وفي حديث:(( نهيت عن قتل المصلين )) (1)، فجعل صلى الله عليه وآله وسلم إقامة الصلاة مانعة مِن قتله.
وقال لهم لاما أقاموا الصلاة في
أناس أتوا كل القبائح عن قصدِ
في البيت إشارة إلى ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: (( يُستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد بريء، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع. فقالوا يا رسو الله: ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما صلوا )) (2). انتهى. وفي رواية: (( ما أقاموا الصلاة ... )).
فقولنا: وقال، ضمير قال له صلى الله عليه وآله وسلم، الحديث أشرنا بما ترى، كما في قولنا في البيت: نهيت عن. ففي البيتين من علم البديع الاكتفاء.
أبِنْ لي أبِنْ لي لِمْ سفكت دماءهم
ولِمْ ذا نهبت المال قصدا على عمدِ
وقد عصموا هذا وهذا بقول لا
إله سوى الله المهيمن ذي المجدِ
__________
(1) عن أبي هريرة (( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بال هذا؟! فقيل: يا رسول الله يتشبه بالنساء، فأمر فنفي إلى النقيع، فقالوا: يا رسول الله ألا نقتله؟! فقال إني نهيت عن قتل المصلين. قال أبو أسامة: والنقيع ناحية عن المدينة وليس بالبقيع.
(2) أخرجه مسلم 3/1480(1854)، 3/1481(1854)، وأبو داود 4/242(4760)، والترمذي 4/529(2265)، وأحمد 6/302 (26619)، والبيهقي في الكبرى 3/367(6295)، والطيالسي /223(1595).
إشارة إلى ما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم، وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله )) (1).
وأخرج الإمام [أحمد] في مسنده، وابن خزيمة في صحيحه، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ثم قد حرمت علي دماءهم، وأموالهم، وحسابهم على الله )) (2). فأخبر صلى الله عليه وآله وسلم أن الناس إذا آمنوا، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، حرمت دماءهم وأموالهم.
وأما قوله إلا بحق الإسلام، فالمراد به ما أباحه الإسلام في الدماء مَن قتل النفس المؤمنة بغير حق، ومن زنى وهو محصن، ومن ارتد عن الإسلام، أو قطع يد السارق، ومن الساعي في الأرض فسادا، ونحوها، وما أباحه من الأموال كأخذ الزكاة من الغال، وتغريم من اغتصب الأموال.
وقال ثلاث لا يحل لغيرها
دم المسلم المعصوم في الحل والعقدِ
__________
(1) أخرجه البخاري 1/17(25)، ومسلم 1/52(21)، وأبو داود 3/44(2640)، وأحمد 2/345(8525)، وابن حبان 1/401 (175)، وابن خزيمة 4/8(2248)، والحاكم 1/544(1428)، وغيرهم.
(2) أخرجه أحمد 2/345(8525) بلفظ: (( قد حرم ... ))، وابن خزيمة في الصحيح 4/8(2248).
إشارة إلى حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق )) (1).
أخرجه الشيخان بألفاظ.
وهذا هو الذي أشار إليه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إلا بحق الإسلام )) (2).
وقال علي في الخوارج إنهم
من الكفر فروا بعد فعلهم المردي
إشارة إلى ما روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام (( أنه سئل عن الخوارج: أكفار هم؟ فقال: من الكفر فروا. قيل: فما هم؟ قال: إخواننا بالأمس بغوا علينا )) (3) .
__________
(1) أخرجه أبو داود 4/170(4502)، والنسائي في المجتبى 7/91(4019)، وابن ماجة 2/847(2533)، وأحمد 1/65(468)، والنسائي في الكبرى 2/292(3482)، والبيهقي 8/18(15621)، والطيالسي /13(72)، وابن الجارود في المنتقى /213(836)، وابن أبي عاصم في الآحاد المثاني 1/132(149)، وأحمد في فضائل الصحابة 1/495(806)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/159، والحارث في المسند (بغية الباحث) 2/899(977). بلفظ: (( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس ... )).
(2) أي: في الحديث الآنف الذكر.
(3) عن أبي البختري قال سئل علي رضي الله عنه عن أهل الجمل أمشركون هم ؟قال من الشرك فروا . قيل : أمنافقون هم ؟قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا .قيل: فما هم ؟! قال: إخواننا بغوا علينا.
