وجد رومية حسناء أن يكون استلذاذه للزنجيات القباح أشد ، وهذا هوس لا يظنه عاقل !!
فأما مد الحنجرة به ، فأي تأثير له في مواقع الكلام ؟! أَمَا يعلم هذا الجاهل: أن الانسان قد يسمع كثيرا من الأبيات الملحنة من المغنين والقوَّالين ، ثم لا يخفى عليه إذا كان من أهل الصناعة الفرق بين جيدها ورديئها ، وفصيحها ومستَرذَلها ، ثم لا يخفى عليه الفرق بين الرديء الذي سمعه ملحنا ، وبين الذي لم يسمعه قط ملحنا ؟ فأي تأثير في هذا الباب لمد الحنجرة ؟لولا أنه كما قال عزوجل: { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) } [الحج] .
فإن قيل: فهبكم قد عرفتم التفاوت الذي بين القرءان ، وبين كلام هذا الانسان ، وعلمتم أنه لا يصح أن تكون معارضة للقرآن للوجوه التي ذكرتموها ، والأمثال التي ضربتموها ، فكيف تعرفه العامة والذين لا يعرفون ما ذكرتم وبينتم ؟!
قيل لهم: طريق معرفتهم هو أنهم يعرفون الأخبار التي تتوافر عليهم . إن مثل (1) أهل العراق ومن نحا نحوهم ، وكذلك الفرس وأشباهم ، تقصر فصاحاتهم وبلاغاتهم في منثور الكلام ومنظومه عن فصاحة العرب من أهل البادية وبلاغاتهم . إذا عرفوا ذلك وعرفوا عجز العرب عن الاتيان بمثل القرءان بما نبينه عرفوا عجزَ مَن دونهم ، لأنه لا يجوز أن يعجز عن الشيء من يكون في الطبقة العليا من التمكن ، ولا يعجز عنه
__________
(1) في المخطوط: مثلا . ولعل الصواب ما أثبت .
من يكون في الطبقة الدنيا ، فيحصل لهم العلم بهذا الاعتبار أن ما أتى به هذا الجاهل لا يصح أن يكون معارضا للقرآن ، وأن القرءان معجز . والحمد لله رب العالمين على ذلك .
- - -
الكلام في بيان أن الإعراض عن المعارضة إنما كان للتعذر
فإن قيل: ولم ادعيتم أن العرب كفَّت عن معارضة القرءان لتعذرها عليهم ، وما أنكرتم أن يكونوا كفوا عنها وتركوها لبعض أغراض كانت لهم ، فإن الناس قد تصرفهم الصوارف عن كثير مما يتمكنون من فعله ؟
قيل له: قلنا ذلك لأنهم كفوا عن المعارضة وتركوها وعدلوا عن الاشتغال بها ، مع ما كان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم من التحدي لهم على ما بيناه ، مع توفر دواعيهم لتوهين أمره ، وإظهار ما كانوا يدَّعون من افترائه (1) صلى الله عليه وآله وسلم وحاشاه من ذلك .
وقد علمنا: أن العقلاء إذا دُعوا إلى أمر يكرهونه ، يهون عليهم لدفعه وإبطاله بذلُ أموالهم وأنفسهم ، وكان من يدعوهم إلى ذلك يدعوهم لحجة يبرزها ويدعيها ، وكانوا متمكنين من إيراد ما يدحضها ويبطلها ، ويكشف عن ضعفها ووهنها ، من غير ضرر يمسهم ، أو مشقة عظيمة تلحقهم ، فلا بد من أن يأتوا به ، ومتى لم يأتوا به ، دل على أنهم غير متمكنين من الاتيان به .
__________
(1) في المخطوط: اقترابه . ولعل الصواب ما أثبت .
