(وعزاءً لمن تعزَّى ): وتسلية لمن تسلَّى بحاله.
(وأحب العباد إلى الله من تأسى بنبيه [والمقتص لأثره] ): أقربهم إليه وأرضاهم عنده، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }[آل عمران:31]، وقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ }[النساء:80]، والضمير إما لله، وإما للتأسي فكلاهما محتمل.
(قضم الدنيا قضماً): القضم هو: الأكل بأطراف الأسنان، وأراد منه قلة الأكل وقلة الرغبة؛ لأن كل من رغب في أكل طعام فإنه يأكله بجميع أسنانه.
(ولم يعرها طرفاً): ولم يلحظها بجفن عينه، أي لم يلتفت إليها في حالة من الحالات، وأراد أنه لم يسمح لها بإعارة نظرة مبالغة في ذلك.
(أهضم أهل الدنيا كشحاً): الكشح: ما بين الخاصرة إلى الأضلاع، وأهضمهم أي أدقّهم.
(وأخمصهم من الدنيا بطناً): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أضمرهم بطناً، ومنه قولهم: بطن مخمص إذا كان ضامراً.
وثانيهما: أن يريد أجوعهم، أخذاً من المخمصة وهي المجاعة.
(عرضت عليه الدنيا): حيث قيل له: ((أتحبُّ أن أجعل لك بعدد شجر تهامة ذهباً ، أو أعطيك جميع خزائن الأرض، ولا ينقص من أجرك شيئاً)).
(فأبى أن يقبلها): بقوله: ((أجوع يوماً فأسألك ، وأشبع يوماً فأشكرك)) .
(وعلم أن الله أبغض شيئاً): حيث يقول: ((ما تقرَّب إليَّ المتقربون بمثل الزهد في الدنيا )) .
(فأبغضه): حيث قال: ((حبُّ الدنيارأس كل خطيئة )) .
(وحقَّر شيئاً): بقوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ }[العنكبوت:64].
(فحقَّره): حيث قال: ((لو كانت الدنيا تسوى عند الله جناح بعوضة ما سُقي منها كافر شربة)) .
(وصغر شيئاً): بقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }[آل عمران:185].
(فصغَّره): حيث قال: ((الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل قلعة)) إلى غير ذلك مما يؤذن من كلامه بحقارتها وهونها.
(ولو لم يكن فينا): من سقوط الهمة، وركة العزيمة.
(إلاحبنا ما أبغض الله): بالإرادة لها، والمثابرة على تحصيلها على أي وجه.
(وتعظيمنا): بما كبر في أعيننا من وزنها.
(ما صغَّر الله): من حالها وأمرها.
(لكفى به شقاقاً لله): مخالفة لأمره، والشقاق هو: الخلاف والعداوة.
(ومحادَّة عن أمر الله): [المحادة] : منعك مايجب عليك منه، ومنه إحداد المرأة و هو امتناعها من الزينة بعد موته، وحددته عن كذا إذا منعته عنه، ثم إنه مع تصريحه بكراهتها من لسانه يفعل أفعالاً تؤذن أيضاً ببغضها.
(ولقد كان صلى الله عليه وآله يأكل على الأرض): من غيرمائدة تنصب لطعامه، كما يفعله الأعاجم.
وعن بعض الصالحين أنه قال: (أربعة أحدثت بعد النبوة: الموائد، والمناخل، والأشنان ، والشبع).
(ويجلس جلسة العبد): وهو أن يجلس رافعاً لأخمص قدميه إلى فوق، ويضع إليتيه عليهما ويجعل بطنه على فخذيه ويحني ظهره، وقد قال عليه السلام: ((إنما أنا عبد أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد )) .
(ويخصف بيده نعله): الخصف: تسوية ما انقطع من سيورالحذاء.
(ويرقع بيده ثوبه): لا يرقعه غيره من ورائه، كما يفعله المترفون.
(ويركب الحمار العاري): عن الإكاف والسرج.
(ويردف خلفه): المرأة من نسائه والصبي والرجل، كل ذلك يفعله تواضعاً لله، وإزالة للكبر عن نفسه والخيلاء.
(ويكون الستر على باب بيته): الستر: ثياب تستر بها الأبواب مبالغة في التستر، وعلى هذا حمل قوله تعالى: {حِجَاباً مَسْتُوراً }[الإسراء:45]، أي حجاباً مجعولاً عليه ستارة.
(فتكون فيه التصاوير): جمع تصوير [كتقدير] وتقادير، وأراد به صورة الحيوانات لأنه هو المكروه، وما عدا ذلك ليس مكروهاً.
(فيقول: يا فلانة ): لبعض نسائه.
(غيّبيه عني): أزيليه عن بصري ورؤيتي.
(فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا): زينة الدنيا المنقطعة.
