الكتاب : إثبات نبوة النبي المؤلف : الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين بن هارون الحسني. المحقق : عبدالكريم جدبان . www.al-majalis.com ترقيم الصفحات موافقة للكتاب المطبوع . |
الطبعة الأولى
1423ه- 2002م
حقوق الطبع محفوظة للمحقق
l
مقدمة
" من حق الناس أن يسألوا كل رجل يزعم أنه مرسل لهم من عند الله: ما دليلك على صدق قولك ؟
فإذا قدَّم لهم الدليل المقنع على صحة رسالته قبلوه واستمعوا له .
وقد جاء صالح إلى ثمود يخبرهم بأنه نبي من الله ، ثم يصيح فيهم: { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) } [الشعراء] .
ولكن ثمود ردوا هذا النصح ، وطالبوا صالحاً بالبرهان على أنه ليس شخصاً عاديَّا . { قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) }[الشعراء] . فكان طلب ثمود معقولاً ، ولذلك جاءت الإجابة عليه سريعة .
وكانت الطريقة التي وجدت وعاشت بها هذه الناقة ، خارقة لما تعارف عليه القوم .
ودل محياها على أنه أثر لقدرة عليا ، لا لقُدَر الناس المعتادة .
وهذا النوع من الاستدلال يقوم على تفهيم الناس أن الشخص الذي يحدثهم لا يمثل نفسه ، ولكن يمثل رب الأرض والسماء . لذلك يعمل بقوته المطلقة ، لا بقوى البشر المحدودة !
وقد فزع موسى إلى هذا الدليل ، لمَّا كذبه فرعون في دعواه أنه مرسل من رب العالمين وتهدده ، { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (33) } [الشعراء] .
وكذلك صنع عيسى عليه السلام عندما عرض نفسه على بني إسرائيل ، فنبأهم بأنه رسول من عند الله سبحانه وتعالى .
ثم سرد أدلته على رسالته: { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (49) } [آل عمران] .
وقد لوحظ أن أكثر الأمم - برغم ما سبق إليها من آيات باهرة - لم تستجب للحق ، ولم تسلِّم بدعوى المرسَلين ، لا عن قصور في الأدلة التي تسندهم ، بل على عناد وتبجُّح . { إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (183) } [آل عمران] .
والدليل على صدق أية دعوى قد يكون بأمور خارجة ، أو يكون بحقيقتها في نفسها .
فقد يزعم أحد الناس أنه مهندس ، ويقول: دليلي على ذلك أني أستطيع السير بقدمي على الماء ، أو الطير بجناحي في الهواء . فإذا فعل ذلك سلمنا له !
وقد يقول: دليلي على ما أقول: أني أبني - فعلاً - عمارة مدعمة الأركان ، أو أَصِلُ بين شاطئين - مثلا - بجسر متين ! فإذا فعل فقد دل بقدرته الهندسية على أنه مهندس يقيناً . بل قد تستريح النفس إلى هذا الاستدلال أكثر من راحتها إلى البراهين الخارقة الأُول .
قال ابن رشد: (( إن دلالة القرآن على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ليست كدلالة انقلاب العصا حية ، ولا إحياء الموتى ، وإبراء المرضى .
فإن تلك وإن كانت أفعالاً لا تظهر إلا على أيدي الأنبياء ، وفيها ما ينفع الجماهير من العامة ، إلا أنها مقطوعة الصلة بوظيفة النبوة وأهداف الوحي ومعنى الشريعة .
أما القرآن فدلالته على صفوة النبوة ، وحقيقة الدين مثل دلالة الإبراء على الطب .
ومثال ذلك: لو أن شخصين ادعيا الطب فقال أحدهما: الدليل على أني طبيب أني أطير في الجو .
وقال الآخر: دليلي أني أشفي الأمراض وأذهب الأسقام . لكان تصديقنا بوجود الطب عند من شفى من المرض قاطعا ، وعند الآخر مقنعاً فقط )) . ملخصاً بتصرف .
فالمعجزات إذن قد تكون ذاتية في الرسالة ، وقد تكون خارجة عن جوهرها ، والتفاوت بينها واسع النطاق ، باختلاف البيئات التي ظهرت فيها ، والرسالات التي اقترنت بها .
