على أن هذا أيضا يرجع إلى أنه عز وجل لو أجرى الأمر على ذلك ، يكون قد انصرف عن الفعل الواجب ، لأنه عز وجل إن كان أجرى العادة بتلك الأمور أن يفعلها ، فإنه لا يجوز أن يفعلها عند دعوى الكاذب ، وذلك يجري مجرى القبيح ، وإنما كان يجب على القديم عز وجل ، لو كان الأمر على ما ذكرتم أحد أمرين:
إما أن يمنعه التمكن منه .
أو يدفع ذلك ويظهره بلطائفه ، لئلا يصير شبهة لا يمكن حلها ، فلو لم يفعل ذلك ، لكان قد عاد الأمر إلى أنه لم يفعل ما وجب عليه تعالى الله عن ذلك !!
فإن قيل: ما أنكرتم على من قال لكم: يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ هذا القول من نبي كان أتى به قبل (1) ذلك النبي ، وأخفى حاله ، وادعا النبوة به من غير أن يكون (2) صادقا فيما ادعا فيه ؟!
قيل له: هذا سؤال قد أجاب بعض العلماء المتقدمين عنه بجوابين:
أحدهما: أنه قال: (( لقد علمنا ضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أتى به دون من سواه ، كما علمنا في شعر كثير من الشعراء ، وكتب كثير من المصنفين . وفي هذا سقوط هذا السؤال .
__________
(1) في المخطوط: وقبل . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: كان . ولعل الصواب ما أثبت .

والجواب الثاني: أن ذلك لو كان ، لكان شبهة لا يمكن حلها ، وما جرى هذا المجرى فيجب على الله عز وجل المنع منه ، فيعلم أنه لم يكن .
ويمكن أن يجاب عنه بأن يقال له: إن ذلك لو كان كذلك ، لكان ذلك النبي ممن قد بعثه الله ، وكلفه أداء الرسالة . ولو كان ذلك كذلك ، لوجب على الله عز وجل أن يحفظه إلى أن يبلغ ويؤدي الرسالة ، ولو كان بلَّغ وأدى ، لكان ذلك لا يخفى .
والجواب المعتمد عندي غير هذه الأجوبة ، وهو أن يقال لمن قال ذلك: في القرءان كثير من أقاصيص أحوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأحوال الصحابة رحمهم الله ، وأحوال أعدائه ، مثل ما ذكر سبحانه في السورة التي يذكر فيها الأحزاب من قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ } [الأحزاب: 9] . . . إلى آخر القصص ، وفي هذه السورة ذكر زيد بن حارثة ، وما قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شأن زوجته ، وما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التزويج ، حيث يقول: { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } [الأحزاب: 37] . . . إلى آخر القصة .

وفي السورة التي يذكر فيها الأنفال قصة بدر من قوله: { وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ } [الأنفال: 7] . . . إلى آخر القصة . وفي هذه السورة قصة الأسارى ، والمفارقات (1) التي جرت .
وفي السورة التي يذكر فيها آل عمران قصة بدر ، وقصة أحد .
وفي السورة التي يذكر فيها التوبة وقصة حنين ، وقصة الغار ، ولو تتبعنا هذا في جميع القرءان لطال الكتاب به .
ومن المحال أن تكون هذه الأقاصيص بعينها كانت اتفقت لبعض الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه وآله وسلم بمكة والمدينة . ولئن جاز أن يتفق ذلك ، لوجب أن يكون نقله ظاهرا ، وهذا من أوضح ما يقال في إسقاط هذا السؤال .
فإن قيل: فهل يجوز أن يكون مثل القرءان مقدورا للجن أو للملائكة ؟!
قيل له: لا سبيل لنا من طريق النظر إلى المنع من ذلك ، لأنا لا نعرف أحوال الملائكة عليهم السلام والجن . إلا أنا من طريق السمع علمنا أنه ليس في مقدور الجن .
فأما الملائكة عليهم السلام فلا يعرف ذلك من حالهم ، ولو لم نعرف أحوالهم نحن أيضا لم يقدح ذلك في كونه معجزا ، لأنا إذا عرفنا تعذره على أمر يخفى ، كفى في كونه معجزا . على ما مضى القول فيه.
__________
(1) كذا في المخطوط .

