اعلم : أن التحكيم كان سبباً للطعن للخوارج في إمامة أمير المؤمنين، وإبطال ولايته وسبباً لإكفاره من جهتهم، وخطأهم في هذا، وضلالهم يظهر من أوجه:
أما أولاً: فلما قد تقرر من ثبوت إمامته باتفاق منهم، وإذا كان الأمر في إمامته مقطوعاً به فلا وجه لإبطالها بعد تقررها وثبوتها، بالأمور التي لا يقدح في بطلانها وثبوتها، وما ذكروه من [أمر] التحكيم، لايسلَّم قبحه فضلاً عن أن يكون موجباً لكفره، أو فسقه أو بطلان ولايته.
وأما ثانياً: فلما ورد في خبر عمار: ((تقتلك ياعمار الفئة الباغية )) وهو مقتول في صفه لا محالة.
وأما ثالثاً: فقوله: ((تقاتل الناكثين، والقاسطين، والمارقين )) وما قاتلهم أحد سواه.
وأما رابعاً: فقوله: في ذي الثُّديَّة : ((يقتله خير الناس )) .

وأما خامساً: فالأخبار الدّالّة على فضائله، فإنها دالَّة على سلامة العاقبة في حاله في كل حالة، وعلى كونه من أهل الجنة بلا مرية، فإذا كان الأمر كما قلناه بطل قولهم: إن أمرالتحكيم يكون كبيرة يوجب قطع الموالاة في حقه؛ لأن ما هذا حاله من الأفعال فهو محتمل لأن يكون حسناً، وأن يكون قبيحاً، ثم إذا كان قبيحاً فحاله محتمل لأن يكون صغيراً، وما هذا حاله من الأفعال فإنه لا يزيل الولاية، ولايقطع الموالاة الثابتة بالقطع، ولا الولاية المتقررة، ثم نقول: ليس يخلو ما ذكروه من الخطأ إما أن يكون واقعاً في نفس التحكيم من أصله، أو يقع في الحكمين أنفسهما، حيث حكمَّ من ليس أهلاً لذلك، أو يكون واقعاً في نفس الفعل الذي وقع من أجله التحكيم، وأنه لا يحل وقوع الحكم فيه، أو غير ذلك من الوجوه المحتملة فيه، وهذا كله فاسد، فإن الإمام إذا كانت إمامته ثابتة صحيحة، فأمور الأمة كلها منوطة إلى رأيه وموكولة إلى استصوابه، فإذا غلب على ظنه صلاح لهم في أمر من الأمور جاز فعله، ولا يعترض عليه في شيء من ذلك، ولا يكون ما فعله خطأ، وفيما ذكرناه دلالة كافية على حسن ما فعله أمير المؤمنين من التحكيم، وأن إعراض الخوارج خطأ وضلال، ومجانبة لطريق الحق وخروج وانسلال.
سؤال؛ إن كل من حاربه أمير المؤمنين من أهل القبلة كأصحاب الجمل، ومعاوية وأصحابه، وجميع فرق الخوارج كانوا مقرِّين بالتوحيدوالنبوة والقرآن، وجميع أحكام الإسلام والدين، ملتزمون لها فكيف لم يتركهم عن المحاربة، ويخلِّيهم وهذه الآراء وفي ذلك تسكين الدهماء وحقن الدماء؟

وجوابه؛ هو أن هذه هي شبهة من توقف في متابعته لما حارب أهل القبلة، وهذا خطأ، فإنه عليه السلام إنما التزم قتالهم دفعاً للمضارِّ الدينية والدنيوية؛ لأنه علم من حالهم أنه إن تركهم على ما هم عليه أدَّى ذلك إلى بطلان الإمامة، وبها يتعلق نظام الدين وبطلان ما يتعلق من أحكام السنة ، وفيه انتظام المصالح الدنيوية، ولهذا قال: (ما رأيت إلا حربهم أوالكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وآله وسلم ) ولهذا كان يبدأهم بالنصيحة قبل القتال، ويدعوهم إلى السداد والصلاح، وطريق الاستقامة على الدين ويلاطفهم غاية الملاطفة، وكان لا يبدأهم بقتال، ولما كان يوم صفين أنظرهم وتأنَّى في أحوالهم، فلما يئس من ذلك نادى بأعلى صوته:
(يا أهل الشام، قد توقفت لترجعوا إلى الحق وترجعوا إلى الله تعالى وتنيبوا واحتججت بكتاب الله تعالى، فلم تتناهوا، ألا وإني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين) ثم تقدم للا ستعداد والمحاربة، وقال لأصحابه:
(اتقوا الله، وغضوا الأبصار ) ثم قال:
(اللَّهُمَّ، ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وعظَّم لهم الأجر) . فهذه الطريقة معروفة من سياسته تدل على ما قلناه من أن حربه لهم إنما كان على جهة دفع الضرر عن الدين والدنيا، وأن تركها يكون خطأ ومعصية فبطل ما قالوه .

