إما أن يكون قد استنفذ الطرق ، فلم يبق هناك طريق آخر لذلك الشيء ، وما جرى هذا المجرى فالإتيان (1) به مستحيل ،لا تصح القدرة عليه ، وما لا تصح القدرة عليه لا يصح التحدي به . ألا ترى أن إنسانا لو أتى بشعر مركب من هذه الحروف التي هي ثمان وعشرون ، ثم تحدى به ، فقال: ائتوا بمثله من غير هذه الحروف ، لم يصح التحدي به ، لأنه ليس في المقدور . وكذلك لو قال: إني أضرب واحدا في واحد فيكون واحدا ، أو اثنين في واحد فيكون اثنين ، واثنين في اثنين فيكون أربعة ، واثنين في ثلاثة فيكون ستة ، واثنين في أربعة فيكون ثمانية ، واثنين في خمسة فيكون عشرة ، وثلاثة في ثلاثة فيكون تسعة ، وثلاثة في أربعة فيكون اثني (2) عشر ، وثلاثة في خمسة فيكون خمسة عشر ، وأربعة في أربعة فيكون ستة عشر ، وأربعة في خمسة فيكون عشرين ، وخمسة في خمسة فيكون خمسة وعشرين ، ثم تحدى ، وقال: اضربوا بعض هذا العدد ببعض ، وأْتُوا بكامل (3) غير ما أتيت به ، كان ذلك لا يصح ، لأن ما تحدى به يكون مستحيلا ، أو جرى مجرى أن يفعل حركة في جسم فيقول: افعلوا في غير جسم أو جوهر .
__________
(1) في المخطوط: الاتيان . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: اثنا عشر . والصواب ما أثبت .
(3) بكامل ، يعني: بمجموع أو بجملة .
أو يكون التعذر الآن غيره ، لم نعمل فيه العكس ، ولم نمتحن ولم نتعلم ، وهذا أيضا لا يصح التحدي به ، لأن ذلك يجري مجرى تعذر الصياغة على النجار ، والنجارة على الخياط .
ألا ترى أن كل من أَفْكَر (1) فيه فكره ، وتعمَّل له تعمُّله ، يأتي منه مثل ما يأتي به المتحدي ، حتى لا يكون بينهما من التفاوت إلا مقدار ما يكون بين الصانعين من الذكاء والبلادة .
فإذا ثبت ما بيناه ، وثبت أن المجسطي وأقليدس والعروض ، وما أشبههما من الكتب ، يمكن التوصل إليه بالفكر والتعمل والتعلم والامتحان ، ثبت أنه مما لا يصح التحدي به ، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه لا يصح أن يلزم كونه معجزا ، على قولنا إن القرءان معجز . لأن الاتيان بأسلوب من الكلام في أعلى طبقات الفصاحة ، أو في الطبقة العالية بالفكر والتعمل ، مما لا يصح على وجه من الوجوه . بل لا بد فيه من طبع لا طريق إليه للتكلف والتعمل .
ألا ترى - ولا نشك - أن الخليل بن أحمد كان أكثر في اللغة والعلم بأوزان الشعر وعيوبه ومحاسنه من امرئ القيس ، لأن امرئ القيس كان الظاهر من أمره أنه كان يعرف لغة قومه ، والقوم الذين قاربوهم ، والخليل تعلَّم اللغة حتى أحاط بها ، ومع ذلك فلا يشك أن الخليل كان لا يمكنه أن يقول من الشعر ما يماثل شعر امرئ القيس أو يقاربه .
__________
(1) أَفكَر ، يعني: أعمل فكره .
ولهذا نرى ما بيننا المكثر من علم اللغة ومحاسن الشعر ومساوئه ، إذا لم يكن مطبوعا في الشعر لا يمكنه أن يأتي من الشعر مثلما يأتي به المطبوع ، الذي لا يبلغ علمه باللغة ومحاسن الشعر ومساوئه معشاره ، بل ربما لم يمكنه أن ينظم بيتاً واحدا إلا بجهد عظيم ، وتعب شديد . ثم إذا أتى به ، أتى به في غاية الوحشة ونهاية السقوط . وهكذا حال إنشاء الرسائل والخطب والتوسع في المحاورات .
فإن قيل: إن المجسطي وإن كان يمكن أن يتوصل إليه بالامتحان والفكر والتعلم ، فقد كان في مبادئه ما لا يمكن ذلك فيه ، ولا طريق للتوصل إليه بالامتحان والتعمل .
قيل له: هذا إن صح ، فقد قالوا هم: إن ابتداءه كان من هرمس ، وإن هرمس هو إدريس النبي صلى الله عليه (1) ، وإن كان فيه ما سبيله هذا السبيل ، فيجب أن يكون معجزاً يدل على نبوة من أتى به .
