وفي أيام المأمون ظهر الإلحاد وظهر الكلام في نصرة (( المانوية )) (1) و (( الديصانية )) وبالأخيرة صُنِّف (( الدامغ في مطاعن القرءان )) واختلف في مصنفه .
__________
(1) المانوية نسبة إلى ماني بن فاتك، مؤسس المانوية، ولد بجنوبي بابل نحو سنة (216م) أي بعد ميلاد المسيح عليه السلام، واختلف في أصله، إلا أن أقرب للصواب أنه كان فارسي الأصل، وتربى تربية دينية، هيئته فيما بعد إلى ادعاء النبوة هو في سن صغيرة في الرابعة والعشرين من عمره. أما عن أسباب ادعائه النبوة في هذه السن وبواعث ذلك فهو أمر يصعب معرفته أو التكهن به، لأن أغلب المراجع التي أرخت له تقف عند أسباب ادعائه للنبوة، إلا أن الظاهر من ذلك هو أن ميوله الشخصية وبيئته والتربية الدينية التي تلقاها قد أثرت كثيرا في ذلك. الموسوعة الفلسفية/417.
وشرع يبشر بالمانوية وقصد الهند، ولما ارتقى شابور عرش فارس (241م) استدعاه، لكن دعوته لاقت معارضة شديدة من كهنة الزرادشتية، فلما نصب بهرام بن شابور ملكاً قضى بإعدامه سنة (272م).
وتعتبر المانوية فرقة غنوصية مسيحية، وهي من أخطر الدعوات على العقيدة المسيحية والأفكار التي تعرضت لها منذ بشر بها المسيح عليه السلام، بل تعتبر من أطول هذه الدعوات التي أثرت فيها، إذ استمرت من القرن الثالث الميلادي حتى القرن الثالث عشر.
انتشرت المانوية وشاعت واعتنقها الكثيرون في سوريا وآسيا الصغرى والهند والصين ومصر وبلاد البلقان وإيطاليا وفرنسا، وكان القديس أوغسطين نفسه مانويا لبعض الوقت.
وتقوم عقيدة المانوية على ثنائية الإله، وهي أهم فكرة في هذه العقيدة، فهناك إله للنور وإله للظلمة، والأول إله للخير والخصب والثمار، والثاني إله للشر والدمار.

وصنف ابن الروندي (( الفريد )) في الطعن على نبوة نبينا صلى الله عليه وعلى آله ، والقدح في معجزاته , غير خائفٍ ولا متحاش .
وصنف (( التاج )) في قدم العالم .
و (( الزمرد )) في إبطال النبوات ، وإذا كانت الأحوال على ما وصفنا ، فكيف يظن: أن معارضة القرءان لو كانت ، يخفى نقلها ، سيما في زماننا هذا .
والباطنية قد اتسعت أحوالهم ، وكثر بذلهم الأموال على الاستدعاء إلى ما هم عليه ، من الجحد للتوحيد والنبوءات ، فلو وجدوا سبيلا إلى ذلك لحصَّلُوه بما لهم من طارف أو تليد (1) .
__________
(1) الطارف من المال: المستحدث . والتليد: المال القديم الأصلي الذي ولد عندك .

وبمثل هذه الطريقة يتبين أن معارضة القرءان لو كانت ممكنة في شيء من الأعصار التي هي بيننا وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله لأتي بها ، ولم يكن دونها مانع ولا حاجز .
فإن قيل: فقد حكي عن مسيلمة (1) ، وطليحة الأسدي (2) ، وبالأخير عن ابن المقفع ، فصول عدة ادعي أنها معارضة للقرآن ، فما قولكم فيه ؟!
قيل له: أول ما في هذا أنه مما يدل على أن المعارضة للقرآن لم تقع ، لأنها لو وقعت لنقلت ، كما نقلت هذه الفصول التي ذكرتها ، ولم يمنع منها مانع ، كما لم يمنع من نقل هذه الفصول مع ما فيها من الركاكة والسخافة في النظم والوضع .
__________
(1) مسيلمة بن ثمامة بن كبير الحنفي الوائلي ، متنبئ ، من المعمرين ، في الأمثال: أكذب من مسيلمة . ولد ونشأ باليمامة المسماة اليوم: بالجبيلة بقرب العيينة في نجد . تلقب في الجاهلية بالرحمن . وعرف برحمان اليمامة ، وفد مع قومه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد فتح مكة ، إلا أنه تخلف مع الرحال خارج مكة ، وهو شيخ هرم ، فأسلم الوفد ، وذكروا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مكان مسيلمة ، فأمر ل‍ه بمثل ما أمر به لهم ، وقال: ليس بشركم مكانا ... لما رجعوا إلى ديارهم كتب مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (( من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله . سلام عليك ، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشا قوم يعتدون )) . فأجابه صلى الله عليه وآله وسلم: (( بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى مسيلمة الكذاب ، السلام على من اتبع الهدى . أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين )) ، قاتله المسلمون بقيادة خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر ، فقتل سنة (12هـ) . ولا يزال في نجد من ينتسب إلى بني حنيفة الذين تفرقوا في أنحاء الجزيرة .
(2) طليحة بن خويلد الأسدي ، ادعا النبوة ، وارتد بعد أن وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وفد من قومه في السنة التاسعة للهجرة ، ثم أسلم في خلافة عمر ، توفي سنة ( 21هـ ) .