أخرجه البيهقي في سننه الكبرى ج 8/ص 173/ح 16490
وعبد الرزاق في مصنفه ج7/ص535/ح37763.
في فتح الباري (( أن عليا عليه السلام لم يكفر الخوارج مع تكفيرهم له، وقتلهم لعباد الله، وتكفيرهم لمن ليس على بدعتهم من عباد الله )) (1)، وللعلماء فيهم أقوال واسعة.
ولم يحفر الأخدود في باب كندة
ليحرقهم فافهمه إن كنت تستهدي
ولكن لقوم قد أتوا بعظيمة
فقالوا عليٌّ ربنا منتهى القصدِ
إشارة إلى ما أخرجه أبو المظفر الإسفرائيني في الملل والنحل: أن الذين أحرقهم علي عليه السلام طائفة من الذين غلوا فيه وادعو فيه الإلهية، وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ، كان يهوديا ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة (2).
وأخرج أبو الطاهر المخلص، من طريق عبد الله بن شريك العامري، عن أبيه قال: قيل لعلي عليه السلام: إن هاهنا قوماً خارج المسجد يزعمون أنك ربهم !! فدعاهم وقال: ويلكم ما تقولون؟! قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا. فقال: إنما أنا عبد آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني، وإن عصيته خشيته أن يعذبني، فارجعوا. فأبوا فلما كان الغد غدوا عليه، فجاء قنبر فقال: والله رجعوا يقولون ذلك الكلام. قال: أدخلهم. فقالوا: كذلك. فلما كان اليوم الثالث قال: لئن قلتم لأقتلنكم شر قتلة! فأبوا إلا ذلك. فقال: يا قنبر ائتني
__________
(1) انظر فتح الباري 12/302.
(2) المقصود به عبد القاهر البغدادي صاحب كتاب (الفَرق بين الفِرق). والقصة موجود فيه /225، 233. وليس كتاب حديث حتى يقول المصنف: أخرجه أبو المظفر. والقصة مذكورة أيضا في طبقات المحدثين لابن حبان 2/341(207).
بِفَعَلَة،(1) فخد لهم خدودا بين باب المسجد والقصر، قال: احفروا وأبعِدوا في الأرض، وجاء بالحطب وطرحه في النار في الأخدود، وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعون. فأبوا أن يرجعوا، فقذفهم فيها وقال:
إني إذا رأيت أمرا منكرا
أوقدت نارا ودعوت قنبرا
قال الحافظ ابن حجر إسناده صحيح.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب منهاج السنة: إن عليا عليه السلام أمر بإحراق الذين ادعوا فيه الإلهية، فإنه خرج ذات يوم فسجدوا له. فقال لهم: ما هذا؟ قالوا: أنت هو. قال: من أنا؟ قالوا: أنت الله الذي لا إله إلا هو. فقال: ويلكم هذا كفر، فارجعوا عنه وإلا ضربت أعناقكم. فصنعوا في اليوم الثاني والثالث كذلك، وأخرهم ثلاثة أيام، لأن المرتد يستتاب ثلاثة أيام، فلما لم يرجعوا أمر بأخاديد من نار ....إلى آخر ما ذكرناه. وقال: وهذا واجب باتفاق المسلمين. انتهى كلامه.
وأنشد لبعض النصيرية:
أشهد أن لا إله إلا ... علي الأنزع البطين
ولا حجاب عليه إلا ... محمد الصادق الأمين
ولا طريق إليه إلا ... سليمان ذو القوة المتين
إذا عرفت هذا، فلذا قلنا:
وهذا هو الكفر الصريح وليس ذا
برفض ولا رأي الخوارج في المهدي
__________
(1) الفعلة: العمال.
أردنا بالمهدي: عليا عليه السلام، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( اللهم اجعله هاديا مهديا في بعثه إلى اليمن )) (1)، وبه يُعلم أن عليا عليه السلام حرَّق من كفر بالله، وسجد له، وزعم أنه رب العالمين، وقتلُه واجب بإجماع المسلمين، كما قال ابن تيمية، وكما هو معروف من ضرورة دين سيد المرسلين.
فاعجب لجعل ابن عبد الوهاب فِعلَ (2) علي عليه السلام دليلا على قتل المسلمين المصلين المزكين الموحدين !!! ذكره في رسالته دليلا على قتله عباد الله ونهبهم.
