وهو مع ذلك قد ابتدأ أمره يستتب ، وحاله ينتظم ، وقد آمن به قوم بما ظهر من سائر آياته ، وصار أصحابه في الزيادة .
فإذا كانت أحواله جارية على ما مثَّلنا ، ماضية على ما وصفنا ، فمن الخطأ العظيم الفاحش ، الذي لا يقع (1) مثله من العقلاء ، أن يأتي بأمر أقل ما فيه أن يغلب على الظن إن لم يكن معلوما مقطوعا به أن يفضحه في أقرب مدة ، وأرخى (2) زمان ، ويفسد حاله ، وتبطل دعوته ، ويظهر كذبه .
فإذا ثبت ما ذكرناه ، صح وبان أن هذا القرءان لم يكن من عنده صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنما كان من عند علام الغيوب جل وتعالى ، وعلى أن هذا التحدي لم يقع منه مرة واحدة ، أو في سورة واحدة ، فينسب إلى الاتفاق والغفلة . بل كرره صلى الله عليه وآله وسلم حالا بعد حال ، وأورده في سور كثيرة ، وأمر أصحابه بتلاوته في جميع القرءان ، إلى أن اختار الله عز وجل له دار كرامته ، لم يتلوم فيه ، ولم تضعف نفسه صلى الله عليه وآله وسلم ، وما جرى هذا المجرى لا يجوز أن ينسب إلى أنه اتفق على سبيل الغلط والخطأ . وإذا لم يجز ذلك وبان فساده ، صح ما قلناه من أنه من عند الله عز وجل .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن عدد من كان يكمل لمعارضة القرءان من العرب كان محصورا ، لأن من المعلوم أن كل واحد
__________
(1) في المخطوط: لا ينفع . والصواب ما أثبت .
(2) كذا في المخطوط ، ولعلها: وأدنى .
منهم لم يكن يكمل للاتيان بالكلام الفصيح ، منظوما كان أو منثورا ، ومتى كان ذلك كذلك ، فيجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان واطأهم على أن يكفوا عن معارضته ، وأن يكون القوم جعلوه على ثقة من ذلك ، حتى وثق بما عاهدوه عليه واعتمدوه ، لما كان من تمكينه إياهم من أغراض كانت لهم ، وإطماعه لهم في رياسات تحصل لهم ، فتحداهم لذلك بانشراح صدر ، وقوة نفس .
قيل له: هذا كلام من لا يعرف أحوال العرب ، وأحوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، لأن العرب كانوا في ديار متباعدة الأطراف كتهامة ، وسائر أرض الحجاز إلى اليمن وشجر (1) وعمان ونجد والشام ، وكان الفصحاء منهم متفرقين بحسب بلدانهم ، وتنائي أوطانهم .
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ كان في حكم المنفرد الوحيد ، إذ لم يكن يساعده على أمره إلا من كان يؤمن به ويصدقه ، ولم يكن صلى الله عليه وآله وسلم واجدا سعة من المال ، ولا متمكنا من الرجال ، بل كان شريدا طريدا ، قد جفاه أهله ، فكيف كان يظن مع هذه الأحوال من تجميع الرجال ، وجمع كلمتهم ، مع تراخي الديار ، وتباعد مزارهم ، وعدمه صلى الله عليه وآله وسلم الرسل الذين يوجههم إليهم ، بل أي رغبة كانت فيه لطلاب الدنيا وأحوالها ؟!
على أنه لو كان مثل كسرى في كثرة أمواله ، وانبساط ملكه ، ووفور حاله ، وعظم هيبته ، مع ما كان يتعلق به من الرغبة والرهبة ،
__________
(1) كذا في المخطوط ، ولعلها: وشحر . منطقة في جنوب اليمن .
كان لا يتم له ذلك ، بل كان يتعذر عليه جمعهم على ذلك ، وتقريرهم عليه ، فكيف يظن العاقل أنه تم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك ؟!!
على أن مثل هذا التواطئ مما لا يصح وقوعه في العرف ، ومجرى العادة ، وبه يستدل على صحة الأخبار المتواترة ، ولولا تعذر ذلك واستحالته من طريق العادة ، لكان يجوز أن يشك في كثير من (1) مخبَر الأخبار المتواترة ، وهذا أظهر من أن يحتاج إلى إطالة الكلام فيه .
