الأمير الشاعر
إذا كان الأمير الصنعاني من أبرز علماء الاجتهاد في عصره ، وإذا كان الأمير قد أغنى المكتبة العربية والإسلامية بمؤلفاته القيمة التي انتفع بها المسلمون في أرجاء المعمورة ، فإنه كذلك في مقدمة شعراء عصره الذين اتخذوا الكلمة الحرة سلاحاً لنضالهم الديني والوطني ، ودافعوا عن الشعب وعقيدته بكل إيمان وإخلاص وتضحية ، ولم تكبح من جماح نضالهم الصادق السجون والمعتقلات ، أو تثنيهم عن ذلك النضال المجيد تهديدات الحكام ، ودسائس المنتمين إليهم بحكم مصالحهم الشخصية ، ولقد هُدد الأمير الصنعاني بالقتل غير مرة ومن غير جهة ، كما عاش مشردا عن صنعاء مهد طفولته لمواقفه النضالية المتحررة من قيود التعصب والتقليد ، ومن عوامل التبعية في أي مسلك من المسالك.
وللأمير الصنعاني ديوان شعر ، يضم ما ينوف على أربعمائة صفحة ، وهو في معظم قصائد ديوانه ملتزم نهجه المعروف بالنضال والثورة على الظلم والظالمين غير هياب لسطوتهم ، وأساليب مكرهم ، وكان سلاحه في كل ذلك إيمانه الراسخ الذي لا يتزعزع ، حتى أصبحت له مدرسة علمية تعرف بمدرسة البدر الأمير ، وإذا لمس شيئا من الانحراف في تلميذ من تلاميذ مدرسته ومشايعته للظلمة ، سارع إلى تصحيح ذلك الانحراف بقدرة فائقة.
وإلى جانب إيمانه الذي كان سلاحه وعمدته في محارية الظلم والظالمين ، كانت الكلمة الصادقة أيضا سلاحه الأمضى إما شعرا أو نثرا ، وهو في كلا الأسلوبين مبرز ومجيد ، ولم يكن شعره قاصرا على المسائل العلمية كغيره من علماء عصره ، فالأمير الصنعاني شاعر مبدع مترسل ، وذلك لأن بيئته التي عاش بها كونت مواهبه الأدبية وخلقت منه شاعرا فحلا ، فأبوه وأستاذه في علوم اللغة
والأدب وغيرهما من أبرز شعراء عصره ، وشعره الرقيق المعبر عن أصدق المشاعر الجياشة ، يحدد لدارسيه مكانته المرموقة حين ذاك.
فالأمير الأب أرق شعراً من الأمير الابن ، كما أن الأمير الابن أوسع معرفة من الأمير الأب ، وله مع أبيه رسائل شعرية بديعة ترينا معنى الأصالة والعراقة في مدرسته العلمية والأدبية ، كما شهد له بذلك علماء وأدباء عصره ، ومنهم أبوه إسماعيل بن صلاح الأمير ، وهو من الذين يتحرون الصدق في أقوالهم وأفعالهم.