فأما ما ذهب إليه قوم من أنّا قد سمعنا من أحوال الجن وأشعارهم ، ما يمكننا الاستدلال به على أنهم على الاتيان بمثله عاجزون .
كنحو ما يحكى عن عمرو الجني من قوله:
أشجاك تشتت شعب الجن ... فأنت له أرق وصب (1)

. . . إلى آخر القصيدة .
وما يحكى من قوله:
من معذب جذل جاد القريض له ... حبر يجير لنا بيتا على دار (2)

وما يحكى عن بعضهم:
وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر (3)

وما روي عن سواد بن قارب من الأبيات التي يحكيها عن بعض الجن وهي:
عجبت للجن وألعابها ... وركبها العيس بأقتابها (4)

. . . إلى آخر الأبيات .
حكايات لم تعرف صحتها ، بل ليس لشيء منها سند ، لا ضعيف ولا قوي ، إلا ما يحكى عن سواد بن قارب ، وبمثل هذا لا يقع العلم .
__________
(1) لم أقف عليه .
(2) لم أقف عليه .
(3) التلخيص في علوم البلاغة / 28 .
(4) لم أقف عليه .

والثاني: أن هذه الأبيات ، وما جرى مجراها ، لو علمنا على التحقيق أنها من قول الجن ، لم يمكنا أن نعلم بهذا القدر من أحوال جميعهم ، فصار الاشتغال به مما لا يجدي ، والاعتماد على قول الله عز وجل: { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) } [الإسراء] ، وعلى إجماع الأمة على ذلك .
دليل آخر على أن القرءان معجز: ومن الدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهما شُكَّ في شيء من أحواله ، فلا شك في صحة عقله ، وأصالة ذاته ، وشدة حصافته ، ووفور ذاتيته (1) . قد علم ذلك المصدق به ، والمكذب له ، لأن الحال في ذلك أظهر من أن يجوز أن يرتاب فيه عاقل .
على أن المصدق به يعلم ذلك ، من حيث يعلم أن الله عز وجل لا يجوز أن يبعث إلى خلقه من لم يكن على تلك الصفة ، والمكذب له يعلم ذلك ، من حيث يظن أنه دبر أحوال نفسه وأحوال أصحابه ، حتى تم له ما تم ، وقد تلا هو صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه وأوليائه ، على ما تقدم بيانه ، { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [البقرة] ، وتلا عليهم: { وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن
__________
(1) كذا في المخطوط .

يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ } [يونس: 37] ، وقوله: { أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) } [يونس] ، وتلا عليهم: { { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) } [الإسراء] .
وقد علمنا أن العاقل إذا ادعا أمرا لا يكون مبناه إلا على الصدق ومجانبة الكذب ، ويشتد حرصه على تصحيحه ، حتى يتحمل له المشاق ، ويركب له الأخطار ، ويعاديه على ذلك قوم أَلِبَّاء عقلاء ، يرجعون إلى الحصافة التامة ، والتمييز الشديد ، سيما إذا كان ما يدعيه لا يتم إلا بما يحصل في النفوس من تعظيمه وحشمته ، لصدق لهجته ، ووفور وقاره وهيبته ، فلا يجوز مع سلامة الأحوال أن يورد على العدو الكاشح ، والولي المناصح ، ما لا يأمن أن يظهر فيه كذبه في يومه أو غده ، أو بعد مدة قصيرة أو طويلة ، حتى يفتضح بذلك عند الجميع ، ويحتج به عليه أعداؤه ، وينفر عنه أصحابه ، لأن ذلك يجري مجرى التعرض بتشويه الانسان لنفسه بين أعدائه وأوليائه ، مع التماسه منهم تعظيمه وتوقيره وإكباره وإجلاله ، مع سلامة الأحوال . وما جرى هذا المجرى ، نعلم قطعا أنه لا يقع على وجه من الوجوه .
فإذا ثبتت هذه الجملة فتلاوته صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآيات عليهم لا تخلو:
من أن تكون من تلقاء نفسه .