ألا ترى أن واحدا لو جاء وادعا النبوة في قوم ، وهم له كارهون ، ولتكذيبه مجتهدون ، فقال لهم: معجزي أن مَن كلمته منكم في هذا اليوم لا يمكنه أن يجيبني ، ثم أخذ يكلمهم طوال النهار من غير أن يجيبه أحد منهم ، مع وفور بواعثهم على توهين أمره ، وتنفير أصحابه عنه بإظهار كذبه ، دلنا ذلك على أن جوابه قد تعذَّر عليهم ، وأن ذلك معجز له ، وهذا مما لا يخيل على أحد أنصف نفسه أنه على ما قلنا .
وجملة هذا الباب: أن كل مَن علمنا من حاله أنه لا يفعل فعلا ما ، مع توفر الدواعي إليه ، وقوة البواعث عليه ، ومع ارتفاع الموانع عنه ، وفُقدِ الحواجز دونه ، نعلم أنه (1) لم يفعله إلا لتعذره عليه . ولولا ذلك ، لم يكن لنا طريق من جهة الاكتساب يُتوصَّل به إلى العلم بتعذر شيء على أحد . وفيما ذكرناه وأوضحناه دليل على أن معارضة القرءان كانت متعذرة على العرب .
فإن قيل: فأنتم بنيتم كلامكم هذا على أن دواعيهم كانت متوفرة إلى ما ذكرتموه . فدلُّوا عليه .
قيل له: مِن أوضح ما يدل على قوة دواعي المرء إلى أمر من الأمور ، يُعرف من حاله أنه قد بذل لطلبه ونيله والتوصل إليه ، أعز الأشياء عليه . وقد علمنا أن أعز الأشياء على الانسان: النفس ، والمال ، والأرحام .
__________
(1) في المخطوط: أن . ولعل الصواب ما أثبت .
ووجدنا مشركي العرب من قريش وغيرهم قد بذلوا الأنفس والأموال ، وقطعوا الأرحام ، لمعاداة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولإدخال الوهن عليه ، وإبطال ما كان يدعيه من النبوة ، وبذلُ هذه الأمور لا تصح من العاقل لإبتغاء أمر وطلب حال ، إلا إذا كانت دواعيه إليه ، وبواعثه عليه ، تكون قد بلغت في القوة مبلغا عظيما ، حتى قاربت حد الإلجاء وإن لم تكن (1) بلغته .
على أن الأسباب المقوية للدواعي والبواعث كانت حاصلة ، فلا بد من حصول قوتها ، لأن أقوى الدواعي أن ينظر الانسان إلى نظرائه في النسب ، ويدعي عليهم الرئاسة ، وأنه يجب عليهم (2) الإنقياد له ، والخضوع لأوامره ونواهيه فيما يحكم عليهم ولهم ، في أنفسهم وأموالهم وأهليهم وذراريهم ، مع ذمه من خالفه منهم فلم يتبعه ، ولم ينقد له ، وتكفيره إياهم ، وذم أديانهم ، وما كان عليه آباؤهم وأسلافهم ، من غير رئاسة كانت له عليهم ، ولا زيادة في مال أو جاه أو ملك يتميز به منهم ، بل يكون في القوم من يزيد عليه في كثير من الأحوال ، ثم تكون أحواله مع ذلك في ضمان (3) القوة ، وآخذة في المزيد ، وأحوال القوم آخذة في جانب التراجع ، ماضية في حيز التهافت ، مع حصول تلقيهم بالامكان لجميع ما ادعاه ودعاهم إليه وشدة امتعاضهم لذلك ،
__________
(1) في المخطوط: يكن . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: لهم . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) كذا في المخطوط .
مع أن القوم يُعرفون بالعصبية ، وشدة الحمية . والقرءان مما كانوا يعتقدون أن عليهم فيه سُبة وعارا ، وكل ما ذكرناه كانت أحوال القوم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فدل ذلك على قوة دواعيهم إلى ما ذكرنا ، ولم يجز مع ذلك أن لا يقع منهم (1) معارضة القرءان لولا تعذرها عليهم .
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون القوم خَفيَ عليهم أن معارضة القرءان أبلغ الأشياء في إبطال دعواه ، وإزالته عما كان يتوخاه ، فأعرضوا عنها إلى ما سواها ، واشتغلوا بما عداها ؟!
