا: يتعذر عليهم الجمع بينهما ؟! وهذا يؤدي إلى القول بأن الاتيان بمثل القرءان لا يتعذر على البشر !!

قيل ل‍ه: معاذ الله من ذلك !! فإن القول الذي قلناه ، لا يؤدي إلى ما ذكرتم ، على ما نبينه ونوضحه .
وذلك أن الذي من أجله أن لا يتعذر النظم هو العلم الذي يحصل به ، وهو العلم بأن كل كلمة إذا وقعت عقيب أي كلمة أعقب هذا النظم ، أو غيره من نظم أجناس الكلام ، موزونه أو منثوره ، ويتعذر ما يتعذر من ذلك ، لفقد هذا العلم ، وكذلك الذي من أجله أن لا تتعذر الفصاحة هو أن يعلم أن كل كلمة إذا وقعت عقيب أي كلمة وما جرى مجراها من تبديل حرف عن حرف ، أو كلمة عن كلمة ، خرج الكلام فصيحا .
وجملة هذا العلم هي علوم ضرورية ، وإن كانت لا تحصل إلا بالممارسة ، كالعلم بالمهن والصناعات .
ثم العلم بما إذا أتى به كان فصاحة ، في الطبقة الدنيا ، أو الوسطى ، أو العليا ، في نظم مخصوص ، علم ثالث . وهو أيضا إذا حصل حصل ضرورة .
وإذا كان هذا هكذا ، لم يمتنع أن يكون الله عز وجل لم يجمع لأحد من البشر بين هذه العلوم الثلاثة .
أحدها: هو العلم بما به يكون هذا النظم واقعا في أعلى طبقات الفصاحة . وإذا لم يمتنع ذلك ، لم يمتنع أن يتعذر على جميع البشر الاتيان بمثل القرءان ، لفقد أحد العلوم الثلاثة ، وإن حصل العلمان .

18 / 32
ع
En
A+
A-