(169) ومن خطبة له عليه السلام في ذم أصحابه
(أيها الغافلون): عن إتيان ما يصلحهم في الآخرة من الأعمال الصالحة.
(غير المغفول عنهم): أي وليس مغفولاً عنهم بالتحفظ على الأعمال، والمراقبة للأحوال كلها.
(والتاركون): لأخذ الأهبة من زاد الآخرة، والتأهب لها.
(والمأخوذ منهم): أي وقد أخذ عليهم شكر النعم، والاهتمام بالطاعات لله تعالى.
(ما لي أراكم عن الله ذاهبين): عن طاعة الله تعالى، والقيام بواجباته، والكفِّ عن محارمه، والمحافظة على حدوده كلها.
(وإلى غيره راغبين!): ولا ترغبون إليه كرغبتكم إلى غيره في منفعة يسيرة، ونيل حطام قليل، وغرضه من ذلك هو أن الواحد إذا طمع في نيل منفعة من غيره فإنه يتهالك في رغبته إلى ذلك الشخص، ويتواضع له تواضعاً كبيراً، وهي في الحقيقة من جهة الله تعالى، لأنه لولا الله ما كان ذلك النفع من جهة ذلك الشخص، ولا يرغب إلى الله تعالى في أمر عظيم، وهو الجنة كرغبته هنالك، فلهذا قال: (وإلى غير الله راغبين) يشيربه إلى ما قلناه.
(كأنكم نَعمٌ): النعم اسم جمع، ويجمع على أنعام، قال الله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ }[النحل:5] ويجمع على أناعيم، وهي: السوائم المرعية، وأكثر ما تقع على الإبل، قال الفراء: هو مذكر لا يؤنث يعني النعم، يقال : هذا نعم، وأراد وأما الأنعام فتذكر وتؤنث.
(أراح بها سائم إلى مرعى وبي): أراح الإبل إذا ردَّها إلى المُراح، والمُراح بضم الميم: مأوى الإبل، وبفتحها هو المصدر ويكون للموضع أيضاً، والسائم هو: الذي يسيمها أي يرعاها، والوباء هو: الوخم.

(ومشرب دويّ): أي ممرض، والدويّ مقصور هو: المرض، وغرضه من هذا كله أنه حصل لهذه الأنعام في مآكلها ومشاربها الوباء، ومع ذلك لا بقاء لها.
سؤال؛ ما وجه هذا التشبيه بالأنعام، ومشربها ومرعاها؟
وجوابه؛ هو أنه شبَّه الخلق في كثرتهم وإسراع الموت فيهم بمنزلة إبل كثيرةوقعت في مراعي وخيمة، ومشارب متلفة فأسرع إليهم المرض والهلاك، فهم على هذه الحالة في إسراع الموت فيهم، ومن بديع التشبيه قول بعضهم:
الشمسُ من مشرقِها قدبدت
كأنَّها بوتقةٌ أحميت
... مشرقةً ليس لها حاجبُ
يجولُ فيها ذهبٌ ذائبُ
فشبَّه الشمس في حركتها وصقالتها وتحركها وصفائها بالبوتقة؛ لمافي الذهب من النعومة.
(إنما هي كا لمعلوفة للمدى): الضمير للنعم، والمدى جمع مدية وهي: الشفرة، والمعلوف من البهائم: ما كان حاصلاً في البيت لا يفارقه.
(لا تعرف ما يراد بها‍!): أي وقت يكون ذبحها ونحرها ، فهكذا حالنا بالإضافة إلى الموت لا يدري واحد منَّا متى يقدم عليه، وفي أي وقت يكون هلاكه.
(إذا أُحْسِنَ إليها): بالإطعام والشرب، والتعهد لأحوالها.
(تحسب يومها دهرها): إما في الرخاء والدعة، وإمافي الدوام والبقاء والاستمرار، وأراد أنها إذا نعِّمت يومها هذا التي هي فيه تظن جهلاً أن دهرها يكون كذلك.
(وشَبعها أمرها): واكتفاؤها من الطعام، وهو الشبع هو نهاية أمرها وقصارى حالها في ذلك.
(والله لو شئت أن أخبر كل رجل منكم): أعلمه وأقرره في نفسه.
(بمخرجه ومولجه): المخرج والمولج يراد بهما الزمان والمكان جميعاً، وأراد مكان خروجه وولوجه أوزمانهما.
(وجميع شأنه): أحواله كلها.
(لفعلت): لكنت متمكناً من ذلك، إشارة إلى المذكور أولاً من المخرج والمولج.

