(وانقطع سرورهم ونعيمهم): ذهب ما كان يلحق أفئدتهم من السرور بالنفائس، والتحف والطُّرف، وما كان يلحق أجسامهم من النعيم والراحة.
(فَبُدِّلُوا بقرب الأولاد): فَجُعِلَ لهم، وعُوْضُوا عن قرب الأولاد، وفرحهم بهم بعدهم [عنهم] ، وهو:
(فَقْدَها، وبصحبة الأزواج): مصاحبتها والأنس إليها والمودة لها، زوالها وانقطاعها، وهو:
(مفارقتها): وهذا من الطباق المحمود عند فرسان علماء البيان، وهو ذكر النقيضين في القرب والبعد.
(لا يتفاخرون): بكثرة مال، ولاعدد عشيرة.
(ولا يتناسلون): بكثرة الأولاد، والصهور.
(ولا يتزاورون): مع قرب التجاور.
(ولا يتجاورون ): يفعلون أفعال الجيران من التباذل، والتناصر، والتعاضد.
(فاحذروا عباد الله): إنما كررذكرالحذر مبالغة في ذلك، وتأكيداً لأمره.
(حذر الغالب لنفسه): عن الانقياد لهواه والقاهرلها عن اتباعه.
(المانع لشهوته): عن أن تكون مستولية عليه فتهلكه.
(الناظر بعقله): في عواقب الأمور وأحوالها وما تؤول إليه.
(فإن الأمر): في جميع ما ذكرته من أحوال الدنيا وانقطاعها، ودوام الآخرة واستقرارها.
(واضح): جلي لالبس فيه على أحد.
(والعلم قائم): العلم واحد الأعلام، وهي: منارات الطرق، وأراد أن أعلام الدين واضحة قائمة لااعوجاج فيها، ولالبس على سالكها، وهو مجاز هاهنا.
(والطريق جدد ): أي مستوي لازيغ فيها ولاميل.
(والسبيل قصد): أي مستقيم عادل.
وفي هذه الخطبة من الوعظ المحيط بالأغراض الدينية، والمستولي على المقاصد الأخروية، في ذم الدنيا وصفة أحوال من مضى مافيه شفاء الأمراض والعلل، ويرتاح القاصد إليه في شربه بين العلِّ والنهل .

(152) ومن كلام له عليه السلام لبعض أصحابه، وقد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال له:
(يا أخا بن‍ي أسد): وكان السائل أسدياً.
(إنك لقلق الوضين): الوضين للهودج بمنزلة البطان للقتب، جعله ها هنا كناية عن خفة حلمه وطيش عقله، كما جعلوا قولهم: كثير الرماد كناية عن كرمه، ورحب المقلد كناية عن طول قامته.
(ترسل): كلامك.
(في غير سَدَدٍ): صواب ورشد.
(ولك بعد): هذا يعدُّ ظرف من ظروف الزمان مقطوع عن الإضافة وهو مبني على الضم، وتقدير مضافه: ولك بعد كل حق لك.
(ذِمامَة الصِّهر): الذِّمامة بكسر الذال المنقوطة من أعلاها هي: الحرمة، والصِّهر هم: أهل بيت المرأة وأقاربها.
عن الخليل قال: ومن العرب من يجعل الصهر من أقارب الزوج وأهله ، ويحكى أن السائل كان من أقارب ليلى بنت مسعود ابن خالة امرأة أمير المؤمنين .
(وحق المسألة): وفي الحديث: ((من كتم علماً وهو يعلمه ألجمه الله بلجام من نار )) ، والمعنى أن لك حق الصهورية والمسألة بعد كل حق، فلهذا توجهت إجابتك وتعيَّن علينا حقها.
(وقد استعلمت فاعلم): وقد طلبت الإعلام عمَّا سألت عنه، فافهم ما أقول لك:
(أما الا ستبداد علينا بهذا المقام): أما أخذهم علينا الإمامة.
(ونحن الأعلون نسباً): المختصون بأشرف الأنساب وأعلاها؛ لقربنا من رسول الله، وانتصاب نسباً على التمييز.
(والأشدون بالرسول نَوْطاً): النوط: ما يناط بغيره ويعلق به كالقدح والعلبة وغير ذلك، وأراد ها هنا وأعظم الخلق تعلقاً بالرسول، وأقربهم إليه.
(فإنها كانت): الضمير للإمامة.
(أثرة): الأثرة هي: الاسم من الا ستئثار.
(شحت عليها): حرصت عليها.