على أن ذلك لو كان ، لكان لا يجوز أن ينكتم ، بل كان يظهر ظهورا تاما ، على ما تقدم بيانه في باب التحدي . لأن الدواعي تدعو إلى نشر مثله ، والبواعث تبعث على إذاعته ، والأغراض تتوفر في ذلك وتختلف .
على أنه من أين كان يثق بأن من واطأه - لو أمكن ذلك وكان الطريق إليه مستجيبا (2) - يفي له بذلك ؟ وكيف كان يأمن أن يتغير رأيه ، فينقض ما بذله حتى يفتضح بذلك ، ويفسد عليه أموره ، ويظهر كذبه ، وهذا ظاهر الفساد .
فبان بهذه الوجوه التي بيَّناها سقوط ما سألوا عنه في هذا الباب .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجوز أن يكون ظن أن الاتيان بمثل هذا القرءان يتعذر على
__________
(1) في المخطوط: في . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) كذا في المخطوط .
قومه ، من حيث علم أحوالهم ، ومجاري أمورهم ، فأقدم على التحدي ، لِمَا غلب من ذلك في ظنه,لأن العاقل الحصيف قد يقدم على الأمر المظنون بما يقدم (1) على الأمر المعلوم ، وفي كون ما ذكرناه جائزا خارجا من حيز (2) الامتناع ما يبطل دعواهم أنه يجب أن يكون من عند الله عز وجل .
قيل له: هذا الظن ظنٌ لا أمارة عليه ، بل لا يجوز حصوله للعاقل المميز (3) ، لأن خلافه هو المعلوم .
فالمتعلم (4) إن ما يأتي به الانسان من أي جنس كان ، وأي باب كان ، فإنه من المعلوم أنه لا يتعذر الاتيان بمثله على من كان على مثل صفته في ذلك الشيء .
ونحن نعلم أن أولئك العرب كانوا مثل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المعرفة بأحوال الكلام وطرقه ، وجيده ورديئه ، وفصيحه ومتوسطه ، أو مقاربين له في ذلك .
ومن كان كذلك ، فمن المعلوم أنه لا يتعذر عليه الاتيان بمثل ما أتى به ، والعلم بهذا طريقُه الضرورة ، فلا يصح أن يقال: إنه صلى الله عليه وآله وسلم يجوز أن يكون عدمه (5) ، وإذا كان ذلك معلوما ، فلا
__________
(1) في المخطوط: تقدم . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: خبر . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: المتميز . ولعل الصواب ما أثبت .
(4) كذا في المخطوط .
(5) كذا في المخطوط .
يجوز أن يظن العاقل خلافه ، لأن ذلك يصير من ظنون السودوس (1) ، الزائلين عن كمال العقل ، ونحن بنينا (2) دليلنا هذا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كامل العقل ، وافر التحصيل ، صحيح التمييز ، على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يَتَحَدَّ به قومه الذين هم قرابته فقط ، بل عم التحدي جميع العرب ، بل جميع البشر ، فلو جاز أن يظن الانسان أنه صلى الله عليه وآله وسلم ظن ذلك بقومه لمعرفته بكثير من أحوالهم ، وبواطن أمرهم - على بُعد ذلك - فكيف يظن أنه ظن ذلك بسائر العرب ، مع كونه متباعدا عن ديارهم ، متنائيا عن ضبط أحوالهم ، وفيهم مثل: لبيد بن ربيعة ، وكعب بن زهير ، الذي جاءه صلى الله عليه وآله وسلم ، والأعشى ، وحسان ، وغيرهم من الفصحاء المشهورين ؟!
وإذا ثبت أن الأحوال كانت على ما ذكرناه ، صح ووضح أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يجوز أن يظن ذلك ، لوكان القول من عنده ، إذ كان يجب أن يكون المعلوم بخلاف ذلك . وفي بطلان ذلك دليل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عالما بتعذر ذلك عليهم ، لكونه من عند الله عز وجل .
__________
(1) كذا في المخطوط .
(2) في المخطوط: بينا . ولعل الصواب ما أثبت .