(ولكن أخاف أن تكفروا برسول الله[ صلى الله عليه وآله وسلم] ): فيه وجهان:
أحدهما: أنه إذا أخبرهم بها لحقهم غم شديد، و أسف عظيم علىذلك فلايمتنع أن يكون ذلك سبباً في الردة وإنكار النبوة للرسول، وجحدها لفرط ما يصيب من ألم ذلك الأمر وشدته.
وثانيهما: أنه لو أخبرهم بأمور لا يمتنع أن يلحقهم فيها تكليف عظيم من جهة الله تعالى، وأثقال وآصار بتحملها فيؤدي ذلك إلى ردِّها والإعراض عنها، فيكون في ذلك إنكار لما أمر به الرسول، وردُّ لمقالته فيكون ذلك كفراً، ومما يقرب من إفادة كلامه هذا، قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[المائدة:101] تغمُّكم وتحزنكم أويصعب عليكم فعلها وأداؤها {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ }[المائدة:101] يأتي الوحي من جهة الله تعالى {تُبْدَ لَكُمْ} يظهرها الله {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا }[المائدة:101] عن مسألتكم [هذه] وصفح، وذلك ما روي أن سراقة بن مالك قال: يارسول الله، الحج علينا كل عام، فأعرض عنه رسول الله حتى أعاد ذلك ثلاث مرات، فقال رسول الله: ((ويحك! وما يؤمِّنك أن أقول: نعم، والله لو قلت: نعم لوجب ، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمرفأتوا به ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) .
(ألا وإني مفضيه إلى الخاصة): ذوي العقول والأديان، والعلوم الراسخة.
(ممن يؤمن ذلك منه): الإشارة إلى الكفر، يريد أني أُعلم به من لا يكفر ولا يرتدّ، بل يكون ثابتاً في الدين راسخاً فيه قدمه.

(والذي بعثه بالحق): بالتوحيد، والعلوم الدينية.
(واصطفاه على الخلق): اختاره منهم.
(ما أنطق): بكل ما قلته مما ذكرته لكم.
(إلا صادقاً): فيه لاأكذب أبداً.
(ولقد عهد إليّ بذلك كله): أخبرني به، وأقرّه في قلبي.
(وبمهلك من يهلك): أراد بقتل من يقتل، وبموت من يموت، وإما بهلاك من يهلك في النار.
(وبمنجى من ينجو): أراد إما من الفتن والمحن كلها، وإما من الناربدخول الجنة.
(ومآل هذا الأمر): المآل: المرجع أي وما يرجع إليه في عاقبته، وكيف يكون مصيره.
(وما أبقى شيئاً يمرُّ على رأسي): من أحوال هذه الفتن، وجري هذه الحوادث من مبدأها إلى منتهاها.
(إلا وفرغه في أذني): أقرَّه في سمعي فسمعته ووعيته.
(وأفضى به إليََّ): أظهره إليَّ، والفضاء هو: الظهور.
(أيها الناس): خطاب عام.
(إنّي والله ما أحثكم على طاعة): مما يراد به وجه الله تعالى، وابتغاء مرضاته، والتقرب إليه.
(إلا وأسبقكم إليها): بالفعل والتحصيل لها.
(ولا أنهاكم عن معصية): عمَّا ينكره الله، وينهى عنه.
(إلا وأتناهى قبلكم عنها): أنهي نفسي عنها قبل نهيكم عنها، واتصال قوله: ما آمركم بطاعة... إلى آخره بما قبله فيه وجهان:
أما أولاً: فبأن يكون من باب الاستطراد، وهو الإتيان بكلام بعد كلام لا تعلق له بالأول، وقد ذكرناه غير مرة في كلامه ونبَّهنا عليه.
وأما ثانياً: فلأنه لما ذكر ما عرَّفه به رسول الله من العلوم الغيبية عقَّب بالحث على الطاعة والفرار من المعصية، وعطفه عليه؛ لأنه نوع منه من حيث كان عليه السلام لا يُعَلِّم إلا بما يكون طاعة لله تعالى، ويكون سبباً للفرار من معصيته، فلهذا عطفه عليه.