وجملة الكلام في هذا أنها تنقسم قسمين:
إما أن تكون كلاما مسترذلا لا ينحط عن كلام المتوسطين في العربية ، من أهل هذا العصر والأعصار التي كانت قبله . فكيف أن تبلغ مرتبة كلام فصحائهم ، [و] ما جرى هذا المجرى . لا يخيل (1) على أحد أنه ليس يجوز أن يظن به أنه معارِض للقرءان , كما لا يجوز أن يظن أن أشعار الحبر الوردي تصلح أن تكون معارضة لأشعار امرئ القيس ، والنابغة ، أو الأعشى ، أو يكون المورد له أخذ ألفاظ القرءان فقدَّم منها البعض ، وأخَّر البعض ، وزاد فيها ونقص منها . ومثل هذا لا يعد معارضة ، لأنه لو عُدَّ معارضة لكان لا يتعذر على المفحَم (2) إذا عرف وزن الشعر أن يعارض ديوان امرئ القيس ، وسائر الشعراء الفحول من القدماء والمحدثين - على ما نبينه من بعد - ونحن نذكر تلك الفصول ونبين صحة ما قلناه .
- - -
__________
(1) لا يخيل: لا يُظن .
(2) المفحَم: العيي ، والذي لا يقول الشعر .

[ قرآن مسيلمة الكذاب ]
فمن ذلك ما حكى عن مسيلمة الكذاب أنه قال: (( والليل الأطخم ، والديب الأدلم ، والجزع الأزلم ، ماهتكت أسيد من محرم )) .
وقال: (( والليل الدامس ، والذئب الهامس ، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس )) .
وكان يقول: (( والشاء وألوانها ، وأعجبها السود وألبانها ، والشاة السوداء ، واللبن الأبيض ، إنه لعجب محض ، وقد حرم المذق ، فما لكم لا تجمعون )) .
وقال: (( ضفدع بنت ضفدعين ، نقي ما تنقين ، أعلاك في الماء وأسفلك في الطين . لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين . لنا نصف الأرض ، ولقريش نصفها . ولكن قريشا قوم يعتدون )) .
وقال: (( والمدريات (1) زرعا ، والحاصدات حصدا ، والذاريات قمحا ، والطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، و الثاردات ثردا ، واللاقمات لقما ، إهالة وسمنا ، لقد فضلتم على الوبر ، وما سبقكم أهل المدر . ربعكم فامنعوه ، والمعتر فآووه ، والباغي فناوءوه )) (2) .
__________
(1) كذا في المخطوط ، ولعلها: المذريات .
(2) عن قيس (( جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إني مررت بمسجد من مساجد بني حنيفة فسمعتهم يقرأون شيئا لم ينزله الله ، الطاحنات طحنا ، العاجنات عجنا ، الخابزات خبزا ، اللاقمات لقما ، قال: فقدم ابن مسعود بن النواحة إمامهم فقتله واستكثر البقية ، وقال: لأجزرهم اليوم الشيطان ، سيروهم إلى الشام حتى يرزقهم الله توبة ، أو يفنيهم الطاعون )) .
قال: وأخبرني إسماعيل عن قيس بن أبي حازم أن ابن مسعود قال: (( إن هذا لابن النواحة ، أتى رسول الله صلى الله عليه وآله سلم وبعثه إليه مسيلمة ، فقال النبي صلى الله عليه وآله سلم: لو كنت قاتلا رسولا لقتلته )) . رواه ابن أبي شيبة في مصنفه 6/439 (32743) ، والطبراني في معجمه الكبير 9/194 (8956) .

