لوضوح الأمر في بلوغه الغاية ، ولحوقه درجة النهاية . فكان وقوعه على غاية الاحكام والاتقان ، أوضح من سائر ما ذكرناه ، لأن عامة ذلك قد زيدت عليه زيادات على مقدار احتمال الصنعة ، والقرءان ارتفع عن ذلك ارتفاعا حسم المطامع عن ابتغاء المماثلة ، فكيف ابتغاء الزيادة ؟! فصح بذلك ما ادعيناه ، ووضح ما ذكرناه .
على أنه لو ثبت أن وراء غاية القرءان غاية يترتب وقوعها مزيدا يُطلب ، لم يقدح ذلك في استدلالنا هذا ، لأنا قد علمنا أنه لما حصل ووقع ، لم يكن وقوعه على أدنى مراتب الكلام وأضعف وجوهه ، بل كان متجاوزا لذلك شأوا بعيدا ، وأمدا مديدا .
وهذا القدر كافٍ في وقوعه على وجه انتقضت به العادة .
على أنا نقول لهذا السائل: إن كنت تعرف شيئا من الأشياء بلغ الغاية في مجرى العادة ، فَأَبِن عنه لنوضِّح بمثله أن ما ادعيناه في حال القرءان أوضح من ذلك ، ولسنا نريد بالغايات التي ذكرناها في هذه المواضع أجمع الغاية التي لا تكون في المقدور أو المعلوم ما يزيد عليها . وإنما نريد ما يسمى غاية ، ويُعد نهاية في مثله من طريق العادة ، فليكن ذلك مقصورا عند الناظر في كلامنا هذا . فإن المدار عليه ، والغرض ينتهي إليه .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن ما ادعيتموه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتداء الاتيان به لا يصح ، لأن الفصاحة لم يكن هو صلى الله عليه وآله وسلم ابتدأها ، بل كانت متقادمة العهد ،
متداولة [بين] العرب ، قد استمرت عليها الأعصار ، وتصرفت فيها الأفكار ؟
قيل له: لسنا نزعم أن الذي اختص به القرءان هو الفصاحة فقط ، حتى يلزمنا ما ذكرتموه ، وإنما نقول: إن الذي اختص به هو هذا النظم المخصوص ، والأسلوب المتميز ، واقعا في أعلى طبقات الفصاحة . وإذا كان هذا هكذا ، ولم يعرف للعرب قبله صلى الله عليه وآله وسلم هذا النظم المتميز عن غيره ، صح ما قلناه من أنه ابتدأ به على الغاية في معناه .
فإن قيل: إلى ماذا تشيرون بقولكم: هذا النظم المخصوص ، والأسلوب المتميز ، فإنَّا لا نعقل فيه أمرا زائدا على الكلام المعتاد ، ولم نعرف تميزا إلا بالفصاحة ؟
قيل له: نريد بذلك ما نعرفه ، ويعرفه كل متأمل كلام العرب ، لأن كلامهم أجمع لا يخلو:
من أن يكون موزونا .
أو غير موزون .
فالموزون تختلف أجناسه ، ويتميز قصيره عن رجزه ، وكل ذلك مما يعرفه أهله .
وما ليس بموزون منه ينقسم أربعة أقسام:
منها نظم الخطب وطريقتها .
ومنها نظم الترسل ومنهاجه .
ومنها أسجاع الكهنة .
ومنها المحاورات التي تجري بين الناس ، ملفوظا بها ومكتوبا في منافع الدين والدنيا ومضارهما ، وما ينطوي على الجد والهزل . ووجدنا أسلوب القرءان ونظمه مفارقاً لهذه الأساليب أجمع ، لأنه ليس من نظم الخطب ، ولا الرسائل ، ولا أسجاع الكهان ، ولا المحاورات ، يعرفه كل مَن تأمَّله ، ممن ليس له أيسر حظ من المعرفة لكلام العرب .
فأما بيان أن الاعجاز تعلَّق بهذا الأسلوب المخصوص ، واقعا في أعلى طبقات الفصاحة , فسيجيء بعد الفراغ من إيضاح هذا الدليل ، إن يسَّر الله عز وجل ، وسنفرد له فصلا ، فإنه باب عظيم لا يستغنى عنه .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدار القرءان في نفسه نحوا من خمسة وعشرين سنة ، من حين بلغ إلى أن بعث ، حتى رتبه ونقحه وهذبه ، ثم أظهره على ما هو عليه من الغاية؟
قيل له: ذلك مما لا يصح ، لأن القرءان ليس دون الأشعار والرسائل .