وقد كان التعويل في العصور الأولى عل الخوارق المادية فحسب ، أما ما تضمنته الأديان من حقائق فكانت منزلته ثانوية . حتى جاء الإسلام فغض من شأن الاعجاز المادي ، ونوّه بالاعجاز العقلي والقيم المعنوية للرسالات ، وقرر إلى جانب ذلك أن الخوارق التي دعمت بها الديانات القديمة ، لم تمنع التكذيب بها أولاً ، فلا معنى لطلب التصديق بها أخيراً ، { وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا (59) } [الإسراء] ، ومن ثمَّ اتجه تأييد الأنبياء وجهة أخرى .
المعجزة بين الرسالة الخاتمة والرسالات الأولى
جرت سنة الله في أنبيائه جميعاً أن يؤيدهم بالمعجزات الواضحة ، وأن يسوق بين أيديهم من الخوارق ما يلفت الأنظار ويستهوي الأفئدة ، ثم ما يبني معالم اليقين وعناصر الاستقرار ودواعي الطمأنينة في النفوس . وكانت معجزات الأنبياء شيئاً آخر غير الرسالات التي يبشرون بها ويدعون إليها . فطب عيسى غير إنجيله ، وعصا موسى غير توراته . إلا أن الله شاء أن يجعل معجزة الرسالة الأخيرة شيئاً لا ينفصل عن جوهرها ، فجعل حقائق الرسالة ودلائل صحتها كتاباً واحداً ، وجعل من أصول الدعوة وأساليب عرضها ، البرهان الأكبر لدعوى الرسالة، والسناد الأعظم لصدق صاحبها .
فآي القرآن الكريم - بما تتضمن من دساتير العدالة الخلقية والاجتماعية والسياسية ، وبما تغرس في الطبائع من آثار الأدب والتربية والاستقامة - هي هي رسالة الإسلام ومعجزته .
وأعظم ما في هذه الآيات أن الفطرة الانسانية تجد فيها مجالها الحيوي الفذ ، وتجد في جوها المتنفَّس الطلق الحر .
ومن ثمَّ كان القرآن كتاباً إنسانياً ، وكان نبي القرآن إنساناً كاملاً ، وكانت رسالة الإسلام في موضوعها وأهدافها إنسانية بحتة . ولذلك توجه القرآن - مباشرة - إلى العقل البشري يخاطبه ويفك عنه آصاره ، ويرد إليه اعتباره .
وأكد القرآن أن أصحاب هذا العقل وحده همُ الذي يستطيعون فهمه وتبين معانيه ، { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19) } [الرعد] . بل إن أصحاب هذا العقل وحده ، همُ الذين يفهمون رسالة الوجود ، ويفقهون أسرار الكون ، { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) } [آل عمران] . فلتكن إذاً معجزة نبي الإسلام عقلية ، وما دام البشر يحترمون عقولهم ، فستبقى لهذه المعجزة قيمتها ، أجل ستبقى لهذه المعجزة قيمتها ما بقي العقل أنفس شيء في الحياة ، وما استلهم الناس عقولهم في الحكم على الأمور ، وفي قيادة الانسانية إلى آفاق الترقي والكمال .
مقترحات كافرة
غير أن هذا المنطق لم يكن ليلقى القبول الواجب له عند أعراب الجزيرة ، وبقايا القرون الأولى ، وصرعى الأوهام والخيالات . إذ كان أقصى ما يفكر فيه هؤلاء أن يشاهدوا خارقاً يقلب البر بحراً ، أو الخصب جدباً . وعندئذ يلقون السلم ويدخلون في الاسلام ، ولم يكن شيء من هذا الذي اقترحوه عزيزاً على قدرة الله . ولكن حكمة الله أبت إلا أن تَتعَالى بقيمة العقل الإنساني الذي أرخصوه ، وإنه لعزيز على هذه القدرة العليا أن تعطي الإنسان عقلاً يصنع المعجزات - إذا ما اعتني به والتفت إليه - ثم تترك هذا الذي أعطت يضيع عبثاً ، وتستجيب لرغبات الجاهلين الذين سفهوا أنفسهم وأفكارهم ، وأبوا تحكيم مشاعرهم وعقولهم ، وطالبوا بمعجزات مادية ، قليلة أو كثيرة لتصديق نبيهم .