فإن قيل: يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم ظن أن القوم يكفون عن الاشتغال بالاتيان بمثله ، وإن لم يكن متعذرا عليهم ، فبنى أمر التحدي عليه .
قيل له: هذا الظن حصوله للعاقل أبعد وأشد استحالة من الظن الذي بَعَّد التحدي عنه .
أولا: لأنا قد بينا فيما تقدم أنه معلوم بكمال العقل أن من أتى قوما هم أمثاله ونظراؤه في النسب والمحل ، وادعا رئاسته عليهم ، وأنهم يلزمهم الانقياد له ، وقبول طاعته ، وهم له كارهون ، قد أظهروا له البغضاء والعداوة ، واحتج عليهم بأمر يمكنهم مقابلته بمثله من غير ضرر يلحقهم ، فإنه لا يجوز منهم الكف عن ذلك على وجه من الوجوه .
يكشف ما قلنا في جواب السؤال وما قبله: أنَّا نعلم أن واحدا من علماء عصرنا هذا ، من فقيه أو متكلم ، أو أديب أو متطبب ، إذا كان في بلد فيه وفيما حوله عدة من نظرائه فيما يتعاطاه ، أو مقاربين له مع ظهور بغضهم (1) له ، وكراهتم رياسته عليهم ، وانتصابهم لعداوته ، وركوبهم الصعب والذلول في ذلك .
فإنه لا يجوز متى كان عاقلا لا آفة به أن يظن أنه يطلب الرئاسة عليهم ، وتصريفهم على أوامره ونواهيه ، بأن يحتج به عليهم ويتحداهم به ، وهم متمكنون من مقابلته بمثل ما احتج وأورد بأهون سعي ، فلا يقع منهم ، ولا يختارون فعله ، بل يكفون عنه .
__________
(1) في المخطوط: بعضهم . ولعل الصواب ما أثبت .
وإذا ثبت ذلك ، صح أن ما ذكروه من جواز حصول مثل ذلك الظن باطل ، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما تحداهم بما أورده عليهم بأمر علام الغيوب ، ومع العلم أنه متعذر عليهم .
فإن قيل: فَجَوِّزوا أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرف ذلك من جهة بعض الأنبياء ، وأن يكون وقع إليه أنه أخبر عن حاله وحال القوم معه بأن يكفوا (1) عن معارضته ، فاعتمد ذلك ، وبنى أمر التحدي عليه ، لعلمه بصحته ، وأن أصل ذلك الخبر من عند الله عز وجل .
قيل له: هذا الذي ذكرت لوكان ، يزيد أمره صلى الله عليه وآله وسلم قوةَ رغبةٍ وتأكيدا ، وكان ذلك ضربا من التبشير به ، وذلك أن ذلك النبي لو أخبر أن القوم يكفون عن معارضته ، وأحوالهم على ما وصفنا ، لكان لا يخلو ذلك الكف من أن يكون منهم على سبيل الاختيار ، أو لأن (2) الاتيان بها كان متعذرا عليهم ، أو لأن (3) الله عز وجل صرفهم عنها ببعض لطائفه .
وقد ثبت أن الكف على سبيل الاختيار منهم مما يستحيل ، ولا يصح كونه ، فلم يبق إلا أنه كان للتعذر أو للصرف ، وأيهما كان وجب كونه معجزا ، دالا على نبوته . فتقدُّم خبر نبي - إن تقدم -
__________
(1) في المخطوط: يكفون . والصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: ولأن . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: ولأن . ولعل الصواب ما أثبت .
يكون بشارة له بأن الله عز وجل بعثه نبيا ، ويُظهر عليه العلم الذي يدل على نبوته .
فإن قيل: فإذا ثبت أنه من عند الله عز وجل ، فما الذي يدل على أنه معجز ؟ لأن التوراة والانجيل ، وإن كانا منزلين من عند الله ، فلا يجب كونهما معجزا ؟
قيل له: إذا ثبت بما بيناه تعذُّر مثله على الناس ، ثبت كونه معجزا كما بيناه في الدليل الأول .
فإن قيل: إذا كان هذا الدليل لا يتم إلا بذكر التحدي ، وبيان تعذر مثله ، وعليه بنى الدليل الأول ، فلم جعلتم هذا دليلا ثانيا ؟!