وقولنا ولا رأي الخوارج في المهدي، أي: أنهم لا يقولون: علي رضي الله عنه إله، بل يقولون: إنه كافر، وحاشاه عما يقول الظالمون.
ثم استدل الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنه: أجمع التابعون وبقية الصحابة على قتل المختار بن أبي عبيد فأشرنا إلى ذلك بقولنا:
وقد قلتَ في المختار أَجمَعَ كل من
حوى عصره من تابعيٍّ وذي رشدِ
على كفره هذا يقين لأنه
تسمى نبيا لا كما قلت في الجعدي
__________
(2) في (أ): قتل.
فمن العجب استدلاله بقتل المختار بن أبي عبيد الثقفي (1)، وأنه أجمع التابعون
__________
(1) المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، أبو إسحاق، من زعماء الثائرين على بني أمية، وأحد الشجعان الأفذاذ من أهل الطائف، انتقل منها إلى المدينة مع أبيه في زمن عمر، وتوجه أبوه إلى العراق فاستشهد يوم الجسر، وبقي المختار في المدينة منقطعاً إلى بني هاشم، وتزوج عبد الله بن عمر بن الخطاب أخته صفية بنت أبي عبيد، ثم كان مع علي بالعراق، وسكن البصرة بعد علي، ولما قتل الحسين سنة (61هـ) انحرف المختار عن عبيد الله بن زياد (أمير البصرة) فقبض عليه ابن زياد وجلده وحبسه، ونفاه بشفاعة ابن عمر إلى الطائف. ولما مات يزيد بن معاوية سنة (64هـ) وقام عبد الله بن الزبير في المدينة بطلب الخلافة، ذهب إليه المختار وعاهده، وشهد معه بداية حرب الحصين بن نمير، ثم استأذنه في التوجه إلى الكوفة ليدعو الناس إلى طاعته، فوثق به وأرسله ووصى عليه، غير أنه كان أكبر همه منذ دخل الكوفة أن يقتل من قاتلوا الحسين وقتلوه، فدعا إلى إمامة (محمد ابن الحنفية) وقال: إنه استخلفه، فبايعه زهاء سبعة عشر ألف رجل سراً، فخرج بهم على والي الكوفة عبد الله بن مطيع، فغلب عليها واستولى على الموصل وعظم شأنه. وتتبع قتلة الحسين، فقتل منهم شمر بن ذي الجوشن الذي باشر قتل الحسين، وخولي بن يزيد الذي سار برأسه إلى الكوفة، وعمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذي حاربه.
وأرسل إبراهيم بن الأشتر في عسكر كثيف إلى عبيد الله بن زياد، الذي جهز الجيش لحرب الحسين، فقتل ابن زياد وقتل كثيرين ممن كان لهم ضلع في تلك الجريمة.
وكان يرسل بعض المال إلى صهره ابن عمر وإلى ابن عباس وإلى ابن الحنفية فيقبلونه. وشاعت في الناس أخبار عنه بأنه ادعا النبوة ونزول الوحي عليه، وأنه كان لا يوقف له على مذهب، ونقلوا عنه أسجاعاً، قيل: كان يزعم أنها من الإلهام، منها: (( أما والذي شرع الأديان، وحبب الإيمان، وكره العصيان، لأقتلن أزد عمان، وجل قيس عيلان، وتميماً أولياء الشيطان، حاشا النجيب بن ظبيان ))، وقد يكون هذا من اختراع أصحاب القصص، وقد نقله الثعالبي. وعلم المختار بأن عبد الله بن الزبير اشتد علي ابن الحنفية وابن عباس لامتناعهما عن بيعته في المدينة، وأنه حصرهما ومن كان معهما في الشعب بمكة، فأرسل المختار عسكراً حاصر مكة وأخرجهما من الشعب، فانصرفا إلى الطائف وحمد الناس له عمله. ورُويت عنه أبيات قالها في ذلك، أولها:
تسربلت من همدان درعاً حصينة ... ترد العوالي بالأنوف الرواغم
وعمل مصعب بن الزبير، وهو أمير البصرة بالنيابة عن أخيه عبد الله، على خضد شوكة المختار فقاتله، ونشبت وقائع انتهت بحصر المختار في قصر الكوفة، وقتله ومن كان معه. ومدة إمارته ستة عشر شهراً. وفي (الإصابة) وهو من غريب المصادفات: أن عبد الملك بن عمر ذكر أنه رأى عبيد الله بن زياد وقد جيء إليه برأس الحسين، ثم أتي برأس المختار، ثم رأى عبد الملك بن مروان وقد حمل إليه رأس مصعب. ومما كتب في سيرته (أخبار المختار ـ ط) ويسمى: (آخذ الثار) لبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي. وسَمى صاحب كتاب (الغدير) واحدا وعشرين مصنفا في أخباره. الإصابة (8547)، والفرق بين الفرق /31 - 37، وابن الأثير 4/82-108، والشعور بالعور، والطبري 7/146، والحور العين /182، وثمار القلوب /70، وفرق الشيعة /23، والمرزباني /408، والأخبار الطوال /282-300، والذريعة 1/348 و 349، وانظر منتخبات في أخبار اليمن /32، والفاطميون في مصر /34 - 38، وفيه بحث عن علاقة المختار بالكيسانية، وفي التاج 4/238، والغدير 2/344 - 345. الأعلام 7/192.