ولهذا قال كثير من العلماء في علم النجوم وعلم الطب: إنهما كانا في الأصل مما أتت به الأنبياء صلوات الله عليهم ، وأنه لا سبيل للخلق إلى الاتيان بمثله . فهذا مما يجب أن ينظر فيه . إلا أن سؤال القوم قد سقط ، لأنه إذا صح وثبت ما ادعوه ، وجب أن يكون ذلك القدر منه معجزا .
__________
(1) القائلون بذلك هم الصابئة ، ومعنى هرمس عندهم: عطارد. مروج الذهب للمسعودي 1/39.
على أن المجسطي وأقليدس وما أشبههما من الكتب لو صح التحدي به ، لم يلزمنا أن نقول: إنه معجز . على قولنا: إن القرءان معجز .
لأنا لم نعلم أن القرءان معجز بأن صح التحدي به ، وإنما عملنا ذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى به قوما هم في الفصاحة والمعرفة بأساليب الكلام مثله أو دونه بيسير ، فتحداهم به وقرعهم بالمعجز عن الاتيان بمثله ، وادعا عليهم أنهم له في حكم العبيد في نفوذ أحكامه فيهم ، وأنهم يلزمهم مفارقة ما كانوا عليه من الدين ، وتكفيرهم لم يفارقه (1) ، والإنقياد له ولأوامره ، والقوم له كارهون ، وفي تكذيبه جاهدون ، وظهرت قوة دواعيهم إلى كل ما دعا إلى إفساد أمره ، وتوهين حاله ، وإظهار كذبه ، ولم يأتوا بمثله .
فدلنا ذلك على أنه كان متعذرا عليهم ، ولم يثبت في المجسطي وما جرى مجراه شيء من ذلك ، لأنه لم يثبت أنه أتى قوما مثله في تلك الصناعة وتحداهم بالعجز عن الاتيان بمثله ، وجعله لنفسه حجة عليهم ، في أنهم يلزمهم الجري على أحكامه ، والتصرف تحت أوامره ونواهيه ، مع كراهة القوم له ولأحواله ، ووفور بواعثهم إلى إفساد أمره ، والإبانة عن كذبه ، وأنهم لم يأتوا بمثله ، مع تطاول الزمان على تلك الأحوال .
__________
(1) كذا في المخطوط . والعبارة غير واضحة المعنى ، لعل بها سقطا أو تصحيفا .
فإذا لم يثبت شيء من ذلك ، فكيف يلزمنا أن نقول: إنه كان معجزا ؟ وما له (1) قلنا: إن القرءان معجز لم يحصل له ؟!
فإن قيل: قد علمنا أن تفرد الواحد بضرب من الفضل حتى يُذكر به ، ويَرؤُس بتحصيله ، مما يحرك طبع غيره على الاتيان بمثله ، فيجري ذلك مجرى التحدي .
قيل له: هذا لا يقوله من عرف أحوال الناس وعاداتهم ، لأنا نعلم من أحوال كثير من العلماء الذين يتقدمون في كثير من العلم ، أنهم لم يكن لهم دواعي إلى تصنيف الكتب في العلوم التي برعوا فيها ، بل ربما لم يُجدّ الواحد منهم ، إذا علم أن غيره قد كفاه المؤنة في ذلك ، وأتى بما كان مراده ، كان ذلك صارفا له عن الاشتغال به ، وإن جاز أيضا أن يتفق ذلك ما سأل عنه السائل ، لكن ذلك لا يمكن الإبانة بعلم أن للقوم أحوالا كأحوال من عادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، من كفار قريش وسائر العرب ، على ما بيناه . ومتى ما مرت الأحوال على ذلك ، فلا بد من الاتيان بمثل ما أتى به من كان معهم في مثل حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، إلا أن يتعذر ذلك عليهم .
فأما مقدار ما سأل عنه السائل ، فلا يجب من سائرهم أن يقع الاتيان بمثل ما أتى به بعضهم ، وإن كان ممكنا لهم .
فإن قيل: فإذا لم يعلموا تلك الأحوال فشكوا في كونه معجزا ؟!
__________
(1) كذا في المخطوط .
قيل له: الوجه الأول يمنعنا من الشك ، ويوجب القطع على أنه ليس بمعجز ، وأنه يجري مجرى سائر الصناعات والمهن ، لأنا قد بيّنا أن التحدي مما لا يصح ، كما لا يصح ذلك في الصناعات والمهن .