قيل له: هذا لا يجوِّزه مَن عرف أحوالهم ، لأنهم كانوا أعرف الأمم بمواقع المخاطبات , ومذاهب المعارضات ، إذ تلك من عاداتهم السالفة ، وسجاياهم الخالفة (2) .
ولا يجوز أن يكون خفي عليهم أن معارضته لو تمكنوا منها تكون أبلغ الأشياء في توصُّلهم إلى مرادهم فيه , لأنه صلى الله عليه وآله لم يكن يدعي ما كان يدعيه لتمكنه من مال أو سلطان أو اقتدار ، أو تعزُّز بشريعة يصدرون عن أمره فيما يمثله لهم من محاربة عدو ، أومعاونة ولي ، وإنما كان يدعي أنه رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأن شعاره ودثاره الصدق ومجانبة الكذب ، ومن يكون كذلك لا
__________
(1) في المخطوط: ينفع منه . والصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: الحالفة . ولعل الصواب ما أثبت .
يخفى على العقلاء أن أبلغ الأشياء في تبديل حاله ، وتفريق أصحابه ورجاله عنه ، إظهار كذبه فيما يدعيه ويقوله .
وهب أن ذلك يخفى على الواحد والاثنين لغفلة تعرِض - مع تعذر ذلك - كيف يجوز أن يخفى ذلك على العدد الكثير ، والجم الغفير ؟!!
وهب أن ذلك يخفى مدة من الزمان يسيرة ، كيف يجوز أن يخفى ذلك ثلاثا وعشرين سنة ؟!
وهب أنهم ظنوا في أول الأمر أنهم يقمعونه بالحرب والقتال . كيف يظنون ذلك بعد ما كشفت لهم تلك الحروب عن قوة أمره ، وضعف أمرهم ، بل قتل كثير من صناديدهم وساداتهم حربا وصبرا ، وسبي كثير من ذراريهم ، ونفي كثير منهم عن أوطانهم ؟ وهذا أوضح من أن يحتاج له إلى تطويل الكلام !!
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون ذلك خفي عليهم ، لأنهم كانوا إخوان الحروب ، وأصحاب الغارات ، ولم يتواتر أن ضربوا في الجدل وطرائقه بسهم ، ولا ثبت لهم في ذلك قدم ، ولم يكن النظر في الديانات ، والبحث عن صحيحها وسقيمها ، والتنقير عن الطرق المؤدية إلى الفصل بين الحجج والشُّبه من عاداتهم ؟!
قيل له: هذا ما لا يجوز أن يخفى عليهم,لأن علمهم بالمعارضات وطرقها كان أقوى علومهم ، ومعرفتهم بها أكثر معارفهم ، وما يجري هذا المجرى يكون العلم به ضروريا ، ثم العلم بأن من ادعا حالا من الأحوال ، واعتصم لصحته بأمر من الأمور ، فأقوى الأشياء في إيضاح
كذبه ، والإبانة عن إفترائه وتقوُّله ، هو تبيين فساد ما اعتصم به ، وسقوط ما التجأ لتصحيح دعواه إليه ، من العلوم الضرورية التي يشترك فيها العقلاء , والمراهقون الذين قاربوا كمال العقل ، وإن لم يكونوا بلغوه .
ولهذا ترى المختلفين في قيمة سلعة إذا ذكر المغالي بها سلعة على صفة ، يجب أن يغالي بقيمتها من أجل تلك الصفة التي يجد (1) المخالف له في ذلك أن يطعن في تلك الصفة وينازع فيها ، ولا يشتغل بغير ذلك . وتجد الصبيين إذا ادعا أحدهما أنه أحسن (2) صراعا من الآخر لوجه يورده ، ترى المباري له ينازعه في تلك الصفة يحاول إيراد ما يمنعه من الاحتجاج بها ، ثم تجد أحوال أصحاب المهن من الصناعات ، والمشتغلين بالزراعات ، يستوون فيما ذكرناه ، ويتبارون فيما حكيناه ، فإذا ثبت ذلك بان أن ما ادعوا (3) خفاءه على العرب من أحوال المعارضات ، باطل لا يدعيه عاقل .