وهذه الفصول أبين سخافة ، وأظهر ركاكة ، من أن يحتاج إلى ذكرها في كتابنا هذا ، على أنها ليست مما فيه شبهة على أحد سمعها ، لكنا ذكرناها ليتعجب منها المتعجب !! وليعلم أنه لو كانت للقرآن معارضة في الحقيقة لنقلت ، كما نقل هذا الكلام السخيف الذي لو أراد بعض المتعلمين - الذين تكون بضاعتهم في اللغة مزجاة (1) - إيراد أسجاع في هذا المعنى لم يرض لنفسه بمثل هذا .
والرجل - أعني مسيلمة - وإن كان كاذبا وقحا ، فإنه كان رجلا من العرب ، ولم يبلغ به جهله إلى أن يدعي أنه يعارض بمثل هذا الكلام القرءانَ ، لأنه لو فعل ذلك كان يفتضح بين قومه ، وهو لم يوردها على أنها معارِضة ، وإنما كان يوردها على أنها منزَّلة عليه ، وليس كل ما يقصد أن يدعا فيه أنه منزل من عند الله يمكن أن يقال فيه: إنه معارَضة للقرآن ، لأنا لا ندعي إعجاز القرءان من حيث أنه منزل من عند الله تعالى فقط ، بل لأوصاف أخر تخصه .
__________
(1) مزجاة: يسيرة ناقصة .

ألا ترى أنه لا شك أن التوراة والانجيل والزبور كانت منزلة من عند الله ، وإن لم يثبت فيها الاعجاز .
ومن كلام هذا المهرص (1) الكذاب: (( ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى )) .
وحكى: (( لقد منَّ الله على الحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى ، من بين صفاق وحشا ، وأحل لها الزنا )) . وهذا الكلام وإن كان سخيفا ، فإنه أسفـ[ـه] مما تقدم من كلامه . والعلة فيه: أنه أدخل فيه شيئا من ألفاظ القرءان ، لأنه أخذ الابتداء من قوله: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) } [الفيل] ، فجعل (( الحبلى )) مكان { أَصْحَابِ الْفِيلِ (1) } .
وكذلك فيما حكى من قوله: (( لقد منَّ الله على الحبلى )) ، أخذه من قول الله عز وجل: { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ } [البقرة: 164] . فجعل (( الحبلى )) مكان { الْمُؤمِنِينَ } .
وقوله: (( أخرج منها نسمة تسعى )) من ألفاظ القرءان إلا قوله: (( نسمة )) ، فاكتسى هذا الفصل ضربا من الزبرج (2) ، لما فيه من ألفاظ القرآن .
واعلم أن الشاعر يدخل لفظة من القرءان في بيت من الشعر ، أو يدخلها الكاتب في فصل من كتابه ، والمُحاوِر في فصل من محاورته ،
__________
(1) كذا في المخطوط ، ولم أقف ل‍ه على معنى يتوافق مع السياق في كتب اللغة .
(2) الزبرج: الذهب ، وكل شيء حسن: زبرج .

فيكتسب ذلك البيت وذلك الفصل من العذوبة والرونق ما يصيِّره غُرة (1) في سائره ، وهذا من عجيب ما اختص به القرءان ، وفيه دلالة واضحة أنه مباين لكلام البشر والحمد لله .
وقد رأيت بعض من كان يتعاطى الفصاحة ، ويدعي البلاغة من أهل عصرنا هذا ، يعجب بفصل يحكيه عن طليحة الأسدي ، وهو (( ما يفعل الله بتعفير خدودكم ، وفتح أدباركم ، اذكروا الله أعفة قياما )) .
وكان يقول: (( ما هذا بكلام رذِل )) . وكان يوشح به ما كتب ، أُقدِّره أنه منطوي عليه (2) .
وهذا الفصل إنما صار له يسير من الرونق ، لأنه أدخل فيه شيئا من ألفاظ القرءان ، لأن الله تعالى يقول: { مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ } [البقرة: 147] ، فأخذه ، وأخذ (3) (( اذكروا الله أعفة )) من قوله تعالى: { يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا } [آل عمران: 191] ، ومن قوله تعالى: { اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) } [الأحزاب] .
على أن هذا القدر وبأضعافه لا يمكن أن يعرف حال الكلام ، وحال المتكلم ، كما أن بالبيت الواحد وبالبيتين لا يمكن أن يعرف حال الشاعر ، و بالفصل الواحد وبالفصلين وبالثلاثة لا يمكن أن يعرف حال الكاتب والكتابة . وإنما يمكن أن يعرف ذلك إذا امتد نَفَس الكلام
__________
(1) الغُرة: أول كل شيء وأكرمه .
(2) كذا في المخطوط . ولعله يريد: أن هذا الرجل معتقد لنبوة طليحة الأسدي .
(3) في المخطوط: فأخذ هو أخذا . ولعل الصواب ما أثبت .