(نفوس قوم): ولهذا عداه بعلى؛ لأن الحرص من لوازم الشح.
(وسخت عنها): أي طابت عنها.
(نفوس آخرين): يشير بكلامه هذا إلى أن الصحابة بعد موت الرسول عليه السلام انقسموا، فقائلون: إن الإمام هو أمير المؤمنين، كالزبير، وسلمان، والمقداد، وأبي ذر، وغير هؤلاء من جلة الصحابة وأكابرهم، وآخرون قالوا: إن الإمام هو [أبو] بكر مثل عمر، وأبي عبيدة بن الجراح، وغيرهما من الصحابة، فلهذا قال:
(شحت عليها نفوس قوم، وسخت بها نفوس آخرين).
(ونعم الحَكَمُ الله): فإنه العالم بمن [هو] أهل لها، وقائم بأحكامها.
(والمعود إليه يوم القيامة): المرجع إليه هو الوقوف بين يدي الله في ذلك اليوم، وفيه قطع الخصومة وفصل الشجار، وكلام أمير المؤمنين دالٌّ على موجدة في صدره على القوم فيما كان منهم من الا ستئثار، من غير أن يصدر منه قول أوفعل يثلم الدين، ويكون قاطعاً للموالاة، وهذا هو الذي عليه أفاضل أهل البيت وعلماؤهم، و[هو] يحكى عن زيد بن علي أنه قال: البرآءة من أبي بكر وعمركالبرآءة من علي، إن شئت فتقدَّم، وإن شئت فتأخر.
ويحكى عن الباقر أيضاً أنه قال: من شكَّ فيهما كمن شك في السنة، بغض أبي بكر وعمر نفاق، وبغض الأنصار نفاق، إنه كان بين بني عديٍّ وبني تيم، وبين بني هاشم شحناء في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تحابُّوا، حتى كان أبو بكر يشتكي خاصرته، فيسخن علي يده في النار، ثم يضمد بها على خاصرة أبي بكر حباً له، ونزل القرآن: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ }[الحجر:47].

وعنه أيضاً أنه سئل عن أبي بكر وعمر؟، فقال: مسلمان هما رحمهما الله، فقال له السائل: أتولاهما وأستغفر لهما؟، فقال: نعم، فقال: أتأمرني بذلك؟ فقال: نعم، ثلاث مرات، فما أصابك من ذلك فعلى عنقي، ووضع يده على عنقه.
وأحاديث كثيرة في توليهما، وهذا هو المعتمد عليه عند أكابر أهل البيت .
وعن سالم بن أبي حفصة قال: دخلت على جعفر بن محمد أعوده وهو مريض، فقال: اللَّهُمَّ، إنّي أحبُّ أبا بكر وعمر وأتولاهما، اللَّهُمَّ، إن كان في نفسي خلاف ذلك فلا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة.
فأين هذا عن هذيان الروافض والجارودية!، فالله حسبهم فيما قالوه، ومكافأتهم على ما نقلوه وكذبوه!.
ثم تمثل أميرالمؤمنين ببيت امرئ القيس:
(وَدَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِهِ ... وَلَكِن حَدِيْثاً مَا حَدِيْثُ الرَّوِاحِلِ)
يروى أن امرئ القيس هرب من عدو له، واستجار رجلاً آخر من طي، فأغير على إبل الطائي، فخرج مغيراً على رواحل لامرئ القيس في طلب إبله، فلما رجع الطائي وكان الأمر في رواحل امرئ القيس أهم عنده من رواحل الطائي، فقال هذا البيت، ولنذكر إعرابه وموضع الشاهد منه.
أما إعرابه فهو ظاهر، النهب: ما يؤخذ قهراً، صيح به: أي أعلم به وشهر، والحجرات: النواحي، وانتصاب حديثاً بفعل مضمر دلَّ عليه الكلام تقديره: اذكر حديث الرواحل، وما هذه زائدة، وحديث الرواحل بدل من حديثاً، أبدل المعرفة من النكرة.
وأما موضع الشاهد منه فإنما أورده أمير المؤمنين متمثلاً به، وغرضه من ذلك دع أمر الإمامة وحديثها فقد مضى وتقدم، ولكن أذكر حديث ابن أبي سفيان معاوية وأهل الشام؛ فإن ذلك أعظم في الدين وأدخل في الأعجوبة.