قيل له: هذان الشرطان وإن جمعا الدليلين ، فلكل واحد منهما شرط يخصه ، لأن الدليل الأول لا يتم إلا بأن يعلم أن المعارضة لم تقع ، وهذا لا يجب أن يشترط في الدليل الثاني ، لأن الدليل الثاني يصح أن يستدل به .
وقيل: النظر في أن المعارضة وقعت أو لم تقع ، حين يكون حصول العلم بأن المعارضة لم تقع بعد استكمال النظر في الدليل ، ووقوع العلم به .
والدليل الأول ليس من شروطه أن نبين أن كامل العقل (1) لا يجوز أن يقع منه من تلقاء نفسه مثل هذا التحدي ، ولا يجب اشتراطه في الدليل الأول .
__________
(1) في المخطوط: العقلاء . ولعل الصواب ما أثبت .
والدليل الثاني لا يتم إلا باشتراطه ، لأنه مبني عليه .
وإذا كان لكل واحد من الدليلين شرط يخصه - ولا يتم الدليل إلا بشرطه - لما صح كونهما دليلين ، وإن جمعتهما شروط أُخر .
دليل آخر على أن القرءان معجز: ومن الدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابتدأ الاتيان بهذا القرءان على غاية الاحكام والاتقان ، وقد ثبت جريان العادة أن كل أمر يقع على وجه لا يصح وقوعه عليه إلا بعلوم تحصل للفاعل له ، لا يصح وقوعه ابتداء على غاية الاحكام والاتقان ، وأن بلوغه الغاية يتعذر على (1) مر الدهور والأعصار ، وتعاطي جماعة فجماعة له . وأنه لا فرق في ذلك بين (2) شيء من الأمور التي هي منظوم الكلام ومنثوره ، أو ما يتعلق بالتنجيم أوالطب أو الفقه أو النحو ، أو الصناعات التي هي النساخة أو الصياغة أو البناء أو ما أشبه ذلك .
فإذا ثبت ذلك وثبت وقوع القرءان على الوجه الذي بيناه ، ثبت أنه وقع على وجه انتقضت به العادة ، وما وقع على وجه تنتقض به العادة ، وجب كونه معجزا ، وجرى مجرى قلب العصا حية ، وإحياء الموتى ، والمشي على الماء والهواء .
فإن قيل: ولم ادعيتم أن القرءان وقع على غاية الاحكام والاتقان ؟!
__________
(1) في المخطوط: إلا على . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: من . ولعل الصواب ما أثبت .
قيل له: قد علمنا ذلك كما علمنا في غيره مما بلغ الغاية في بابه ، وذلك كما علمنا أن التنجيم بلغ الغاية في أيام بطليموس ، وأن الهندسة قد بلغت الغاية في أيام أقليدس ، وأن الطب بلغ الغاية في أيام جالينوس ، وأن الشعر بلغ الغاية في أيام امرئ القيس ، والنابغة ، وزهير ، والأعشى ، وأن النحو بلغ الغاية في أيام سيبويه والخليل ، وأن الخط بلغ الغاية في أيام ابن مقلة ، وكذلك سائر الصناعات والمهن ، وكان الطريق إلى الجميع أنا قد علمنا من حال كل واحد ممن تعاطاه ، بأن كل من حاوله وتعاطى مثله ، إما أن يكون قصر عنه قصورا بينا ، وبَعُدَ بُعداً متفاوتا ، أو قاربه ، أو زاد عليه شيئا ، زيادة كانت يسيرة لا يؤبه لمثلها .
فدلنا ذلك على أن جميع ما ذكرناه وقع على غاية الاحكام والاتقان في بابه ، في الأوقات التي ذكرناها .
فإذا ثبت ذلك وثبت أن القرءان لما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاول كثير من الناس الاتيان بمثله ، فقصروا عنه قصورا ظاهرا ، وسقطوا دونه سقوطا فاحشا ، عرفه من نصح (1) نفسه ، ولم يجحد ما تصوَّره .
فأما مَن عَانَدَ وتواقح (2) ، فإنه ادعا المقاربة ، وأوهم الأغمار المماثلة ، ولم يدع أحد أنه يبرز عليه ، ويطلب وراءه أمرا للمزيد ،
__________
(1) في المخطوط: أنصح . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) من الوقاحة .