، وظهر التصرف فيه ، ولهذا نقول: إن بهذا القدر من القرءان لا يمكن أن يعرف إعجازه ، لأن هذا القدر من القرءان لا يمكن أن يعرِّف إعجازه , لأن هذا القدر وأضعافه قد يتفق فيه ما لا يمكن لصاحبه الاستمرار عليه .
فأما ما ذكر عن ابن المقفع في هذا الباب فهو أكثر ، ونحن نذكر طرفا منه وننبه به على نمطه ، فإني رأيت كثيرا من الجهال يدخلون به الشُّبَه على أنفسهم . فمن ذلك: (( وأما الذين يزعمون أن الشك في غير ما يفعلون ، وتنتهي الثقة إلى ما يقولون ، أولئك ممن غضب عليهم ربهم ، إنه خبير بما يعملون ، الذين اتخذوا من دوني نصيرا ، أولئك لا يجدون وليا ولا هم ينصرون ، ومنهم من يتخذ أندادا من دون الله رجما بالغيب ، أولئك وراءهم شر ما يظنون )) .
فانظروا - رحمكم الله - إلى صفاقة هذا الانسان ، كيف جاء إلى ألفاظ القرءان فحرَّفها عن مواضعها ، وأوهم أنها من كلامه ، فأفسد وضعه ونضمه ، وما أشبهه ، إلا ما حكى لي بعض أهل الأدب أنه أنشد قول المتنبئ:
بقائي شاء ليس هم ارتحالا ... وحسن الصبر زموا لا الجمالا (1)
...
فقال: أخذ قول أبي تمام فنسخه وفسخه ومسخه ، يعني قوله:
قالوا الرحيل فما شككت بأنها ... نفسي عن الدنيا تريد رحيلا (2)
__________
(1) لم أقف عليه .
(2) البيت لأبي تمام . ورد في المخطوط: شككت بأنه . . . انظر ديوانه .

فأبلغت الحكاية المتنبئ , فقال: هلا وهبه لقولي:
وحسن الصبر زموا والجمالا

وابن المقفع أسوأ حالا من المتنبئ ، لأنه ليس لكلامه من الحسنات ما يوهب له السيئات . فتأملوا - رحمكم الله - كيف جاء إلى ألفاظ القرءان ، لأن { غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } [المجادلة: 14] (1) من ألفاظ القرءان ، وأنه { خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) } [المجادلة] من ألفاظ القرءان ، وكذلك قوله: (( أولئك لا يجدون وليا ولا هم ينصرون )) كله من ألفاظ القرءان ، إلا أنه حرَّف وغيَّر وأفسد اللفظ ، وسلبه حسنه بتغيير النظم .
وكذلك قوله: (( ومنهم من يتخذ من دون الله أندادا رجما بالغيب أولئك وراءهم )) كل ذلك من ألفاظ القرآن . وليس له من الزيادة في هذا إلا قوله في أوله: (( يزعمون أن الشك في غير ما يفعلون )) ، وهذا كلام مبتذل (2) من ألفاظ العامة والسوقة ، لأن إرادتهم نفي (3) الشك عما كانوا يفعلون ، فلم يصرح به ، وإنما أثبته في غير ما يفعلون .
ولعمري إن الفصيح قد يعدل عن التصريح إلى التلويح ، لكن على وجه يكون أبلغ من التصريح ، وبألفاظ تكون أجزل من ألفاظ التصريح ، ويكون ذلك لغرض صحيح . وذلك مثل قول الله تعالى: {
__________
(1) في المخطوط: { غضب عليهم } . ولا يوجد بهذا اللفظ .
(2) في المخطوط: مستدل . ولعل الصواب ما أثبت .
(3) في المخطوط: نفو .

10 / 32
ع
En
A+
A-