وقد نجز غرضنا من شرح كلامه هذا على ما اشتمل عليه من الأسراروالمعاني، والحمدلله.
ولله دَرُّ نصائح أمير المؤمنين فيما بذله للخلق، وأعلاها وأحقها برضوان الله ومطابقة مراده وأولاها، فلقد نال من الله عظيم الزلفة، وعلو الدرجات، وفاز بما بذله في ذاته من عظيم الأجر، ومضاعف الحسنات.

(170) ومن خطبة له عليه السلام في الوعظ
(انتفعوا ببيان الله): بالأدلة التي نصبها وقررها، فالأدلة العقلية دالة على وجوده وتوحيده والأدلة الشرعية دلالة على المصالح والمفاسد من دينه.
(واتعظوا ب‍مواعظ الله): التي جاءتكم في كتابه، وعلى ألسنة الرسل من إهلاك من سلف من القرون الماضية، والأمم الخالية، من أجل المخالفة بالعقوبات العظيمة، والنكالات الشديدة فاحذروا مثل حالهم.
(واقبلوا نصيحة الله): النصح: خلاف الغش، وأراد أنه تعالى بما قرر في العقول وأوضحه على ألسنة الرسل من الهداية إلى الخير، والتحذير من الشر كان في غاية النصح؛ إذ لا نصح أعظم من ذاك، ولا أبلغ.
(فإن الله تعالى قد أعذر إليكم بالجلية): بالغ في قطع المعذرة، والجلية فعيلة وهو: الخبر اليقين، ومنه قولهم: جلَّى لي الأمر إذا أوضحه.
(واتخذ عليكم الحجة الواضحة): الاتخاذ افتعال من الأخذ، يقال: أخذت عليه أن يفعل كذا أي ألزمته، وأراد أن الله تعالى أ لزمهم الحجة الواضحة، وأظهرها لهم وبيَّنها على ما أراد.
(وبيَّن لكم محابَّه من الأعمال): ما يحبه من الأفعال، فطلبه وأمركم بتحصيله من واجب أو مندوب.
(ومكارهه منها): والذي يكرهه من ذلك، فنهاكم عنه، وحذركم عن فعله من قبيح أو مكروه.
(لتتبعوا هذه) الإشارة إلى الأفعال المحبوبة.
(وتجتنبوا هذه): أي الأفعال المكروهة.

(فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: ((حفت الجنة بالمكاره ))): أي أحيط حولها، (((والنار حفت بالشهوات))) : أي أحيط حولها، وإنما أورد عليه السلام كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بياناً لما ذكره من محابِّ الله ومكارهه، من الأعمال كلها، أي مما كان مكروهاً من الأعمال شاقاً فعله، فهو مما تطلب به الجنة؛ لما يقع فيه من الثواب، وما كان مشتهى لذيذاً فعله فهو من هوى النفس ومرادها، وهو مما يورد النار لا محالة.
(واعلموا أنه مامن طاعة الله شيء إلا يأتي في كره): أراد أنه لا طاعة لله تعالى في أمر من الأمور إلا وتلحقها المشقة في فعل أو كف، فتكون تلك المشقة سبباً للثواب.
(وما من معصية الله في شيء إلا يأتي في شهوة): يريد أن أكثر المعاصي كلها إيثار لهوى النفس، وهو من جملة ما يشتهى [ويودُّ] ، فلا جرم كانت المعاصي مشتهاة كما ذكر.
سؤال؛ كيف قال ها هنا: (إن الطاعة لا تأتي إلا في كره)، وقد يشتهي الإنسان فعل الصلاة، وقال: (إن المعصية لاتأتي إلا في شهوة) وقد يكون عاصياً بالظلم وفيه إتلاف النفس والتغرير بها في الهلاك؟
وجوابه؛ هو أن الغرض أن الطاعة لا تنفك عن الكراهة، والمعصية لاتنفك عن الشهوة، فالإنسان وإن اشتهى الطاعة في وجه، فالكراهة تتعلق بها من أوجه، وهكذا إنه وإن نفر عن المعصية من وجه فهي مشتهاة من أوجه أخر غير ذلك، ومراده من ذلك هو أن الطاعة غير منفكة عن الكراهة، وأن المعصية غير منفكة عن الشهوة، وهذا حاصل بما قررناه.
(فرحم الله رجلاً نزع من شهوة ): هذا دعاء بفعل الرحمة، وهي اللطف، ونزع أي زال عن الشهوة وأقلع، من قولهم: فلان قد نزع عن فعل الشر.

94 / 194
ع
En
A+
A-