أو بأمر علام الغيوب .
ولا يجوز أن يظن عاقل أنه كان يتلوها عليهم من تلقاء نفسه ، لأنه تلاها على قوم هم مثله,أو مقاربون له في المعرفة بأحوال الكلام وأساليبه ، وبأحوال الفصاحة ، ولم يكن يجوز أن يأمن أن يأتي عدة منهم كل واحد منهم بمثله ، إما في الوقت ، وإما في مدة قصيرة أو طويلة ، فيظهر كذبه ويبين تَقَوُّله ، ويتسلق (1) به أعداؤه ، ويخذله أوليائه .
فإذا فسد ذلك ، صح أنه وارد من عند علام الغيوب تبارك وتعالى ، وإذا صح أنه من عنده عز وجل ، صح أنه معجز .
فإن قيل: أكثر ما ذكرتموه يكون تغريرا بالجاه ، ومن طلب مثل الأمر الذي طلبه فغير ممتنع أن يغرر بنفسه ، فضلا عن جاهه ، لأن التغرير بالنفس أعظم من التغرير بالجاه .
قيل له: التغرير بالنفس أيسر عند من طلب معالي الأمور ، من التغرير بالجاه ، لهذا تجد كثيرا من الناس يغرر بنفسه في الحروب للأنفة ، وكذلك تجد كثيرا ممن له علو الهمة ، يؤثر إعانة (2) النفس على التشويه بها .
على أن التغرير بالنفس أو بالجاه إن اختاره العاقل ، فليس يختاره إلا إذا لم يكن منه بد في الأمر الذي يطلبه .
__________
(1) كذا في المخطوط .
(2) كذا في المخطوط ، وفي المخطوط: ويؤثر . ولعل الصواب ما أثبت .

فأما إذا كان يعلم أنه يجد منه بدا ، أو يغلب في ظنه ، وكان الذي يغلب في الظن أن المحذور واقع ، فإنه لا يجوز أن يختاره بتة .
ومن المعلوم أن هذا القرءان لو لم يكن من عند الله عز وجل كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مستغنيا عن هذه الآيات المخصوصة ، وأنه لم يكن يتلوها عليهم ، لأن كثيرا منهم كان قد أسلم وآمن بسائر ما ظهر عليه من الآيات - على ما نبينه بعد هذا إن يسر الله سبحانه وأعان عليه - وكان في حكم المعلوم أنه لو لم يكن معجزا ، ولم يكن من عند الله ، أنه كان يحصل منهم الاتيان بمثله لا محالة .
ولو وقع لعاد الأمر إلى ما كان يكره ، ولم يكن له في ظاهر الحال فيها فائدة كثيرة ، لأن العرب كانت عارفة بحال القرءان ، وفائدة التحدي ، وكانت تحمله بعده صلى الله عليه وآله وسلم لسائر الناس ، وما يجري هذا المجرى لا يجوز أن يختاره العاقل مع سلامة الأحوال ، فثبت أنها كانت من عند الله عز وجل .
على أن ما نعرفه من حكم التحدي ، وأنه كان لا بد من حصول المعارضة من القوم ، ولم يتعذر عليهم ، معلوم لكل عاقل ، ومعلوم أيضا أحوال القوم وأحواله صلى الله عليه وآله وسلم بكمال عقله ، فلولا أن القرءان من عند الله عز وجل ، كان لا يجوز أن يتحدى ذلك التحدي ، لعلمه بأنه يؤتى بمثله في أقرب مدة ، كما أن إنسانا لو جاء إلى أعدائه ، وطلب الترؤس عليهم ، والتحكم بما شاء فيهم ، وأن يكون أولى بأنفسهم منهم ، وقال: دلالتي على ما أدعي أني أكلمكم