(وهَلمَّ الْخَطْب في ابن أبي سفيان): هلمَّ اسم من أسماء الأفعال يعدَّى تارة بنفسه، كقوله تعالى: {هَلُمَّ شهداءكم }[الأنعام:150] وتارة بإلى كقوله تعالى: {هَلُمَّ إلينا }[الأحزاب:18] وأراد ذكر الْخَطْب في ابن أبي سفيان فهو أعجب لوضوح الأمرفيه، ومنازعته لي وشقاقه وخروجه عليَّ محارباً.
(فلقد أضحكن‍ي الدهر): ضحكت من عجائبه.
(بعد إبكائه): بعد بكائي من حوادثه وفجائعه.
(ولا غرو والله): أي ليس عجباً مثل هذا العجب لفظاعته، وعظم شأنه.
(فياله خطباً!): يا هذه حرف للنداء، ومناداه محذوف أي ياقوم، وله متعلق بفعل تقديره: اعجبوا له من خطب ما أعظم حاله، وانتصاب خطباً على التمييز.
(يستفرغ العجب): أي يطلب فراغ العجب فلا يفرغه، وإن بذل مجهوده لعظمه، من قولهم: استفرغت مجهودي إذا بذلته، وهو مجاز لإضافة الفراغ إلى الخطب.
(ويكثر الأود): أي الا عوجاج لتفاحشه، من قولهم: تأود العود إذا كان معوَّجاً أو يكثرالثقل لتفاقمه، من قولهم: آدني الحمل إذا أثقلك.
(حاول القوم): معاوية وأهل الشام من أتباعه، والمحاولة هي: المزاولة للشيء والاشتغال به.
(إطفاء نورالله من مصباحه): عنى بذلك نفسه، وأرادإبطالهم قواعد الدين، وهدم مناره باستظهارهم عليَّ وقهرهم لي.
(وسدَّ فوَّاره من ينبوعه): وإذهاب ما يظهر من أحكام الشريعة من جهتي، ويحصل من ذلك من علمي واجتهادي، والفوَّار: عبارة عن حركة الماء، والينبوع: عين النهر، فالإطفاء، والنور، والمصباح، والفوَّار، والينبوع استعارات رشيقة لما ذكرناه.

(وجدحوا بين‍ي وبينهم شِرْباً وبيًّا ): جدح الشراب إذا خاضه، والشِّرب بالكسر هو: المشروب، قال الله تعالى: {لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ }[العشراء:155]، وسماعنا ها هنا به، والوبيء: المهلك، من شربه لوبائه، وجعل ذلك كناية عن اشتباك الحرب ونشبها بينهم فإنها مهلكة للأموال والأرواح، فلا وباء أعظم من ذلك ولا أوخم.
(فإن ترتفع عنَّا وعنهم محن البلوى): برجوعهم عن الحرب واستبصارهم الخطأ في ذلك.
(أحملهم من الحق على محضه): على صريحه وجيده مما أريهم من الصواب والسيرة الحسنة في قولي وفعلي، والهداية إلى الطريق الواضحة.
(وإن تكن الأخرى): وهو استمرارهم على البغي والشقاق لي ومخالفتي في الأمر كله.
({فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ })[فاطر:8]: أراد فلا تقطع نفسك وتذهبها تحسراً عليهم.
({إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ })[فاطر:8]: من ذلك، وهذه الآية وردت على جهة التسلية لرسول الله؛ لما علم من حاله التحزّن الشديد والأسف الكثيرعلى إيمان قومه، وهذا كقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ }[الكهف:6] أي مهلكها من أجل عدم إيمانهم، وقد استعملها أمير المؤمنين في أهل البغي، كما وردت في شأن الكفار، حذو النعل بالنعل من غير مخالفة، وهذه عادة له في استعمال القرآن ، كما مرَّ في مواضع.

