ولا يصح أن يقال: إن القوم مالوا إلى طلب الراحة ، من الاشتغال بالمعارضة ، لأنهم قد باشروا بمعاداته صلى الله عليه وآله أمورا هي أكثر تعبا ، وأشد نصبا ، وأعظم خطرا من المعارضة .
فإنهم بذلوا الأموال والمُهج ، وحاربوا حتى قَتَلوا وقُتلوا ، وفرَّقوا كلمة العشيرة ، وقطعوا الأرحام القريبة ، وواصلوا أولي الأسباب البعيدة ، ولا يخفى على أحد من العقلاء أن المعارضة لو أمكنتهم كانت (1) تكون أقوى مشقة ، وأقرب متناولا ، وأيسر مطلبا ، وأذهب مع الراحة ، وأدنى إلى السلامة .
ولا يصح أن يقال: إنهم آثروا الابقاء على رسول الله صلى الله عليه وآله واحتشموه وكرهوا مكاشفته ، لأن القوم لم يَدَعُوا من قبح معاملته عليه السلام بابا إلا قرعوه ، بل وَلَجُوه . حتى حملوا أَختَانه على طلاق بناته صلى الله عليه وآله ، فقالوا: نشغله بهن حتى لا يتفرغ إلى ما هو فيه ، فأجابهم إلى ذلك عتبة وعتيبة ابنا أبي لهب ، وردهم أبو العاص بن الربيع (2) .
وقالوا لأبي طالب: ندفع إليك فتى قريش وأصبحهم وأفصحهم عمارة بن الوليد بن المغيرة لتتبناه ، وتدفع إلينا محمدا فنقتله . فقال أبو طالب: بئس الرأي رأيتم لي ، آخذ ولدكم للتربية ، وأُسَّلم ولدي للقتل
__________
(1) في المخطوط: كادت . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) سيرة ابن هشام 2/ 306 - 307 .
(1) !! وكتبوا الصحيفة على بني هاشم وبني المطلب على ألا يؤووهم ، ولا ينكحوهم ، ولا ينكحوا إليهم ، وأجلوا كثيرا من أصحابه صلى الله عليه وآله إلى المهاجرة إلى الحبشة وإلى المدينة ، واجتمعوا في دار الندوة يدبرون عليه ، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) } [الأنفال] .
وهذا يسير من كثير مما عاملوه به صلى الله عليه وآله ، بل طلٌ من وابل ، بل وشل من بحر . فكيف يظن بهم أنهم آثروا الابقاء عليه ؟!
ولا يصح أن يقال: إن القوم تركوا المعارضة خوفا له (2) ولأصحابه ، وخشية لهم ، لأن جميع ما قدمنا يدل على أن القوم لم يخافوه ، ولم يحذروا جانبه .
ولا يصح أن يقال: إنهم أعرضوا عن حديث المعارضة استهانة به صلى الله عليه وآله ، وقلة اكتراث بأحواله ، لأن جميع ما قدمناه يبين أن القوم كانوا مهتمين بأمره ، بل كانوا قد جعلوا الاشتغال [به] أوكد مهماتهم ، ثم الحروب التي جرت بينهم وبينه صلى الله عليه وآله بعد مهاجرته إلى المدينة ، توضّح جميع ما قلناه من أنهم لم يحتشموه ، ولم يخافوه خوفا يصرفهم عن إيحاشه ، ولم يستهينوا به استهانة دعتهم إلى ترك الفكر فيه ، والانشغال بأحواله .
__________
(1) تاريخ الطبري 2/ 327 .
(2) في المخطوط: عليه . والصواب ما أثبت .
ولا يصح أن يقال: إن اشتغالهم بالحروب صرفهم عن المعارضة ، وأقطعهم دونها ، وصدهم عنها ، لأنه كان بين مبعثه صلى الله عليه وآله وأول وقعة عظيمة وقعت بينه وبينهم وهي وقعة بدر نحو (1) من خمسة عشر سنة . فأين كانوا طول هذه المدة ؟!
ثم كان بين وقعة بدر ووقعة أحد نحو سنة ، ثم من بعد ذلك أيضا لم تكن الوقائع بحيث لا تنفس ، ولا ترجيىء (2) من الأعنة ، وكثير من تلك الوقائع هم الذين كانوا يبتدأونها .
فهل عدلوا عنها إلى المعارضة لوكانت ممكنة لهم ؟! على أن الحروب لا تمنع من المعارضات ، وهذا واضح .
