(وقمع من هوى نفسه): قهر هوى نفسه، بالمخالفة له والزوال عنه.
(فإن هذه النفس أبعد شيء منتزعاً ): يريد أنها بعيدة الانتزاع عمَّا يكون قبيحاً، وعمّا كانت تهواه إلا على من وفقه الله ورضيه؛ وذلك لأن النفس كثير ما تألف الهوى، والفطام عن المألوف عسير.
سؤال؛ ما هذه الفاء في قوله: (فإن هذه النفس)، وأراه لم يحذفها كما في قوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ }[الحج:1] وغيرها؟
وجوابه؛ هو أن الفاء إنما أتى بها ها هنا إشعاراً بأن الجملة المتصلة بها، مباينة للجملة التي قبلها لا تعلق لها بها، فإذا كانت الجملتان قد أفرغتا في قالب واحد لم تأت الفاء كا لآية.
(وإنها لا تزال تنزع إلى معصية): تتوق إليها، من قولهم: نفسه تنزع إلى وطنه إذا تاق إليه وتشوّق، ثم تلك المعصية حاصلة:
(في هوى): وفي هذا دلالة على أن مِلاك المعاصي وقاعدتها هو الهوى والانقياد لحكم النفس، فنعوذ بالله من غلبة الهوى واتباعه.
(واعلمواعباد الله): مفعولا العلم ها هنا محذوفان ظهوراً، وأن وما بعدها من تعلقاتها ، سادة مسدهما، وعبادالله منصوب على النداء.
(أن المؤمن لا يصبح ولا يمسي): أراد في جميع أحواله، وذكر الصباح والمساء لشمولهما وعمومهما لذلك.
(إلا ونفسه ظَنُونٌ عنده): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن المؤمن نفسه قليلة حقيرة عنده يقللها ويحقرها، من قولهم: بئرظنون إذا كانت قليلة الماء.
وثانيهما: أن يكون معناه أن المؤمن يسيء الظن بنفسه في رزقه وحال معيشته، فيظن أن قلة ماله ونقصان قدره من تقصيره في حق الله تعالى، من قولهم: رجل ظنون إذا كان يسيء الظن بنفسه.

(فلا يزال زارياً عليها): بتقديم الزاي على الراء، من زراه إذا نقصه وعابه، ومنه الازدراء وهو: النقص.
(ومستزيداً لها): من الأعمال الصالحة، وفعل الخيرات.
(فكونوا كالسابقين قبلكم): يشير إما إلى الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم بلغوا في الزهد في الدنيا الغاية، وإما أن يريد من كان قبلهم ممن زهد في الدنيا وأطرحها.
(والماضين أمامكم): ممن ذكرناه من هؤلاء، ويحتمل أن يكون مراده فأنتم صائرون إلى الموت وكائنون فيه لا محالة، كما كان من قبلكم من الأمم الماضية.
(قُوِّضوا من الدنيا): تفرَّقوا، من قولهم: تقوَّضت الصفوف إذا تفرَّقت وذهبت.
(تقويض الراحل): بمنزلة من رحل عن مكان، فهو يقوّض رحله إلى مكان آخر.
(وطووها): انقضت فيها أعمارهم ساعة بعد ساعة، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام.
(طيَّ المنازل): بمنزلة السَّفْرِ الذين يطوون سفرهم، فينزلون كل يوم في منزلة غير الأولى إلى أن ينقضي السفر.
(واعلموا أن هذا القرآن): يريد كتاب الله، وسمي قرآناً من أجل اجتماعه، يقال: قرأ الماء في الحوض إذا جمعه.
(هو الناصح): المعطي للنصيحة.
(الذي لا يغش): في نصيحته، يريد أن نصحه صِرْفٌ ، لا يخلط بغيره، ولا يمتزج به سواه.
(والهادي): لكل من اهتدى به إلى كل خير.
(الذي لا يضل): من اهتدى بهديه، وسلك منهاجه.
(وَالْمُحَدِّث): بالمواعظ الشافية، والقصص الصادقة.
(الذي لا يكذب): لا يدخل حديثه كذب، ولايتهم به كسائر غيره من الأحاديث.
(وما جالس أحد هذا القرآن): المجالسة هاهنا هي: المدارسة له، والنظر فيه والتفكر في عجائبه واستنهاض غرائبه، استعارة له من مجالسة الإنسان لغيره ومفاكهته له.