مع بقية الصحابة على قتله، ووجه العجب منا: أن المختار طالب مُلك، تغلب على الكوفة ونواحيها، وكان عبد الله بن الزبير (1) قد ادعا الخلافة لنفسه بمكة، وغلب
__________
(1) عبد الله بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي، أبو بكر، فارس قريش في زمنه، وأول مولود في المدينة بعد الهجرة، شهد فتح إفريقية زمن عثمان، وبويع له بالخلافة سنة (64هـ)، عقيب موت يزيد بن معاوية، فحكم مصر والحجاز واليمن وخراسان والعراق وأكثر الشام، وجعل قاعدة ملكه المدينة. وكانت له مع الأمويين وقائع هائلة، حتى سيروا إليه الحجاج الثقفي في أيام عبد الملك بن مروان، فانتقل إلى مكة، وعسكر الحجاج في الطائف. ونشبت بينهما حروب أتى المؤؤخون على تفصيلها، انتهت بمقتل ابن الزبير في مكة، بعد أن خذله عامة أصحابه وقاتل قتال الأبطال، وهو في عشر الثمانين. وكان من خطباء قريش المعدودين، يشبَّه في ذلك بأبي بكر.
مدة خلافته تسع سنين، وكان نقش الدراهم في أيامه بأحد الوجهين: محمد رسول الله، وبالآخر: أمر الله بالوفاء والعدل، وهو أول من ضرب الدراهم المستديرة، له في كتب الحديث 33 حديثا، وكانت في الأعمال البهنساوية (بمصر) طائفة من بنيه، هم: بنو بدر، وبنو مصلح، وبنو نصارة. ابن الأثير 4/135 وما قبلها، وفوات الوفيات 1/210، وتاريخ الخميس 2/301، وحلية 1/329، واليعقوبي 3/2، وصفة الصفوة 1/322، والطبري 7/202، وتهذيب ابن عساكر 7/396، وشذور العقود للمقريزي /6، وجمهرة الأنساب /113 و 114. الأعلام 4/87.
على الحجاز واليمن، وبعث أخاه مصعبا (1) إلى العراق ليأخذها له، فقتل مصعبُ بن الزبير المختارَ ابن أبي عبيد، كما قتل بعد ذلك عبد الملك مصعبا، وقتل الحجاجُ
__________
(1) مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد الأسدي القرشي، أبو عبد الله، أحد الولاة الأبطال في صدر الإسلام، نشأ بين يدي أخيه عبد الله بن الزبير، فكان عضده الأقوى في تثبيت ملكه بالحجاز والعراق، وولاه عبد الله البصرة سنة (67هـ) فقصدها، وضبط أمورها وقتل المختار الثقفي، ثم عزله عبد الله عنها مدة سنة، وأعاده في أواخر سنة (68هـ)، وأضاف إليه الكوفة فأحسن سياستهما. وتجرد عبد الملك بن مروان لقتاله، فسير إليه الجيوش، فكان مصعب يفلها، حتى خرج إليه عبد الملك بنفسه، فلما دخل العراق خذل مصعباً قواد جيشه وأصحابه، فثبت فيمن بقي معه، فأنفذ إليه عبد الملك أخاه محمد بن مروان، فعرض عليه الامان وولاية العراقين أبدا ما دام حيا ومليوني درهم صلة، على أن يرجع عن القتال فأبى مصعب، فشد عليه جيش عبد الملك في وقعة عند دير الجاثليق (على شاطئ دجيل من أرض مسكن) وطعنه زائدة بن قيس السعدي، أو (عبيد الله بن زياد بن ظبيان) فقتله، وحمل رأسه إلى عبد الملك.