ولا يصح أن يقال: إنه خفي عليهم أن المعارضة أجدى عليهم ، وأدنى إلى ما طلبوه من توهين أمره ، لما بيناه من قبل أن ذلك مما لا يجوز أن يخفى على المراهقين ، فضلا عن العقلاء ، وأن العلم بذلك من علوم الضرورة .
فإن قيل: ما أنكرتم أن تكون الدواعي دعتهم إلى تكذيبه وإبطال دعواه ، وتوهين أمره دون معارضة إذ كان ذلك غرضهم ومرادهم ؟ فمن أين لكم أن الدواعي دعتهم إلى المعارضة ؟!
قيل: قد علمنا أن الداعي إلى الشرع داعٍ إلى أبلغ ما به يُتوَصَّل إليه سبحانه ، إذ (3) كان ذلك من أيسر الأمور وأسهلها في التوصل إليه
__________
(1) في المخطوط: نحوا . والصواب ما أثبت .
(2) كذا في المخطوط .
(3) في المخطوط: إذا . ولعل الصواب ما أثبت .
. ألا ترى أن من دعاه عطشه إلى شرب الماء فإنه يدعوه إلى استدعائه إن كان ذلك أخف وأيسر ، أو استعبابه إن كان ذلك أدنى وأسهل ، أو اشترائه إن كان ذلك أهون وأقرب .
فإذا ثبت ذلك ، ثبت أن الداعي لهم إلى إبطال أمره وتكذيب دعواه ، وإفساد حاله صلى الله عليه وآله ، كان داعيا لهم إلى المعارضة ، لعلمهم بأنهم لو أتوا بها كانت أبلغ الأشياء في التوصل إلى مرادهم ، مع أنها أسهل الأمور في ذلك وأيسرها .
ويمكن أن يُورَد هاهنا أسئلة ضعيفة تركنا ذكرها ، لوجهين:
أحدهما: ما كان من كراهتنا لتطويل الكتاب .
والثاني: أن ما قدمناه من الابتداءات والأجوبة يأتي عليها ، إذا تأملها المتأمل ، ونظر فيها الناظر .
على أن القرءان لا بد من أن يكون قد وقع على وجه يكون بوقوعه عليه ناقضا للعادة ، أو يكون وقع خلاف ذلك الوجه ، بأن يكون وقع كما يقع سائر الكلام المعتاد ، فلا بد من أن تكون العرب عارفة بذلك ، لأن أحوال الكلام لم تكن تخفى عليهم ، فإن كانوا عرفوه ناقضا للعادة ، فقد بان أنهم تركوا معارضته لتعذرها عليهم ، وإن عرفوه جاريا مجرى الكلام المعتاد ، فلا وجه من أجله يكونون تاركين لمعارضته ، وإذا لم يعارضوه فقد صح أنهم تركوها للتعذر ، لوقوع القرءان على وجه يكون ناقضا للعادة .
ولا يصح أن يقال: إنهم شكوا في حاله (1) ، لأن علمهم بمثل هذا علم ضرورة ، على أنهم لو شكوا كان أقل ما يكون منهم أن يجربوا أنفسهم ، ليحصل لهم العلم به بذلك ، فيعود الأمر إلى ما قلناه ، من أنه لا بد من أن يكونوا عرفوا ذلك وتحققوه .
ولا يصح أن يقال: [إنهم] تركوا معارضته لأنهم وجدوه كسائر الكلام المعتاد الذي كان يجري بينهم دائما في محاوراتهم ومخاطباتهم ، لأن العلم بأنه بخلاف ذلك علم ضروري . ولأن ذلك لو كان كذلك لجرى مجرى أن يدعي النبوة ، ويتحداهم بأنه يأكل ويشرب ويقوم ويقعد ، ويتصرف كما يتصرف غيره ، ويجعل ذلك معجزته صلى الله عليه وآله ، وهذا لا يجوز أن يقع من العاقل الذي يكون غرضه أن يَعظُم في الصدق ، ويُعتَقَد فيه أنه ممن يجب أن يطاع ، وأن يأتمر الخلق لأوامره ، وينزجروا عند زواجره ، لأن ذلك مما يجري مجرى التسوية بالنفس إليه (2) ، [وهذا] يؤدي إلى أن يسخر منه ويستهزأ به ، ويسقط بإيراده من العيون ، وتنحط منزلته ، لأن ذلك مما ينفِّر عنه أصحابه ، ويمكِّن أعداءه من التسلق (3) عليه ، ولأن ذلك لو كان كذلك لاحتج به الأعداء ، وقرعوه وقرعوا أصحابه . وهذا يوضح بطلان قول مَن يتعلق بذلك .
__________
(1) في المخطوط: حال . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) كذا في المخطوط .