وقد علمنا: أن الشعر لم يبلغ الغاية في هذا القدر من الزمان . ولا برجل واحد ، وكذلك الرسائل ، وكذلك سائر الصناعات ، وأن العادة جارية بأن كل من ابتدأ صناعة وابتكرها ، لا يتسع لبلوغ آخرها في مقدار عمره ، وأنها لا تبلغ الغاية إلا بأزمنة تتصل ، وبجماعات
يقتدي بعضهم ببعض ، ويستعين بعضهم بخواطر بعض ، ويبني الخالف على ما أسسه السالف . فوضح بذلك سقوط هذا السؤال .
فإن قيل: إن الخليل بن أحمد ابتدأ العروض فأورده على غايته ، ولم يدل ذلك عندهم على انتقاض العادة ، فما أنكرتم أن يكون القرءان مثل ذلك ؟!
قيل له: إن العروض هو ضرب من تقطيع الأصوات وترتيبه ، وقد سبقه بذلك صاحب المسيقى (1) ، وبلغ الغاية فيه .
وقد سمعنا من كان يعرف اللغة السريانية يذكر أن للأشعار المعمولة على ذلك اللسان عروضا قد عملت (2) ، ويجوز أن يكون الخليل بنى على تلك الطريقة ، ولا يكون له إلا بتتبع أشعار العرب ، وعدِّ أجناسها ، وردها إلى الوزن ، مقتفيا به ما ذكرناه .
ثم قد سقط عنه أوزان وأضرُبٌ ، منها الوزن المسمى: ركض الخيل (3) ، وقد جاء عليه الشعر المنسوب إلى عمر الجني ، وهو:
أشجاك تشتيت شعب الجن ... فأنت له أرق وصب (4)
وهي قصيدة طويلة .
وفي المحدثين من عمل على ذلك ، فقال قصيدة طويلة أولها:
__________
(1) يعني: صاحب الموسيقى .
(2) في المخطوط: عمل . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: الخليل . والصواب ما أثبت . كما في كتاب البرهان الرائق ، والذي نقل هذا النص من هذا الكتاب .
(4) لم أقف عليه.
أنسيت أفعالهم السمحا ... فأراك تذكرهم لهجا (1)
وسقط عنه أيضا ضربٌ من الوزن المسمى بالمنشرح (2) ، وهو أن يقع في القافية (( مفعولات )) بدل (( مفتعلن )) ، وقد جاء على ذلك أشعار كثيرة ، وتَتَبُّعُ هذا مما يخرجنا عن غرض كتابنا هذا ، وفيما أشرنا إليه كفاية .
فبان بما ذكرناه أنه لا يصح أن يقال: إن الخليل أورد ذلك ابتداء على الغاية ، كما أورد النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرءان مبتدئا به ، ومبتكراً له على الغاية في معناه ، فسقطت المعارضة .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: يجوز أن تكون أكثر هذه الصناعات لم تبلغ الغاية برجل واحد ، لأن العناية بها لم تتم ، والدواعي
__________
(1) لم أقف عليه .
(2) بحر المنسرح - بالسين ، والمؤلف كتبه بالشين - إما أن يكون تاما ، وإما أن يكون منهوكاً ، فالمنسرح التام: عروضه صحيحه ، وضربه: إما مطوي ، وإما مقطوع . مثل:
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
مستفعلن ـ مفعولات ـ مستفعلن . . . إلخ . والضرب جاء على: مستعلن ، حذف رابعه الساكن حذفاً لازما ، فهو مطوي .
لو كنت يوم الوداع شاهدنا ... وهن يضرمن لوعد الوجد
والضرب - وهو الشطر الثاني - جاء على: مستفعل ، فهو متطوع .
والمنسرح المنهوك: عروضه وضربه يكونان موقوفين ، أو مكسوفين . مثل:
1- ... صبرا بني عبد الدار .
مستفعلن ـ مفعولات .
2- ... وسؤددا ومجدا .
مستفعلن ـ مفعولات .