على أنهم بعد مهاجرة النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة قد خالطوا أهل الكتاب ، واستعانوا بهم ، ولهذا انضم قريش وغطفان بعضها إلى بعض ، وانضم اليهم اليهود الذين كانوا حول المدينة ، يوم الأحزاب ، واجتمعوا وتناصروا ، وكان الساعي في ذلك والجامع
__________
(1) في المخطوط: تحد . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: أحدهما أمرا أحسن . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: ذلك بأن ما ادعوا . ولعل الصواب ما أثبت .
لشملهم ، والمؤلف بينهم حيي بن أخطب ، وهو القائل لرسول الله صلى الله عليه وآله يوم قريظة حين قُدِّم لضرب عنقه: (( يا محمد ما لمت نفسي في عداوتك )) (1) .
واليهود كانوا يتعاطون النظر في الديانات ، وكذلك النصارى ، فهلا تهيأ لهم من ذلك ما خفي على مشركي العرب ؟ وهلا اهتموا (2) بها - أعني اليهود والنصارى - إذ كان فيهم الفصحاء والبلغاء وأرباب الألسن ، لولا علمهم بتعذرها عليهم .
على أن ما روي عن الوليد بن المغيرة ، وعتبة بن ربيعة ، وأمية بن خلف فيما تقدم ذكره ، يدل على أن القوم كانوا فطنوا لذلك ، ولم يكن خفي عليهم ، وكانوا قد صرفوا همهم إلى الاشتغال به ، فبان أن الذي أوجب كفهم هو التعذر .
وإنما كان لسهوٍ عرض لهم ، وخطأ في التدبير اتفق عليهم ، فقد يعرض السهو فيما يكون العلم به ضرورة ، ويتفق الخطأ والذهاب عن الرأي في كثير من التدبير .
ولهذا تجد الخطأ يكثر في تدبير العقلاء في الحروب والسياسات ، والأمور العامة والخاصة .
قيل له: إن الذي يجري هذا المجرى من الخطأ والانحراف عن الصواب ، إن اتفق يتفق للواحد والاثنين ، والمرة بعد المرة .
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه5/367 (9737) . من حديث طويل .
(2) في المخطوط: اهتم . ولعل الصواب ما أثبت .
فأما أن يكون العدد الكثير من العقلاء ، تمر عليهم السنون ، وتكرُّ عليهم الأعوام ، وهم على ضربٍ من السهو فيما يكون العلم به ضرورة . ولا يتنبهون عليه ، ولا يتنبه عليه واحد منهم ، على مر الزمان ، وتطاول الأعوام ، فذلك مما يستحيل ، ولا يجوز توهمه .
فإن قيل: إن القوم كانت لهم صوارف صرفتهم عن الاشتغال بالمعارضة . فقابلت تلك الصوارف تلك الدواعي التي دعتهم ، ولا يمتنع في الدواعي والبواعث أن تقابلها (1) الصوارف ، فلا يحصل الفعل الذي دعت الدواعي إليه ، وإن كان ممكنا غير متعذر (2) ؟!
قيل له: لا سبب إلى ادعاء صوارف مجهولة ، ولا صوارف غير معلومة . لأن ذلك يؤدي إلى أن لا يمكن الفصل بين ما يتعذر فعله علينا ، وما لا يتعذر .
فإذا ثبت ذلك ، فالصوارف المعلومة لا تخلو من وجوه نذكرها:
إما أن تكون طلبتهم الراحة ، وفرارهم من التعب الذي يلحقهم بالاتيان بالمعارضة ، أو إيثارهم الابقاء عليه صلى الله عليه وآله حشمة له ، وكراهة لمكاشفته ، واستشعارهم خوفه وخشيته ، واستهانتهم به ، واشتغالهم بالحروب ، أو ظنهم أن غير المعارضة أجدى عليهم ، وأدنى إلى مرادهم .
__________
(1) في المخطوط: يقابلها . ولعل الصواب ما أثبت .
(2) في المخطوط: معتذر . والصواب ما أثبت .