(إلا قام عنه بزيادة أو نقصان): الاستثناء ها هنا للتفريغ في الجُمَلِ، كقولك: ما جاء زيد إلا أكل وشرب، والغرض أن أحداً لا يفاكه القرآن ويعتلق به بكثرة الدرس، إلا وأثمر له ثمرة زيادة أو نقصان.
(زيادة في هدى): الإقبال على الخيرات، والأعمال الصالحة، والفوائد العجيبة والحكم البالغة، والآداب النافعة في الدين والدنيا.
(أو نقصان من عمى): من جهة أن الإنسان إذا ازداد من شيء انتقص من نقيضه، فالإقبال على الآخرة هو زيادة من الهدى، ونقصان من العمى وهوالزيادة في الدنيا، والشغل بها.
(واعلموا أنه ليس على أحد): من الخلق كلهم.
(بعد الفرقان من فاقة): جوع إلى غيره لما فيه من الكفاية عمَّا سواه، والاستغناء به في جميع أموره الدينية والدنيوية.
(ولا لأحد قبل القرآن من غنى): أي الغنى منتفٍ عن كل أحد قبل نزول القرآن، وهذا يصدق قوله تعالى في وصف كتابه الكريم: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }[الأنعام:38] وبأنه نور وشفاء، وأنه يهدي للتي هي أقوم والتي هي أحسن، وغير ذلك من الصفات.
(فاستشفوه من أدوائكم): أي اطلبوا منه الشفاء من جهته، ومن عنده عمَّا يصيبكم من الأدواء وهي: الأمراض.
(واستعينوا به على لأوائكم): أي واطلبوا منه الإعانة، على ما يعتريكم من الشدة في الأمور كلها.
(فإن فيه شفاء من أكبر الداء): أعظمه، وأكبره فساداً للدين.
(وهو الكفر): بالله والشرك به؛ لما تضمنه من الدلالة على التوحيد، وإبطال عبادة غيره، والرد عليهم في ذلك.
(والنفاق): وبما أكثر الله على المنافقين من الرد والا ستهانة لأحوالهم، في غير آية لما فيه من البشاعة والسماجة .

(والغي والضلال): الغي بالغين بنقطة من أعلاها: خلاف الرشد، قال الله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ }[البقرة:256]، والضلال هو: الميل عن الحق، وأراد أن في القرآن سلامة من هذه الأمور كلها وبُعْداً عنها، والوقوف على مراد الله تعالى، وسلوك منهاجه.
(واسألوا الله به): لمكان حرمته عنده، وحقه عليه.
(وتوجهوا إليه بحبه): اجعلوا محبة القرآن وجهة إلى الله في قضاء حوائجكم، أي اتخذوه وُصلة وذريعة إلى ذلك.
(ولا تسألوا به خلقه): لأمرين:
أما أولاً: فلأن ما يسأل به من جهتهم حقير من مطالب الدنيا، وقدره أعلى وأجلَّ من ذلك.
وأما ثانياً: فلأنهم لا يعرفون حقه، فلا ينبغي أن يسألوا به لجهلهم بحقه.
(إنه ما توجه العباد إلى الله بمثله): في جلالة القدر والحرمة، وعظم الموقع له عند الله، وفي هذا دلالة على شرفه على غيره من المخلوقات التي عظَّمها الله تعالى وشرَّفها، ورفع مكانها نحو الكعبة والسماء، والأرض، والطور، والبيت المعمور، وغير ذلك من الأمكنة المشرفة، والأزمنة المباركة، والأشباح الفاضلة.
(واعلموا أنه شافع): لمن استشفع به.
(مشفَّع): فيما شفع فيه.
(وقائل مصدَّق): فيما نطق به، فما شهد به فهو صدق، وما قاله وتضمنه فهو حق.
(وأنه من شفع له القرآن يوم القيامة) : برفع الدرجة والسلامة.
(شفِّع فيه): كان مقبولاً فيما قاله، ونطق به.
(ومن محل به القرآن يوم القيامة): سعى به أوجادله، والْمِحَالُ: الجدال، قال الله تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }[الرعد:13].
(صُدّق عليه): كان ما قاله القرآن فهو الصدق لا محالة.
(فإنه ينادي [منادٍ] يوم القيامة): يعلن على رءوس الأشهاد:

(ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله): ممتحن في كدِّه وكدحه وسائر أعماله، تعرض له البلاوي والامتحانات كلها.
(غير حرثة القرآن): إلا العاملين بالقرآن، وأهل الدرس له، والمسهرين لياليهم في تلاوة ألفاظه، فإنهم لا تلحقهم البلوى ولا تعتريهم الامتحانات، بل في أمان من ذلك، لا يخافون خوفاً ولايتصل بهم.
(فكونوا من حرثته): العاملين به والمتعبين لأنفسهم فيه.
(وأتباعه): والتابعين له في امتثال أوامره ونواهيه.
(واستدلوه على ربكم): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد استدلوا به على أحكام الله تعالى التي تعبدكم بها من الإيجاب، والتحليل والتحريم والندب، وغير ذلك مما شرعه لكم.
وثانيهما: أن يريد استدلوا بالأدلة التي قررها فيه على وجود الصانع وتوحيده، فإن الله تعالى قد رصف الأدلة في القرآن الدا لة على وجوده وتوحيده رصفاً، وبيَّنها فيه بياناً، لا تتسع له القوى البشرية، ولا تقدر عليه الفطن الآدمية، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ}[آل عمران:190]، وهكذا ماقاله في سورة الروم في مثل قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا...}[النمل:61] إلى آخر هذه الآيات، فإن فيها دلالة باهرة على وجوده وإثباته، وهكذا ما ذكره الله تعالى في غير آية من ذلك، ولو ذهبنا نستقصي ذلك لطال الكلام فيه، ولم نقف له على غاية.
(واستنصحوه على أنفسكم): أي اطلبوا النصيحة منه، فهو دال عليها لأنفسكم.

(واتَّهموا عليه آراءكم): أراد أنه إذا دلَّ على شيء، ودلَّت الآراء على خلافه ونقيضه فهو الدال على الصواب، وهي متهمة بالإضافة إليه؛ لكونه حقاً وغيره غير حق.
(واستغشُّوا عليه أهواءكم): أي أنه إذا دلَّ على شيء فهو صريح فيما دلَّ عليه، ودلالة الهوى فيما تدلُّ عليه مغشوشة، بالإضافة إليه.
(العمل العمل): أي الزموا العمل الصالح وافعلوه.
(ثم النهاية النهاية): وهي إما القيامة، وإما الموت، فاعملوا من أجل ذلك وبادروه.
(ثم الاستقامة الاستقامة): على الدين والتزام أحكامه.
(ثم الصبر الصبر): إما على البلاوي، وإما على التكليف وأحكامه، فإن الله مع الصابرين بالإعانة والتأييد والنصر.
(والورع الورع!): فإنه أساس الدين وقاعدة مهاده، وفي الحديث: ((مِلاكُ الدين الورع )) ، وفي حديث آخر: ((لو صمتم حتى تكونوا كالأوتار ، وصليتم حتى تكونوا كالحنايا، ما قُبِلَ ذلك منكم إلا بورع حاجز)) .
(إن لكم نهاية): غاية تنتهون إليها وتقفون عندها.
(فانتهوا إلى نهايتكم): أراد أن الإنسان مأخوذ عليه في تزكية نفسه، وتحصيل أسباب السعادة الأبدية، والزلفى عند الله وأن له نهاية من ذلك ينتهي عندها، فينبغي منه الاجتهاد حتى يبلغ إليها ويصل.
(وإن لكم علماً): أدلة واضحة على الدين والإسلام.
(فاهتدوا بعلمكم): فَأْتَمّوا به من غير مخالفة له، وقد ورد مثل هذا عن الرسول عليه السلام:((إنَّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم )) .
(وإن للإسلام غاية): حداً لايكون الإنسان مسلماً إلا بإحرازه وتحصيله.
(فانتهوا إلى غايته): فصلوها وأحرزوها حتى تكونوا مسلمين.