فإن قيل: فما تنكرون على من قال: إن القرءان هو من هذه الحروف وجنسها مقدور للبشر ، ولا يصح أن يكون المعجز جنسه في مقدور العباد ، لأنه يؤدي إلى التناقض ، لأن من شأن المعجزات أن يتعذر على العباد ، وما كان جنسه مقدورا لهم ، فهو متأتي منهم ، والتأتي ينافي التعذر ، وإذا كان ذلك كذلك ، لم يصح أن يكون القرءان معجزا ؟!
قيل له: هذا الذي ادعيتَ من التناقض على الوجه الذي ظننت ظاهر السقوط ، لأن جنس الشيء وإن كان مقدورا للعباد ، فإنه لا يجب أن يصح فعل ذلك الشيء منهم على كل وجه ، بل لا يمتنع أن يتعذر فعله على بعض الوجوه ، وإن صح فعله على وجه آخر ، وهذا لا يؤدي إلى التناقض ، لأنه من الوجه الذي يتأتى لا يتعذر ، ومن الوجه الذي يتعذر لا يتأتى ، وإنما يتعذر ما يتعذر بما يكون جنسه مقدورا للعباد ، لأن القادر ربما احتاج لإيقاعه على وجه مخصوص إلى كونه عالما ، أو في حكم العالم ، أو يحتاج إلى الآلة ، وما يجري مجرى الآلة ، فإذا قصد الآلة فيما يحتاج لفعله على وجه مخصوص إلى الآلة ، أو القلم فيما يحتاج لفعله على وجه مخصوص إلى كونه عالما ، تعذر فعله على ذلك الوجه ، وإن كان جنسه مقدورا .
ألا ترى أن الفعل المحكم ، وإن كان جنسه مقدورا لمن ليس بعالم ، فإنه يتعذر عليه ولا يتأتى مثله .
ألا ترى أن هذه الحروف أجمع مقدورة للناس أجمع ، ومع هذا فلا يصح من أحد إيقاعها على وجه يكون متكلما بلغة العرب إذا لم يكن عالما بلغتهم ، وكذلك لا يصح إيقاعها من الأعرابي على وجه يكون متكلما بلغة الفرس ، إذا لم يكن عالما بلغتهم ، وكذلك حكم الصناعات أجمع كالكتابة والصناعة وغيرهما ، لأن جنس ذلك أجمع مقدور للجميع ، ثم إيقاعها على وجه الاتقان والاحكام يتعذر على من لم يكن عالما بتلك الصناعة ، وكذلك الآلة أيضا .
ألا ترى أن الخياط يتعذر عليه الخياطة ، مع كونه قادرا عليها وعالما بها ، إذا فَقَدَ الإبرة ، وكذلك الصانع إذا فقد المطرقة ، وسائر الآلات التي يحتاج إليها ، ولهذا يتعذر علينا الطيران ، وإن كنا نقدر على جنسه ، لأن جنسه إنما هو الأكوان ، وإنما يصح منا لفقدنا الآلة التي هي الريش والجناح ، ونظائره أكثر من أن تعد وتحصى .
فإذا صح ذلك وثبت ، وصح سقوط قول من قال: إنه يتناقض كون الشيء مقدوراً لنا ، متعذرا فعله علينا ، على وجه مخصوص ، فإذا ثبت ذلك جاز أن يكون القرءان معجزا يتعذر فعلُ مثلِه على جميع البشر ، وإن كان جنسه مقدورا لنا .
يكشف ذلك أن فلق البحر جنسه مقدور لنا ، وإن كان يتعذر فعله على ذلك الوجه المخصوص على جميع البشر .
ألا ترى أنه تفريق أجزاء الماء على وجه مخصوص ، وإحداث أكوان مخصوصة ، وذلك جنسه مقدور للبشر .
ألا ترى الله عز وجل لو بعث نبيا وجعل معجزته أنه ينقل بعض الجبال الراسيات عن موضعه لصح ذلك ، وإن كان جنس نقله مقدورا لنا ، لأن نقله إنما هو أكوان تحدث على وجوه مخصوصة ، وإنما المراعى في هذا الباب أنه يحصل أمر نعلم أنه يتعذر فعل مثله على جميع البشر ، سواء كان التعذر للجنس أو للصفة .
ألا ترى أنه لا فرق بين فلق البحر ، وبين قلب العصا حية في هذا الباب ، وإن كان تعذر فلق البحر للصفة ، وتعذر قلب العصا حية للجنس .
فإن قيل: فلم لا يجوز أن يكون ما يدخل تحت مقدور العباد معجزا ، لأن المشاهد له يُجوِّز أن يكون ذلك من فعل بعض مردة الشياطين ، أو من فعل بعض من يعصي من الملائكة ، لأن العلم بأن الملائكة لا تعصي إنما هو بطريق السمع ، ونحن بعد في إثبات السمع ؟
قيل له: لا يجب للناظر أن يشك فيه ، بل يجب القطع على أن الله عز وجل يمنع منه . وذلك أنه لو حصل لكان شبهة لا يمكن حلها . وما جرى من الشبه هذا المجرى يجب على الله عز وجل المنع منها .