(3) التسلق: الصعود . يقال: تسلَّق الجدار: تَسَوَّره .
الكلام في بيان أن القرءان يجب أن يكون معجزا إذا تعذرت معارضته
فإن قيل: فلِمَ قلتم: إن تعذر المعارضة إذا ثبت يكون القرءان معجزا ؟!
قيل له: لأنه قد ثبت أن المعجز هو ما يظهر على بعض الناس ، مما يتعذر الاتيان بمثله على جميع البشر,لحسنه أو لصفة تخصه ، فإذا ثبت ذلك ، ثبت أن الاتيان بمثل القرءان قد تعذر على جميع البشر ، وثبت أنه معجز ، وأنه جارٍ مجرى إحياء الموتى ، وفلق البحر ، وقلب العصا حية ، والمشي على الماء .
فإن قيل: ولم ادعيتم تعذره على جميع البشر ، وإنما بيَّنتم حال العرب ، وتعذره عليهم ؟!
قيل له: قد علمنا أن البشر أجمع ثلاث طبقات:
أحدها: عوام الفرس والهند والروم والزنج ، ومن جرى مجراهم من سائر الأمم ، الذين لا علم لهم بشيء من لغات العرب بتة ، ولا سبيل لهم إلى نظم سطر واحد منها على وجه من الوجوه .
والثانية: هم الذين تعلموا اللغة وتكلفوا معرفتها ، وهم طبقات:
فمنهم: من لم يتعلق منها إلا باليسير الذي لا تأثير له .
ومنهم: من تجاوز ذلك إلا أنه لم يبلغ مبلغا يعد به في الفصحاء ، ولا يتأتى له التصرف في شيء من أقسام الكلام ، على وجه يعد فصاحة وبلاغة .
ومنهم: من تجاوز ذلك إلى أن كاد يناطح فصحاء العرب ، ويباريهم في أقسام المنظوم ، وأصناف المنثور .
والثالثة: هم فصحاء العرب الذين حصلت لهم مزايا الفصاحة طبعا لا تكلفا ، وسجية لا تعمُّلا ، ولا إشكال على أحد في أن الاتيان بمثل القرءان متعذر على الطبقة الأولى ، الذين لا معرفة لهم بشيء من لغات العرب ، والطبقة الذين يلونهم ، وهم الذين أخذوا منها يسيرا لا يؤبه لمثله . والطبقة الذين يجاوزونهم ، إلا أنهم لم يلحقوا بشأو الفصحاء ، ولم يحِلُّوا بواديهم ، وهؤلاء لا يتعذر عليهم صياغة بيت من الشعر ، لكن لا يعد في الفصاحة ، وإنشاء رسالة أو خطبة ، لكن لا يحكم لهم بالبلاغة .
وإنما يقع الاشتباه في حالة الطبقتين الأُخريين ، وهم الذين بلغوا من هؤلاء مرتبة الفصحاء ، ولحقوا بدرجة البلغاء ، وتصرفوا في أقسام الكلام ، ثم فصحاء العرب الذين جاوزوا الفصاحة والبلاغة طبيعة وجِبِلَّة .
وقد بيَّنا تعذر الاتيان به على هاتين الطبقتين بما تقدم ، بما لا فائدة في إعادته ، فإذا ثبت ذلك وثبت أن جميع البشر لا يعدون الأقسام التي
ذكرناها ، ثبت تعذُّره على جميع البشر ، وإذا ثبت تعذره على جميع البشر ثبت أنه معجز على ما بيناه .
على أنه إذا ثبت أنه قد تعذر على فصحاء العرب ، وهم الطبقة العالية في هذا الباب ، فتعذره على الطبقة التي هي دونهم ، وهم سائر الفصحاء مما لا شبهة فيه .
على أنه يمكننا أن نعرف تعذره على هؤلاء بمثل ما أمكن تعذره على العرب ، لأن الأزمنة كلها لم تخل ممن كان يعادي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويناوئ الاسلام ، إما إعتقادا ، أو تقربا إلى من كان يعتقد ذلك ، أو تكسبا به ، حتى استفرغوا في ذلك جهدهم ، واستنفدوا (1) وسعهم على ما تقدم طرف من ذكرهم .