(واخرجوا إلى الله مما افترض عليكم من حقه): اعطوه ما أوجب عليكم من هذه الواجبات، من قولهم: خرجت إلى فلان من دَيْنِهِ إذا أوفيته إياه وهو مجاز هاهنا، ومن الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض.
(وبيَّن لكم من وظائفه): وهو ما قدَّره عليكم من هذه العبادات في اليوم والليلة، وسنَّ لكم من هذه السنن المشروعة، إما بالإضافة إلى الأيام والليالي كالسنن الرواتب للصلاة المفروضة، وإما بالإضافة إلى الأسابيع في الأيام، نحو الغسل يوم الجمعة ، والصلاة المنقولة فيها ، وإما بالإضافة إلى الأعوام، نحو صلاة الرغائب في رجب، وصلاة الشعبانية ، وغير ذلك من الوظائف والتعبدات.
(أنا شاهد لكم): إما بالفوز والنجاة عند امتثال أوامري، والانكفاف عمَّا أنهى عنه، أو بالجنة على الله تعالى وتوفية أجوركم.
(وحجيج يوم القيامة عنكم): أدافع عنكم يوم القيامة إن قَبِلْتُم ما أقوله، واستمعتموه بوعي وإصغاء.
(ألا وإن القدر السابق قد وقع): أراد أن الأمور التي سبق في علم الله تعالى وقوعها في الأزمنة المستقبلة فما هو كائن قد وقع، وأراد نبوة الرسول وما كان قد وقع من ذلك من الخلافة.
(والقضاء الماضي قد تورد): وما كان من الأقضية السابقة الأزلية من ذلك فقد حضر وقته، وغرضه من هذا هو أن ما كان من الأقدار المنتظرة، والأقضية الماضية، فهو كائن وواقع لا محالة.
(وإني متكلم بِعَدِة الله وحجته): مصرِّح بما وعد الله أولياءه، وناطق بحجج الله على الخلق وموضحها لهم؛ لئلا يكون للخلق حجة على الله تعالى .
وفي بعض النسخ: (وإني متكلم بعد الله): أي بعد ما تكلم الله بكلامه ومبلِّغه إياكم.

وحجته أي وأنا حجة لله تعالى على الخلق كما كان الرسول حجة على الخلق في إبلاغ ما يبلِّغ من الشرائع والأحكام، ثم تلا عليه السلام عقيب كلامه قوله تعالى:
({إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا })[فصلت:30]: على ما أمروا به من الدين والتوحيد.
({تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}) [فصلت:30].
ثم قال:
(ولقد قلتم: {رَبَّنَا اللهُ}): يريد أقررتم لله تعالى بالربوبية.
(فاستقيموا على كتابه): بتقرير أحكامه، والائتمار بأوامره، والوقوف على حدوده.
(وعلى منهاج أمره): الطريقة التي أمر بسلوكها.
(وعلى الطريقة الصالحة من عبادته): بإخلاص العبادة له، وإقامة أمر الديانة لوجهه.
(ثم لا تمرقوا منها): تخرجوا، من قولهم: مرق السهم من الرمية إذا جاوزها وخرج عنها.
(ولا تتبدعوا فيها): تحدثوا فيها أموراً لم تدل عليها السنة، ولا أوضحتها دلالة، ولا قام عليها برهان واضح.
(ولا تخالفوا عنها): تنازعوا فيها وتختلف آراؤكم من أجلها، والضمير للطريقة.
(فإن أهل المروق): الخارجين عن الدين.
(منقطع بهم يوم القيامة): إما عن الجنة، وإما عن النجاة فيهلكون.
(عند الله): في علمه وحكمه.
(ثم إياكم وتهزيع الأخلاق وتصريفها): التهزيع: التكسير، تقول: هزعت الشيء إذا كسرته، والتهزيع أيضاً: الإسراع في المشي، يقال: مرَّ يهزع، وأراد ها هنا تبديل الأخلاق والتردد فيها، وفي الحديث: ((نهى رسول الله[ صلى الله عليه وآله وسلم] عن ذي الوجهين وذي اللسانين))، وتصريف الأخلاق: اختلافها، وكله مذموم في صاحبه.