فإن قيل: ولم قلتم: إن ذلك يكون شبهة لا يمكن حلها ، بل ما أنكرتم أن يكون ذلك حجة لمن قال: إنه لا يجوز أن يكون المعجز مما يكون جنسه في مقدور العباد ؟!
قيل له: لأن هذا الجنس من الشبهة يصح إيراده فيما ليس يكون جنسه في مقدور العباد ، بأن يقال: يجوز أن يكون بعض الناس ظفر بشجرة إذا قطع غصنها ، وألقى على وجه مخصوص يصير حية ، ويكون ذلك عادة ، ويكون ظفر بشيء إذا مسح به الميت صار حيا من طريق العادة ، ويجري ذلك مجرى الخواص التي تحكى في أشياء .
ألا ترى أن من لم يشاهد حجر المغناطيس ولم يسمع به ، إذا شاهده يحرك الحديد بغير مماسته يُجوِّز كون ذلك معجزا ، وكذلك ما يحكى من الحجر المسمى: باغض الخل ، فقد حكي أنه إذا أُرسِلَ على إناء فيه خل انحرف ، وسقط خارج الإناء ، ولم يسقط في الخل ، وكذلك نظائر كثيرة تحكى وتذكر في الخواص ، وكل ذلك جائز من طريق العقل ، ولا جواب عن ذلك ، إن تعلَّق به البرهمي (1) ، وحاول التوصل به إلى إبطال النبوات رأسا ، إلا ما ذكرناه من أن ذلك لو كان لكان شبهة لا مخلص منها ، فيجب على الله عز وجل المنع منها .
__________
(1) البرهمي نسبة إلى هندي يدعى (برهم) والبهمية طوائف ثلاث: فطائفة تقول: بقدم العالم، وتعترف بمدبر له قديم، إلا أنها تعتقد أن الإنسان غير مكلف بسوى المعرفة.
وطائفة تقول: بحدوث العالم، وتعترف بوجود صانع حكيم، ولكنها تنكر الرسل والكتب السماوية وترى أن لا واسطة بين الله تعالى وخلقه غير العقل.
وطائفة ثالثة تقول: بحدوث العالم ووجود الخالق، ولكنها تؤمن بأن مدبرات العالم: الأفلاك السبعة (البروج الاثنا عشر) ولا تزال هذه النحلة الباطلة قائمة في الهند يعتنقها الكثيرون من أبنائها.
ذكر بعض كتاب الملل والنحل أن من عقائدهم أنهم لا يأكلون البقر وأنهم يغتسلون ببولها. فلعلهم فرقة من الهندوس عباد البقر.
فإن قيل: ما تنكرون على البرهمي إن ادعا أن ذلك ليس بشبهة ، بل هو حجة ، ويوجب إبطال النبوات؟
قيل له: جوابه أنا نبين أن البعثة يجوز أن تصير واجبة ، بأن يعلم الله عز وجل أنها لطف للمكلفين ، فإذا ثبت ذلك فلو كانت واجبة لم يكن لها طريق إلا المعجز ، فكل ما أدى إلى إبطال المعجزات أجمع ، فيجب على الله المنع منه .
فإن قيل: بين هذه الأشياء التي ذكرتم ، وبين ما يكون جنسه مقدورا للعباد ، أن هذه الأشياء لو وقعت عند ادعاء الكاذب النبوة ، لكان الله هو الفاعل لها على وجه يقبح ، والله عز وجل لا يفعل القبيح ، وما يكون جنسه تحت مقدور العباد لو وقع لوقع من مردة الشياطين ، ولا يمتنع وقوع القبائح منهم .
قيل له: لا فرق في هذا الباب بين فعل القبيح والانصراف عن الفعل الواجب ، لأن الله تعالى كما لا يجوز أن يفعل القبيح ، لا يجوز أن يدع فعل الواجب ، لأن كل واحد منهما لا يكون إلا من محتاج أو جاهل ، أو من يكون بالصفتين جميعا ، ويتعالى الله عن ذلك !! وإذا كان هذا هكذا ، فلا فضل في أن يفعل تلك الأشياء عند دعوى الكاذب مع قبحها ، وأن (1) هذا انصراف عن فعل الواجب ، وذلك فعل القبيح ، ولا فضل بينهما ، وأن كل واحد منهما لا يجوز على الله عز وجل .
__________
(1) كذا في المخطوط .