فإذا لم يأتوا به ، صح تعذره عليهم ، ولا يجب أن يظن ظانٍ أن المتأخرين أشد تمكنا في هذا الباب من المتقدمين ، من حيث فرعوا التحسين والتطبيق ، وعطف إعجاز الكلام على صدره ، والاستطراد ، والتشبيه ، والاستعارة ، وما جرى مجرى هذا مما يعد فصاحة . وذلك أن المتقدمين كانوا أعرف بجمع هذه المحاسن من المتأخرين ، وكانوا أشد تمكنا من إيرادها مواردها ، ووضعها في مواضعها ، وإن لم يكونوا وضعوا هذه الأسماء ، وكانوا يَجرُون فيها على طبائعهم من غير تكلف لها ولا تَعَمُّل ، وذلك مما يزيد الكلام حسنا ويكسبه رونقا ، والمعرفة بهذه الأمور على حدها يعرفه المتأخرون ، ووضع الأسماء لها مما لا يصير
__________
(1) في المخطوط: واستنفذوا . ولعل الصواب ما أثبت .
الانسان به أفصح ولا أشعر ولا أخطب . وإنما يصلح به الانسان الفاسد ، ويضم المتشعب ، ويسدد المختل .
لهذا تجد من يعرف كل ما ذكرنا ونعتنا ، ويتصوره ويتحققه , ويفصل بين غثه وسمينه ، ومستحسنه ومسترذله .
ثم إذا أراد أن يعمل قصيدة ، أو يبتدئ خطبة ، أو ينشئ رسالة ، عجز عن إنشائها .
والمتقدم الذي لم يحصل له العلم بهذه الأسماء والأوصاف .
وهذا يجري مجرى العلم بالعروض وألقابه .
ألا ترى أن المتقدم في ذلك لا يوجبه التقدم في الشعر .
ألا ترى أن الشعراء المتقدمين من جاهلي أو مخضرمي أو إسلامي ، كان قبل الخليل لم يعرف شيئا من ذلك ، ثم من جاء بعدهم لم يلحق شأوهم من حيث عرف ذلك ، بل أن ينشأ بعدهم مَن ضرب في جنس الشعر بسهم ، فلِطبعٍ أوتي ، لا لمعرفة بهذه الأمور ، فبان بجميع ما بيَّنا أن المتأخر الذي تكلف العلم باللغة ، وتعلم المحاسن والمساوئ بالتعمُّل ، لا يجب أن يوفى في هذا الباب المقصود على المتقدمين من فصحاء العرب ، الذين جروا على طريقة الفصاحة في منظوم كلامهم ومنثوره طبعاً وسجية ، ولهذا تجد فيمن يُعدُّ في الشعر مفلقا من إذا ترسَّل اختل اختلالا ظاهرا ، وفي المتقدم في الرسائل من إذا حاول النظم بَعُدَ بُعَداً متفاوتا ، وهذا يكشف أن التكلف والتعمل لا يُبلِغان المرء طبقة الفصحاء ، ولا يُلحقانه شأو البلغاء ، ولهذا تجد المكثر في اللغة ، والعلم
بأقسام الفصاحة ، والمعرفة بمحاسن النظم والنثر ومساوئهما ، إذا لم يكن له طبع في الشعر والترسل ، يسقط إذا حاول الشعر أو الترسل - عن درجة المطبوع فيهما ، وإن كان مقلا في جميع ذلك ، وبضاعته منها مزجاة - سقوطا ظاهرا ، أو يهبط عن رتبته هبوطا بيّنا ، كالخليل بن أحمد,ومن نحا نحوه من العلماء ، الذين لم يكونوا أولي طبع .
فإن قيل: لوكان القرءان معجزا لأنه لم يُعارَض ولم يؤت بمثله ، لوجب أن يكون المجسطي وأقليدس والعروض (1) كل واحد منه معجزا يدل على نبوة من أتى به . وإذ قد ثبت بطلان كون هذه الكتب معجزا ، فيجب أن يبطل كون القرءان معجزا على ما ادعيتموه !!!
قيل له: هذا كلام من لم يعرف وجه استدلالنا فحرَّفه (2) ، ولم يذكره على جهته ، وألزم عليه ما لا يلزم ، ونحن نبيِّن ذلك بعون الله عز وجل وجل ، ونكشف عن سقوط هذا السؤال .
اعلم أنَّا لم نقل: إن القرءان معجز لأنه لم يؤت بمثله قط ، بل لأنه تحدى به ، ولم يؤت بمثله ، مع سائر الشروط التي ذكرناها ، وكتاب المجسطي وأقليدس ، وما جرى مجراهما من الكتب ، لا يصح أن يقع التحدي به ، لأنه إن تعذر على غير من أتى به يكون تعذره لأحد وجهين:
__________
(1) المجسطي كتاب بطليموس في علم النجوم ، وأقليدس كتاب في علم الهندسة ، والعروض: أوزان الشعر التي وضعها الخليل .
(2) في المخطوط: فحرمه . ولعل الصواب ما أثبت .