(واجعلوا اللسان واحداً): في كل ما نطق به من غير مخالفة.
(وليختزن الرجل لسانه): عن الكلام فيما لايعني، ولا يعود عليه بفائدة.
(فإن هذا اللسان جموح بصاحبه): أي غالب له، وتعديته بالباء تعويلاً على معناه؛ لأن المعنى أنه ذاهب بصاحبه إلى الأخطاروالمهالك؛ كالفرس الجموح الذي لا يملك راكبه رأسه فربما ألقاه في مهلكة.
(والله ما أرى عبداً يتقي بتقوى حتى يختزن لسانه): حتى هذه متعلقة بكلام محذوف تقديره: يتقي بتقوى، فيكون ناجياً عند الله؛ حتى يختزن لسانه: يستره عن الكلام وكثرته فيما لا يجدي، وفي الحديث: ((ألا وإن كلام العبد كله عليه لا له إلا ذكراً لله تعالى، أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر)) .
(فإن لسان المؤمن من وراء قلبه): أي أن قلبه مالك له، وآخذ بحجزته .
(وإن قلب المنافق من وراء لسانه): مالك له، وآخذ بحجزته.
ثم فسر كلامه هذا بقوله:
(لأن المؤمن إذا أراد أن يتكلم بكلام): إذا همَّ بكلام وأراد أن ينطق به، فإنه:
(يُدبِّره في نفسه): يكرره على فكره مرة بعد مرة، وساعة بعد ساعة، لا يمضيه إلا بفكر ونظر في عاقبته.
(فإن كان خيراً): مطابقاً للصلاح، موافقاً للدين.
(أبداه): أظهره وتكلَّم به.
(وإن كان شراً): فيه مفسدة وخلاف للدين.
(واراه): ستره ولم يظهره ولا ينطق به.

(وإن المنافق): وهو الذي يظهر الدين ويكتم الكفر ولا يظهره، فهذه أمارة النفاق وعلامته، وعلى هذا كانت عادة المنافقين في أيام الرسول عليه السلام فإنهم كانوا يظهرون الإسلام على ألسنتهم، ويتكلمون بالشهادتين، وإذا خلوا أظهروا ما يكتمونه من الكفر بالله، والجحدان لنبوة الرسول، وقد فضحهم الله تعالى في غير آية، وأظهر ما يكتمونه من ذلك، ولولم يكن من ذلك إلا ما تضمنته سورة التوبة لكان كافياً.
(يتكلم بما أتى على لسانه): عن وشيج من غير تفكر، وتدبّر لعاقبته، ولكنه يرمي به رمياً من غير فطانة وتثبت .
(لا يدري ما يقول): لا يعلم بقوله، ولا يتحقق حاله.
(وماذا له): فينطق به ويغتنمه.
(وماذا عليه): فيسكت عنه ويحجم، ولا يفوه به.
(وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)) ): فإيراده عليه السلام لهذا الحديث من جهة الرسول، معتضداً به، مقوياً لكلامه به.
(فمن استطاع منكم أن يلقى الله سبحانه): يلاقيه يوم القيامة.
(وهو نقي الراحة من دماء المسلمين وأموالهم): سالماً عن قتلهم بغير حق، وأخذ أموالهم ظلماً وعدوانا.
(سليم اللسان عن أعراضهم): في الغيبة، والنقص لهم في ذلك.
(فليفعل): فإنه أسلم لدينه، وأحمد لعاقبته عند الله تعالى.
(واعلموا عباد الله أن المؤمن يستحلُّ العام ما استحلَّ عاماً أول، ويحرِّم العام ما حرَّم عاماً أول) : فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن المؤمن لما اعتقد أن الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، فإنه لا يحدث في نفسه شيئاً مما يخالف ذلك، ولا يقبل ما أحدثه غيره.

95 / 194
ع
En
A+
A-