إليها لم تَقْوَ ، والبواعث عليها لم تتوفر . وإذا كان كذلك ، جاز أن تكون دواعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى إيراد القرءان على هذه الصفة توفرت ، وبواعثه عليه قويت ، فأتى به ، وإن لم يتفق لأحد قبله ما جرى هذا المجرى ، ومتى جوزتم ذلك بطل ما اعتمدتموه من أنه وقع على وجه انتقضت به العادة ؟
قيل له: هذا الذي ذكرتموه مما لا نجيزه ، لأن تجويز مثله يؤدي إلى أن يلتبس ما هو متعذر ، بما لا يتعذر ، وإلى أن لا يكون بينهما فرق ، وقد ثبت الفرق بينهما . فوجب بطلان هذا السؤال .
ألا ترى أن ذلك لو جاز لجاز لقائل أن يقول: جَوِّزوا أن يكون واحد من الأطباء لم تقو عنايته ، ولم تتوفر بواعثه ، حتى يبلغ إلى حيث يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، وأنه لا يستحيل أن يبلغ بعض الأطباء بعنايته ، ووفور دواعيه ، وقوة بواعثه .
ولجاز للآخر أن يقول: جَوِّزوا أن يكون واحد (1) من السحرة المشعبذين لم تبلغ به قوة دواعيه وبواعثه إلى أن يبلغ مبلغا ، ثم إن قلب العصا حية ضربٌ من الحِيَل ، وأنه من الجائز المتوهَّم أن يبلغه بعض السحرة والمشعبذين ، وكذلك يجوز ذلك في سائر الصناعات ، فلما علمنا بطلان قول من يجيز ذلك ويشك فيه ، وجب بطلان ما سأل عنه السائل في هذا الباب .
__________
(1) في المخطوط: أحدا . والصواب ما أثبت .
فإن قيل: الفرق بين ما ذكرتم وبين ما سألنا عنه ظاهر ، لأن الذي ذكرتموه ليس جنسه في مقدور العباد ، وما سألنا عنه جنسه في مقدور العباد .
قيل له: عن هذا جوابان:
أحدهما: أنَّا عرفنا الفرق بين ما يكون جنسه في مقدور العباد ، وبين ما لا يكون جنسه في مقدورهم . بأن عرَّفنا ما قلناه: أن جنسه ليس في مقدور العباد على (1) كل وجه ، وسؤالكم هذا يؤدي إلى أن لا يصح لنا العلم بالفرق بين ما يتعذر علينا وبين ما لا يتعذر . وذلك يؤدي إلى أن يفسد علينا الطريق الذي به نعرف الفرق بين ما يكون جنسه في مقدور العباد وما لا يكون . وكل سؤال يؤدي إلى إفساد ما لا يتم ذلك السؤال إلا به ، يجب أن يكون فاسدا .
والجواب الثاني: أنه لا فرق في هذا الباب بين ما يكون جنسه في مقدور العباد ، وبين ما لا يكون جنسه في مقدورهم .
ألا ترى أنَّا كما لا نجوِّز (2) أن يبلغ الانسان بقوة دواعيه ، ووفور بواعثه ، وشدة عنايته ، إلى أن يحتال حتى يطير كالنسر أو العقاب ، وإن كان الطيران جنسه في مقدورنا ، لأن ذلك ليس أكثر من أكوان واقعة على وجوه مخصوصة ، وكذلك لا يجوز أن يحصل الانسان بشيء
__________
(1) في المخطوط: العباد علينا على . ولعل الصوابم ا أثبت .
(2) في المخطوط: يجوز . ولعل الصواب ما أثبت .
من ذلك إلى أن ينقل بعض الجبال الراسيات عن مواضعها ، وإن كان جنسه في مقدونا ، ونظائره أكثر من أن تحصى .
فبان أن القول بما يؤدي إلى أن يلتبس ما يتعذر بما لا يتعذر ، مما لا يصح ويجب بطلانه . وسواء قيل ذلك فيما يكون جنسه تحت مقدورنا أو لم يكن .
على أن الذي قالوه لو كان صحيحا ، لأدى إلى أن لا تقع الثقة بشيء من المعجزات ، وما جرى هذا المجرى من الشبه التي لا يمكن حلها ، يجب على القديم عز وجل المنع منه ، على ما سلف القول فيه . فكان يجب عليه عز وجل أن لا يقع إيراد مثله ابتداء الغاية,أو يمنع أن يأتي به المتخرص على وجه ينقض العادة .