وبمقتله نقلت بيعة أهل العراق إلى ملوك الشام، وكانت في البهنساوية بمصر قبيلة تنتسب إليه تعرف ببني مصعب. قال أبو عبيدة معمرة بن المثنى: كان مصعب أحب أمراء العراق إلى أهل العراق، يعطيهم عطاءين، عطاء للشتاء وعطاء للصيف، وكان يشتد في موضع الشدة ويلين في موضع اللين. الطبري /حوادث سنة 71 وما قبلها، ومثله الكامل لابن الأثير، والبداية والنهاية، وهو في تاريخ الإسلام للذهبي 3/108 في حوادث سنة 72، وأرخه ابن سعد في الطبقات 5/135 سنة 72، ومثله في تاريخ بغداد 13/105، قلت: والمؤرخون مع اختلافهم في مقتله سنة 71 أو 72هـ، يذكرون في عمره يوم قتل ثلاث روايات: 35سنة، و40 و45، واقتصر ابن الجوزي في (أعمار الأعيان ـ خ) على الرواية الأخيرة. ونسب قريش 249 - 250، وانظر فهرسته. ورغبة الآمل 1/85، و3/124، 170، و5/235، و6/38، و7/185، والنقائض طبعة لندن 1090. الأعلام 7/247 - 248.
(1) عبدَ الله بن الزبير، فهؤلاء أقوامٌ طلاب ملك ودنيا، ولا يسَتدل بأفعالهم عاقل، ولا يقال في أفعالهم: أجمع الناس على قتل فلان منهم، وإلا لزمه أنه أجمع الناس
__________
(1) الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي، أبو محمد، قائد، داهية، سفاك، خطيب. ولد ونشأ في الطائف بالحجاز، وانتقل إلى الشام فلحق بروح بن زنباع نائب عبد الملك بن مروان، فكان في عديد شرطته، ثم ما زال يظهر حتى قلده عبد الملك أمر عسكره، وأمره بقتال عبد الله بن الزبير، فزحف إلى الحجاز بجيش كبير وقتل عبد الله وفرق جموعه، فولاه عبد الملك مكة والمدينة والطائف، ثم أضاف إليها العراق والثورة قائمة فيه، فانصرف إلى بغداد في ثمانية أو تسعة رجال على النجائب، فقمع الثورة وثبتت له الإمارة عشرين سنة، وبنى مدينة واسط - بين الكوفة والبصرة - وكان سفاكا سفاحا باتفاق معظم المؤرخين. قال عبد بن شوذب: ما رؤي مثل الحجاج لمن أطاعه ولا مثله لمن عصاه. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أحداً أفصح من الحسن البصري والحجاج. وقال ياقوت (في معجم البلدان): ذكر الحجاج عند عبد الوهاب الثقفي بسوء، فغضب وقال: إنما تذكرون المساوئ! أو ما تعلمون أنه أول من ضرب درهما عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأول من بنى مدينة بعد الصحابة في الإسلام، وأول من اتخذ المحامل، وأن امرأة من المسلمين سبيت في الهند فنادت يا حجّاجاه، فاتصل به ذلك فجعل يقول: لبيك لبيك! وأنفق سبعة آلاف ألف درهم حتى أنقذ المرأة.
واتخذ (المناظر) بينه وبني قزوين، فكان إذا دخن أهل قزوين دخنت المناظر إن كان نهاراً، وإن كان ليلا أشعلوا نيرانا، فتجرد الخيل إليهم، فكانت المناظر متصلة بين قزوين وواسط، وأصحبت قزوين ثغراً حينئذ. وأخبار الحجاج كثيرة، مات بواسط، وأجري على قبره الماء، فاندرس. معجم البلدان 8/382، ووفيات الأعيان 1/123، والمسعودي 2/103 - 119، وتهذيب التهذيب 2/210، وتهذيب ابن عساكر 4/48، وابن الأثير 4/222، وسير النبلاء - خ - وفيه: له حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله. والبدء والتاريخ 6/28، وفيه صفته: كان رجلاً أخفش، حمش الساقين، منقوص الجاعرتين، صغير الجثة، دقيق الصوت، أكتم الحلق. الأعلام 2/168.