وكان الأمير الأب لتواضعه وهو العالم الجليل والأديب المرموق ، يجلس في حلقات درس ابنه مجلس التلميذ من أستاذه ، ولا يجد في ذلك حرجا أو غضاضة ، فالفرع قد يزكو على الأصل ويفوق ، ومن ذلك ما قاله الأمير الأب إسماعيل بن صلاح لابنه محمد بن إسماعيل في قصيدته البائية مشيداً بمناقبه العلمية:
وإن ذكرت العلم ... فهو الفارس المجرب
جلا على أقرانه ... إذ سابقوه وكبوا
أعجبهم أن يلحقوا ... بمجده فأضربوا
ما زال في كسب العلوم ... من صباه يدأب
حتى ارتقى مرتبة ... تنحط عنها الرتب
بفطنة تبدو فما ... عنها الصواب يحجب
يمشي مع الحق ... فما يقتاده التعصب
ويقول معترفا في تواضع منقطع النظير ، وذلك بما لابنه من مناقب ، مشيراً إلى مكانته العلمية الرفيعة:
ما زال يهديني إلى ... نهج الهدى ويندب
حتى كأني ولد ... مؤدب وهو الأب
فاعجب لها قضية ... لمثلها يستغرب
وإن أرتنا عجبا ... فإنني لا أعجب
فالفرع قد يزكو ... على أصوله وينجب
هذي الضمار كلها ... أصولهن الخشب
ومن مدينة كحلان بعث البدر الأمير الصنعاني إلى أبيه قصيدة جوابية مماثلة ، ومن تلك القصيدة ما جاء مترجماً عن زهد أبيه:
والزهد في هذي الدنا ... لغيره لا ينسب
لقد تساوى عنده ... ترابها والذهب
آثر خدمة الذي ... إليه ينهى الطلب
على ملوك ما بهم ... في الدين إلا اللقب
فلا تراه شاكياً ... منهم إذا ما تحتجبوا
قطبٌ وليٌّ زاهدٌ ... إليه تسمو الرتب
ذو فطنة وقادة ... أخاف لا تلتهب
وشعره في رقة ... من الطروس يشرب
وقال مجيباً على السؤال المشهور الذي أورده بعض الذميين ذكره المقبلي في (( العلم الشامخ )) وقد أجاب عنه عدة من العلماء:
نعم قد قضى ربي بما هو كائن ... بهذا أقام الله جُلَّ الأدلةِ
وكفرك مما قد قضاه كما قضى ... بأفعاله في خلقه للبريةِ
وما سد عنك الباب كلا وإنما ... أتاك اختيارا وهو أعظم حجة
فأنت سددت الباب جهلاً وضلةً ... كما صنع الضُّلالُ في باب حِطَّة
كذبت بأن الله قال ارض بالقضا ... أيأمر أن ترضى بكفر وضلة
بلى قال لا تكفر بأمر بالذي ... نهى عنه هذا منك أعظم فرية
وصرح في الذكر المبين بنفيه ... رضاه به فانظره في خير سورة
وسبق القضا لا يقتضي الجبر هل ترى ...إلهك مجبورا لسبق القضية
فإن قضاه سابق كل كائن ... لأفعاله قطعاً وفعل البرية
وما أحد ينفي اختيار مكلف ... سوى جَهمٍِ الآتي بكل عجيبة
ومن قال فعل العبد كسب فقد نجا ... وإن كان هذا الكسب في بطن خفية
ولكنهم [قد] فارقوا جَهْمًا الذي ... يقول بأن العبد كالشجر التي
تُميِّلُها ريح تهب بدَوْحِها ... تميل بها الأغصان في كل هبة
فلا تدعهم جبرية بعد هذه ... وأنصف وجانب كل ذي عصبية
ولو كان هذا السبق عذرا لكافر ... إذاً عذَرَ الكفار باري البرية
وما شاء منك الكفر قط وإن به بقضى ... فالقضاء ليس اختيار المشيئة
فما هو إلا العلم أنك ترتضي الضلالة ... اختيارا منك أقبح فعلة
وما العلم إلا سابق غير سائق ... كذاك القضا فاعرف أصول الشريعة
قضى ثم آتاك اختيارا وقد هدى العباد ... إلى نَجدَى رشاد وشقوة
فأنت الذي اخترت الشقاء على الهدى ... فخذ شؤم ما قدمت من كل زلة
وعِلمُ وصي المصطفى في جوابه ... على سائل وافى بهذي البلية
بما هو كل الحق فانظر جوابه ... تجده شفاء الداء من كل علة
ومن لم يكن بالله والرسل مؤمنا ... فقد فاز بالخسران في كل ملة