فإن قيل: هذا الذي بنيتم استدلالكم عليه فاسد ، لأنه يؤدي إلى أن السبق إلى الشيء يوجب كونه معجزا ، وقد علمنا فساده ، لأن أمورا كثيرة تتجاوز الاحصاء والعد ، قد وقع إليها السبق ، كالصناعات والمهن وما جرى مجراها ، وكثير من العلوم ، وليس يكون شيء من ذلك معجزا .
قيل له: مَن تَأمَّلَ كلامنا لم يسأل هذا السؤال ، لأنا لم نقل: إن الابتداء بالقرءان فقط يدل على أنه معجز ، وإنما قلنا: إنه وقع على وجه انتقضت به العادة ، لأن العادة جارية بأن الأمر المبتدأ به لا يجوز وقوعه على الغاية في الباب المقصود إليه ، وأوضحنا ذلك وكشفنا عن صحة ما قلناه .
ثم قلنا: وقد وقع القرءان ابتداء على الغاية في المعنى المقصود إليه ، فوجب أن يكون وقوعه على وجه يوجب نقض العادة ، وذلك يوجب كونه معجزا . وليس هذا من السبق المجرد إلى الأمر في شيء ، بل هو جارٍ مجرى من لا يحفظ اليوم شيئا من القرءان ، ثم يجده في اليوم الثاني حافظا له وللقراءات ولوجوه القراءات ، في أنه يجب أن يكون معجزا ، لأن حفظه وقع على وجه انتقضت به العادة .
ولا يلزم على ذلك القول بأن مجرد الحفظ للقرآن وللقراءات ووجوهها معجز ، وكذلك القول في سائر الحروف والصناعات وأصناف العلوم . فوضح سقوط هذا السؤال عما اعتمدناه في هذا الباب .
فإن قيل: دليلكم هذا يقضي جواز وقوع الاتيان بمثل القرءان على مر الأعصار ، وامتداد الأزمان ، لأنكم إنما قلتم: إن مثله لا يجوز الابتداء به . والدليلان المتقدمان يقضي كل واحد منهما أن الاتيان بمثله لا يصح ، وعلى هذا إن صح واحد من الدليلين المتقدمين ، فيجب فساد هذا الدليل ، وإن صح هذا الدليل ، وجب فساد الدليلين المتقدمين ، فيجب فساد هذا . وأنتم قد اعتمدتم الأدلة الثلاثة وصححتموها ، وذلك متعذر .
قيل له: هذا غلظ ظاهر ، وقلة تأمل لتراتيب أدلتنا ، لأن الدليلين يوجبان أن الاتيان بمثل القرءان لا يصح ولا يجوز ، وإن كان قد حكي
عن قوم أنهم ذهبوا إلى أن التحدي وقع خاصا في ذلك العصر ، وأنه إن أُتي بمثل القرءان بعد ذلك ، لم يقدح في كونه معجزا .
والدليل الثالث: لم يتضمن جواز الاتيان بمثله بعد ذلك ، وإن كان لم يتضمن وجوب تعذر الاتيان بمثله كما تضمنه الدليلان (1) ، فلا تناقض بينه وبين الدليلين المتقدمين ، فلم يمتنع (2) أن يشتمل جميعها على صحته كما ظنه السائل ؟!
ومثال ذلك: أن المستدل على حدوث الأجسام بأنها لم تسبق الأعراض الحادثة ، يصح له مع ذلك أن يستدل على حدوثها بأنها لم تسبق الأحوال المتجددة .
ويصح الاعتماد على الدليلين . وإن كان الدليل الأول يتضمن إثبات أعيان حادثة ، والدليل الثاني لا يتضمنه ، لأن الدليل الثاني وإن لم يتضمن إثبات أعراض حادثة ، فلم يتضمن أيضا نفيها ، ولم يمتنع أن يكون كل واحد منهما دليلا صحيحا مستقلا بنفسه .
فكذلك أدلتنا في إعجاز القرءان ، وإن كان بعضها يتضمن وجوب ما لا يتضمن وجوبه بعضها ، إذ لا يتضمن نفيه .
يوضح ذلك: أن القرءان لا يمتنع أن يكون معجزا لوجهين .
أحدهما: لا يتم إلا بأن يتعذر الاتيان بمثله على جميع البشر إلى آخر الدهر .
والوجه الثاني: يتم تعذر ذلك مع تراخي الزمان أو لم يتعذر .
- - -
__________
(1) في المخطوط: الدليلين . والصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: فلم امتنع . ولعل الصوابم ا أثبت ، ويؤكده ما في المثال التالي .