(153) ومن خطبة له عليه السلام يذكرفيها بديع الخلقة الإنسانية، وعجيب تركيبها
(ال‍حمد لله خالق العباد): إما موجدهم من العدم، و إما المقدِّر لتركيب هذه الصور العجيبة لهم.
(ساطح المِهَاد): باسط الأرض المجعولة مهاداً، كما قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْاداً } و{مهداً} [طه:53] أي سهلاً سلساً لا عناء فيه ولا تعب.
(ومسيل الوِهاد): جمع وهدة وهي: ما اطمأنَّ من الأرض، كالشعاب والأودية والأخاديد، أي وأسالها لمنافع الخلق.
(ومخصب النِّجاد): جمع نجد وهو: ما ارتفع من الأرض، وأخصبها أي جعل فيها الكلأ والمرعى نقيض الجدب، وهذا من القدرة الباهرة أي أنه جعله مخصباً مع أن الماء لا يستقر عليه لعلوه وارتفاعه.
(ليس لأوليته ابتداء): أي هو أول ومع كونه أولاً، فإنه لا ابتداء لأوليته، ولا نهاية لها ولا حد، إذ لو كان لأوليته ابتداء لكان محدَثاً، وهو محال حدوثه.
(ولا لأزليته انقضاء): أراد أنه إذا تقرر أنه لاأول له فليس له زوال، ولا له آخرفيكون منقضياً؛ لأن أوليته لذاته، وما كان موجوداً لذاته استحال عليه الانقضاء والعدم.
(هو الأول لم يزل): أي لم يتجدد له وجود.
(والباقي بلا أجل): والدائم الوجود الذي لا أمد لوجوده فيكون معدوماً عند وجود ذلك الأمد، ويكون غاية له.
سؤال؛ قوله: هو الأول لم يزل، والباقي بلا أجل، مثل قوله: ليس لأوليته ابتداء، ولا لأزليته انقضاء، فما الفائدة بالتكرار وما وجه ذلك؟

وجوابه؛ هو أن أمير المؤمنين صار فارس البلاغة وأمير حلبتها، وإمام الفصاحة وإنسان مقلتها، وليس أخلو إما أن أجعل كلامه هذا من باب التكرار، كقوله تعالى: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }[القمر:16]، وإما أن أجعله من باب حسن التصرف، والتفنن في أساليب النظم، وكلاهما محتمل في كلامه هذا، وواقعان في البلاغة أحسن المواقع وأعلاها، فإن الله تعالى أورد قضية موسى وفرعون في غير آية في كتابه علىأنحاء [لهم] مختلفة، وأساليب متفرقة دالَّة على حسن التصرف وأنيق البلاغة.
(خرَّت له الجباه): بالسجود لعظمته.
(ووحَّدته الشِّفاهُ): أقرَّت له الألسنة بالتوحيد.
(حد الأشياء عند خلقه لها): جعل المكونات حدوداً تقف عليها، وغايات تنتهي إليها (لا تزيد عليها) ، فتكون مجاوزة لها، ولا تنقص عنها فتكون متأخرة عنها، كما أشار إليه في غير آية، كقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ }[القمر:49]، وقال: {خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً }[الفرقان:2]، وقال: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً }[الطلاق:3]، وقوله: عند خلقه لها، يشيربه إلى أن هذه التقديرات والإحكامات لازمة لوجودها، غير متأخرة عنها وقتاً واحداً، ولو تأخرت عنها لكانت غير محكمة فخلقها على هذه الكيفية.
(إبانة لها من شبهها): بان الأمر إذا ظهر، والإبانة مصدر بان[يبين إبانة] ، وانتصابها إما على المصدرية مفعولاً من أجله، وإما على الحال أي مبيناً، والمعنى خلقها لتكون متميزة عمَّا يشبهها.