وكان لا بد في معاملة أولئك القوم من سلوك منهج يرغم آنافهم على احترام العقل الإنساني ، لمصلحتهم ولمصلحة الأجيال من بعدهم !! ولذلك تقرر أن تكون المعجزة الكبرى لمحمد صلوات الله وسلامه عليه هي هذا القرآن الكريم .
فيه كان التحدي ، عليه كان الرسول يعتمد في سيرته ، مع خصومه وأصحابه طول حياته . ومن بعده ظل القرآن كتاب الاسلام الناطق بدعوته وحجته معاً .
إلا أن الحكمة الإلهية اقتضت أن تبث في طريق الرسول أنواعاً من الخوارق التي أُيد بها النبيون الأولون ، فجاءت هذه الخوارق تحمل طابعاً خاصاً
، ينبغي أن نعرفه حتى لا نتجاوز به حدوده الصحيحة .. هذه الخوارق ثانوية الدلالة في تصديق النبوة والشهادة لها ، والطريقة التي أرسلت بها من عند الله ، تشير إلى أن الحكمة الإلهية لم تعلق عليها كبير أهمية ، ولم تغض بها من قيمة المعجزة العقلية التي انفرد الرسول بها .
فقد حدثت جملة من هذه الخوارق بين المؤمنين ، الذين استقر الايمان في قلوبهم فعلاً ، والذين سبق لهم تصديق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته ، لأنهم أعملوا عقولهم واحترموا إنسانيتهم ، وحدث بعض آخر أمام أعين الكافرين .
بيد أن الصورة التي تم بها تثير الدهشة ، إذ كانوا يقترحون معجزة فتأتيهم أخرى ، أو يأتي ما يقترحون بعد سنين طوال ، وعلى وجه يبدو منه أن إجابتهم إلى ما طلبوا لم تقصد أصلا ، وربما تهمل مقترحاتهم كلها، فلا ينظر لها قط ، فما معنى ذلك ؟ وما السر فيه ؟!
حقيقة الاعجاز المادي
بيّن الله عز وجل أنه فَصَّل في كتابه كافة أسباب الايمان وأسانيد النبوة ، ولكن الناس أبوا الرضى بهذا اللون من الاقناع . { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا (89) } [الإسراء] ، وماذا بعد أن كفروا ؟ طلبوا أشياء معينة ، زعموا أنها - وحدها - هي التي تدعوهم إلى الإيمان ، { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء } [الإسراء] ... إلخ .
ودعك من المطالب التي أملاها العناد والسخف من سلسلة هذه المقترحات الطويلة ثم تأمل .
أتفجير ينبوع من الأرض ينظر إليه البشر على أنه عمل تنزل قوى من السماء لاتمامه ؟ فما هو إذاً عمل القوى الانسانية ؟
إن المرء في طفولته يعتمد على أبيه دائماً في جلب كل خير وإتمام كل عمل ، أفليس من حق الأب إذا رأى ابنه جاوز الطفولة أن يضربه على يديه ، ويتركه يتجشم وحده مشقة السعي ، واقتحام المستقبل ، وتحمل أعباء الرجولة ؟!
هكذا صنع الله مع عباده ، لقد أرضى الإنسانية في طفولتها بألوان صارخة من الخوارق ، حتى إذا اشتد عودها واستوى فكرها ، تركها لتستخدم مواهبها الفكرية ، ولتتبين الصواب والخطأ . فإما هلكت عن بينة ، أو نجت عن بينة .
ويوم أن تعرف البشرية (( العقل )) في قبول دين أو رفضه ، فستعرف من تلقاء نفسها كيف تستغل هذا العقل في تفجير الينابيع ، وتحويل رمال الصحراء إلى حدائق غنّاء . وهذا بعض ما طلب أعراب الجزيرة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليصدقوا رسالته . وقد طلبوا منه أن يرقى في السماء ، ولكن الله أحب أن يكشف لهم عن سقم البواعث التي توحي بهذه المطالب ، وأن يثير فيهم الإيمان بإنسانيتهم المهدرة ، وأن يرد الحرمة إلى عقولهم المحتقرة ، وأن يعلمهم تكريم البشرية المجردة بالإيمان بني البشرية ، المبعوث لمد ضيائها وبسط روائها . ولذلك يهتف القرآن عقب هذه المقترحات: { قُلْ سُبْحَانَ