اليوم طول نهاري ، فلا يمكن لأحد منكم أن يجيبني . فمن المعلوم إذا كانت الأحوال سليمة ، أن لا يدع أحدا منهم أن يجيبه ، وأن يكون هو لا يفعل إذا كان عاقلا سليما ، سيما إذا كان مبنى أمره على الصدق ، ومجانبة الكذب .
وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع العرب فيما تحداهم به ، لولا أنه من عند الله عز وجل .
فإن قيل: ما تنكرون على من قال لكم: إن ذلك كان خطأ من جهة الرأي على ما قلتم ، وأن الأَولى كان لا يأتي به ، إلا أن الحازم قد يزل ، والمصيب قد يخطئ ، والمحق (1) قد يسف ، وإذا كان ذلك كذلك ، لم يجب أن يكون ذلك من عند الله عز وجل ، وجاز أن يكون من عنده ، اتفق على سبيل الخطأ كما يتفق من الناس ، ثم اتسق الأمر على مراده ، فلم يعارض الاتفاق ، كما يتفق في كثير من الأمور أن يخطئ فيه الانسان ، فيجري الأمر مع خطئه على مراده على سبيل الاتفاق .
قيل له: إن الخطأ إذا عظُمَ وفحش حتى يشترك في العلم به المميز المحصل ، والغمر الذي لم يحكم التجارب ، بل المراهق الذي لم يبلغ بعد الحلم ، لم يجز أن يقع من العاقل المميز الذي له في التحصيل والتنقير عن الأمور أوفى الحظوظ .
ألا ترى أن من يريد تأديب ولده وتهذيبه ويردعه عما لا يحسن ، وحمله على طريق الصلاح يجوز أن يمسه بمقارع ، فيقع الخطأ فيه ،
__________
(1) في المخطوط: والمحلق . ولعل الصواب ما أثبت .

ويتجاوز الغرض المطلوب حتى يوهن بعض أعضائه ، ولكن لا يجوز أن يبلغ به الخطأ مع كمال عقله ، وسلامة أحواله ، حتى يضربه بالسيف ضربة يعلم أو يغلب على الظن أنها تأتي عليه ، وكذلك من يداوي نفسه يجوز أن يخطئ فيرسل على بعض أعضائه العلق (1) ، فيزيد ذلك في مرضه وألمه . ولكن لا يجوز مع كمال العقل أن يخطئ فيرسل الأفعى على بعض أعضائه على سبيل التداوي .
وكذلك يجوز أن يجني على نفسه ، بتناول ما يضره من الأدوية على سبيل الخطأ , ولكن لا يجوز أن يخطئ فيتناول الببش (2) ، مع علمه به وبصفته وفعله . ونظائر هذا أكثر من أن تعد وتحصى .
فإذا صح ذلك وثبت ، فقد علمنا أن إيراد هذه الآيات لو لم تكن من عند الله عز وجل ، لكان من الخطأ العظيم الفاحش الذي لا يجوز وقوع مثله من كامل العقل ، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم أتى قوما هم نظراؤه في النسب ، وأشكاله في اللسان ، وأمثاله في المعرفة بمجاري الأمور ، فدعاهم إلى دين كرهوه ، وعادوه عليه وناصبوه ، ولم يَدَعُوا ممكنا في مناوأته إلا أتوه ، وهو يعلم أن أمره مبني على صدق اللهجة ، ومجانبة الكذب والتنزه عنه ، وأنَّ يسير الكذب لو ظهر منه لأدى إلى إفساد حاله ، وتوهين أمره ، ومكَّن منه أعداءه ، ونفَّر عنه أولياءه ، وهدم ما أسسه ، ونشر ما ضمه ، ونقض ما شاده .
__________
(1) العلق: الدم الغليظ ، والقطعة منه .
(2) كذا في المخطوط .

15 / 32
ع
En
A+
A-