وصل على المختار والآل إنها ... ختام بمسك في تمام القصيدةِ
التحفة العلوية
وقال رضي الله عنه مادحا أمير المؤمنين وسيد المتقين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسماها (( التحفة العلوية )) ، وشرحها بشرح نفيس سماه (( الروضة الندية )) وهو مجلد طبع عدة طبعات، قال:
تحفة تهدى لمن يهوى عليا ... من رقى شأوا من المجد عليا
وتحيي كل حي صادق ... قلبه مغرى بمن حل الغريا
وتنادي كل ناد حافل ... بلسان تنشر المسك ذكيا
لم يكن من مسك دارين وقد ... ملأ الدارين عرفا معنويا
ضمخوا أسماعكم من نشره ... وارشفوا كأسا من النظم رويا
يا إماما سبق الخلق إلى ... طاعة المختار مذ كان صبيا
باذلاً للنفس فيما يرتضي ... سيدا لرسل صباحا وعشيا
فرقى في مكة أكتافه ... فغدت أصنامهم منه جثيا
كاد أن يلمس أفلاك السما ... ويلاقي كفه كف الثريا
وفداه ليلة همت به ... فتية تابعت الشيخ الغويا
بات في مضجعه حين سرى ... يا بروحي سارياً كان سريا
خاب ما راموا وهب المرتضى ... ونجى المختار يطوي البِيد طيا
والأمانات إلى أربابها ... عنه أداها ووافاه بريا
كان سهما نافذاً حين مضى ... وعلى الأعداء سيفا مشرفيا
من ببدر فلق الهام وقد ... هام في الشقوة من كان شقيا
وبأُحدٍ حين شبت نارها ... فتية كانت بها أولى صليا
وابن ودٍّ من ترى قطَّره ... وهو ليث كان في الحرب جريا
وانشر الأخبار عن خيبر يا ... حبذا فتح بها كان سنيا
وأبو السبطين يشكو جفنه ... وبِريق المصطفى عاد بريا
ثم أعطاه بها رايته ... بعد أن بشر بالفتح عشيا
ذاكراً أوصاف من يحملها ... فتمنى الكل لو كان عليا
فدحى الباب وأردى مرحِباً ... بعد أن صارع فيها قَسْوَريا
ثم كان الفتح والفيءُ بها ... واصطفى المختار من تلك صفيا
وحنيناً سل بها أبطالها ... كم بها أردى من الكفر كميا
وسل الناكث والقاسط والـ ... مارق الآخذ بالأيمان غيا
وقضايا فتكه لو رمتها ... رمت ما يعجزني لو دمت حيا
وهي في شهرتها شمس الضحى ... هل ترى يُجهل للشمس مُحيا
وكذا ما خصه الله به ... من خصالٍ حصرُها لا يتهيا
من سواه كان صنو المصطفى ... أو سواه بعده كان وصيا
وأخي قال له خير الورى ... وهو أمر ظاهر ليس خفيا
وكهارون غدا في شأنه ... منه إلا أنه ليس نبيا
وبعيسى صح فيه مَثَلٌ ... فسعيدا عد منهم وشقيا
وغداة الطير من شاركه ... فيه إذ جاء له الطير شويا
وعليه الشمس ردت فغدا ... أفقها من بعد إظلام مضيا
وبخم قام فيهم خاطبا ... تحت أشجار بها كان تقيا
قائلا من كنت مولاه فقد ... صار مولاه كما كنت عليا
والذي زكَّى بما في كفه ... راكعا أكرم به براً زكيا
ونفاقا بغضه صح كما ... حبه عنوان من كان تقيا
باب علم المصطفى إن تأته ... فهنيئاً لك بالعلم مريا
فهو بحر عنه فاضت أبحر ... فاغترف منه إذا كنت ذكيا
كم قضايا حار صحب المصطفى ... عندها أبدى لها حكماً جليا
ولَكَمْ ظمآن وافى بحره ... فغدا من بحره العذب رويا
كل علم فإليه مسند ... سنداً عند ذوي العلم عليا
من سواه وضع النحو وقد ... راعه لحن بمن قد حاز عيا
ولما اطلع على هذا المقدار والده العلامة الزاهد إسماعيل بن صلاح الأمير رضي الله عنه قال مذيلا لها:
ويدور الحق معه حيثما ... دار فافهمه حديثا نبويا
واختصاص الله بالزهرا له ... لسواه مثله لم يتهيَّا