(لا تقدِّره الأوهام): بكسر الدال وضمها من التقدير، وفي الحديث: ((إذا غمَّ عليكم الهلال فَاقْدِرُوا له ثلاثين )) بهما جميعاً، وأراد إما أنه ليس له تقدير فهي لا تقدره، وإما أراد أنه لا تقف على حقيقته.
(بالحدود والحركات): فإ ن من شأن مايقع عليه الوهم أن يكون من قبيل المحسوسات التي لها حدود وحركات.
(ولا بالجوراح والأدوات): أي وليس بذي جارحة، وجوارح الإنسان: أعضاؤه وأوصاله، ولاذي أدوات وأدوات الإنسان: سمعه وبصره؛ لأنها آلة في إدراك السمع والبصر فيكون مقدراً بالوهم بل هو خارج عن هذه الأشياء كلها، مباين لها بالحقيقة والماهية.
(لا يقال له: متى؟): لأنها سؤال عن الأزمنة المبهمة، وما كان سابقاً على الأزمنة وجوده، فلا يسأل عنه بمتى، وأيضاً فلو تعلقت الأوقات به لكان محدوداً بها فيكون له ابتداء، وإذا كان له ابتداء فله انتهاء وهو متعالي عن الحد بالابتداء والانتهاء.
(ولا يضرب له أمد بحتى): أراد أن حتى دالة على الغاية، ومعناها لا يصدق عليه؛ لأنه يعلم إذا كان دائم الوجود فلا أول لوجوده ولا آخر لوجوده، فلا وجه للأمد والغاية في حقه فهما منتفيان.
(الظاهر): في وجوده بالأدلة والبراهين.
(لا يقال له: ممَّ؟): فلا يسأل عن ذاته بما يدل على الجنسية وهو: ما ، إذ لاجنس له فلا يسأل عن جنسه، أو أنه ظاهر فلا يستفهم عنه بظهوره وتجليه.
(والباطن): عن إدراك العيون وتصور الأوهام.
(لا يقال: فيم): أي لايستفهم عنه بالمكان والجهة لتعاليه عنهما، فلا يقال: في أي شيء هو؟.
(لا شبح فيُتقصَّى): الشبح عبارة عن كل جسم، وقوله: فيُقتصَّى فيه روايتان:

أحدهما: بالصاد المهملة أي يطلب أقصاه، وأراد أنه ليس بشبح يطلب أقصاه أي غاية حده.
وثانيهما: بالضاد بنقطة من أعلاها، فيكون معناه يزول ويعدم لأن التقضي هو الزوال.
(ولا محجوب): أي وليس محتجباً بشيء من الأشياء.
(فيحوى): فيكو ن الحجاب حاوياً له محيطاً به.
(لم يقرب من الأشياء بالتصاق): أراد أنه لم يقرب منها من الجهة فيكون ملاصقاً لها، كملاصقة الأجسام بعضها لبعض.
(ولم يبعد عنها بافتراق): أراد أنه وإن بَعُدَ عنها [فليس بُعْدُه عنها بأن فارقها، وحالت الجهات والفراغات بينها وبينه ومع بُعْدِه عنها] فإنه:
(لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة): شخوص البصر وهو فتح العين من غير أن يطبقها، و اللحظة هو النظرة الواحدة بمؤخر العين.
(ولا كرور لفظة): فعلها مرة بعد مرة، قال الشاعر:
كَيْفَ البقاءُ مع اختلافِ طبائعٍ ... وكُرُوْرِ لَيْلٍ دَائمٍ وصَبَاحِ
(ولا ازدلاف ربوة): الازدلاف هو: التقدم، والربَّوة: الموضع المرتفع، بفتح الفاء وضمها.
(ولا انبساط خطوة): ولا خطوة ممتدة، والا نبساط هو: الامتداد، أي أن هذه الأمور كلها غير خافية عليه.
(في ليل داجٍ): الداجي هو: المظلم، قال الراجز:
فَقَدْ دَجَا الليلُ فهيا هيا
(ولا غسق ساج): الغسق: ظلمة أول الليل، والساجي هو: الساكن، قال تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }[الضحى:1-2] أي سكن.
(يتفيَّأ عليه القمر المنير): يتقلب عليه، قال تعالى: {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ }[النحل:48] والضمير في عليه راجع إلى الليل، ومعنى منير أي ذو نور.

85 / 194
ع
En
A+
A-