فغدت عترته من أجلها ... عترة المختار نصاً أحمديا
وغدا السبطان والآل إذا ... نسبوهم نبوياً علويا
وبه بَاهَلَ طه إذ أتى ... وفد نجران إذا كنت غبيا
وإذن سماه طه نفسه ... يا له مجداً به خص سميا
إلى هنا من الذيل ، وقال الوالد البدر رضي الله عنه:
معرض عن هذه الدنيا يرى ... مقبلاً إن كان أمراً أخرويا
ما ارتضى الدنيا ولا زهرتها ... وأثاثا حسنا فيها وريا
قائلا أنت ثلاثا طالق ... قاليا وَشْيا عليها وحُليًّا
والبلاغات إليه تنتهي ... نهجه فيها يرى النهج السويا
إن رقى المنبر يوما خاطبًا ... عاد سحبان لديه باقِليَّا
حِِكَمُ اليونان والفرس معا ... ما تداني منه لفظا علويا
لازم المحراب والحرب إلى ... أن أتى أشقى الورى الأمر الفريا
ومضى نحو جوار المصطفى ... حبذا دار وجار قد تهيا
قائلات حورها حين أتى ... مرحبا أهلا بذا الروح وحيا
ومضى الأشقى إلى قعر لظى ... يتصلاها غدواً وعشيا
عاقر الناقة فيها جاره ... ليس جار الأشقياء إلا شقيا
ثم قال والده الضياء رحمه الله مذيلا:
ثم قل من يسقيَ الخلق إذا ... وردوا في الحشر ماء كوثريا
ولواء الحمد من يحمله ... غيره أكرم به فخراً عليا
قل من المدح بما شئت فلم ... تأت فيما قلته شيئا فريا
كل من رام يداني شأوه ... في العلى فاعدده رَوما أشعبيا
كتمت أعداؤه من فضله ... ما هو الشمس فما يغنون شيا
زعموا أن يطفئوا أنواره ... وهو نور الله ما انفك مضيا
كلما للصحب من مكرمة ... فله السبق تراه الأوليا
جمعت فيه وفيهم فرقت ... فلهذا فوقهم صار عليا
نال ما قد نال كل منهمُ ... والذي سابقه عاد بَطِيَّا
وكفاه كونه للمصطفى ... ثانيا في كل ذكر وصفيا
صلوات الله تترى لهما ... وعلى الآل صباحا وعشيا
القصيدة النجدية
سلام على نجد ومَن حلَّ في نجد
وإن كان تسليمي عن(1) البعد لا يُجدي
لقد صدرت من سفح صنعاء سقى الحيا
رباها وحيّاها بقهقهة الرعد
سرت من أسير يسأل الريح إن سرت
ألا يا صبا نجد متى هُجت من نجد
يذكرني مسراك نجدا وأهله
لقد زادني مسراك وجدا على وجد
قفي واسألي عن عالم حل سوحها
به يهتدي من ضل عن منهج الرشد
محمد الهادي لسنة أحمد
فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي
لقد أنكرت كل الطوائف قوله
بلا صدَرَ في الحق منهم ولا ورد
وما كل قول بالقبول مقابَل
ولا كل قول واجب الطرد والرد
سوى ما أتى عن ربنا ورسوله
فذلك قولٌ جل قدرا عن الرد
وأما أقاويل الرجال فإنها ...
__________
(1) في (ب): على.
تدور على قدر الأدلة في النقد
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه
يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي
وينشر جهراً ما طوى كل جاهل
ومبتدع منه فوافق ما عندي
(فصل في بِدَع المشاهد)
ويعمر أركان الشريعة هادما
مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد
أعادوا بها معنى سواع ومثله
يغوث وودٌ بئس ذلك من ودِّ
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم عقروا في سوحها من عقيرة
أُهلت لغير الله جهلا على عمد
وكم طائف حول القبور مقبِّل
وملتمس الأركان منهن بالأيدي
(فصل في كتاب دلائل الخيرات)
وحرَّق عمدا للدلائل دفترا
أصاب ففيها ما يجل عن العد
غلوٌّ نهى عنه الرسول وفرية
بلا مرية فاتركه إن كنت تستهدي
أحاديث لا تعزى إلى عالم فلا ...