(وزخارفها): الزخرف: الذهب، وكل مموّه يقال له: زخرف.
(فأعرض عن الدنيا بقلبه): صرف قلبه عن لذاتها وزينتها.
(وأمات ذكرها من لسانه): فلم يذكرها قط إلا بما يكون ترغيباً عنها، وتحقيراً لها وتصغيراً لحالها.
(وأحب أن تغيب زينتها من عينه): كما ذُكِرَ في هذه القصة في تغييب السترة.
(لكيلا يتخذ منها رِيَاشاً): الرِيَاش هو: اللباس الفاخر.
(ولا يعتقدها قراراً): [أراد] أن يكون موضع قرار يستقرفيه.
(ولا يرجو فيها مقاماً): لانقطاعها وزوالها.
(فأخرجها من النفس): بأنه لم يجعل لنفسه فيها ميلاً ولا محبة.
(وأشخصها من قلبه ): بنسيانها واطِّراحها والإعراض عنها.
(وغيَّبها عن البصر): فلا يحب رؤيتها.
(وكذلك): الإشارة إلى البغض لها أي ومن أجل ذلك:
(من أبغض شيئاً): كرهه ونفر عنه.
(أبغض أن ينظر إليه): بعينه.
(وأن يذكر عنده): ويبغض ذكره أيضاً.
(ولقد كان في رسول الله): في معاملته لها وإعراضه عنها، كما ذكرنا آنفاً.
(ما يدلك على مساوئ الدنيا): هونها وحقارتها.
(وعيوبها): جمع عيب: وهو ما ينقص به الإنسان، ويُذمُّ عليه من الأفعال.
(إذ جاع فيها): أصابه الجوع.
(مع خاصته): مع قربه إلى الله، ورفيع منزلته عنده.
(وزويت عنه): قُبِضَت، من زويته عنه إذا قبضته.
(مع عظم زلفته): الزلفة: القربة، وأراد منزلته القريبة.
(فلينظر ناظر بعقله): فيما ذكرناه من قبضها من رسوله، وزوالها عنه.
(أكرم الله محمداً بذلك): القبض والانزواء.
(أم أهانه!): أم هذه هي المتصلة، كقولك: أقام زيد أم قعد، وجوابها إنما يكون بتعيين أحد الفعلين لا غير، وليس جوابها بنعم أولى ها هنا.
(فإن قال: أهانه): بما فعله من ذاك.
(فقد كذب والعظيم): أراد قسماً بالعظيم، ولقد صدق فإن الله تعالى رفع منزلته على جميع منازل الأنبياء، وشرَّفه وكرَّمه، وأعطاه من الكرامة ما لم يعط أحداً من الأنبياء، وما هذا حاله فليس إهانة.
(وإن قال: أكرمه): بما فعل من ذلك، وإذا كان الأمر كما قلناه:
(فليعلم أن الله قد أهان غيره): أسقط رتبته عنده، ولم يجعل له وزناً عنده، ولا رفع له قدراً.
(حيث بسط الدنيا له): بما مكّنه من لذاتها، وأعطاه من طُرَفِها ومحاسنها.
(وزواها عن أقرب الناس إليه ): وهو رسوله، وأعظم من يكون عنده منزلة وأرفع قراراً .
(فتأسى متأسٍّ بنبيه [واقتص أثره] ): خبر ومعناه الأمر، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً }[آل عمران:97].
(وولج مولجه): ودخل مدخله في طرح الدنيا، والإعراض عنها.
(وإلا): إذا لم يفعل ذلك من ترك التأسي، والإعراض عن اتباعه.
(فلا يأمن الهلكة): أن يهلك بالمخالفة، كما قال عليه السلام: ((من رغب عن سنتي فليس مني )) والهلكة تكون من وجهين:
أما أولاً: فلأنه بإعراضه عمَّا جاء به الرسول، وانحرافه عنه يكون مشاقًّا له ومخالفاً لما أتى به فيتناوله الوعيد، بقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ }[النساء:115].
وأما ثانياً: فلأنه باتباع الدنيا، والإغراق في حبها وطلبها، عكس ما جاء به الرسول، لا يأمن العطب بانهماكه في حبها، حتى يأتيه الموت وهو على غفلة من أمره، فإتيان الهلاك من هذه الجهة.
(فإن الله جعل محمداً علماً للساعة): هذا الكلام مخالف لما قبله وليس ملائماً له، ولهذا جاء بالفاء دلالة وإشعاراً بذلك، فإنها إنما تأتي فاصلة بين الكلامين، ومؤذنة بأن الثاني مخالف للأول مغاير له كما ترى، وإنما كان علماً لها لأنه خاتم الأنبياء، كما قال عليه السلام: ((بعثت أنا والساعة كهاتين )) وأشار إلى الوسطى والمسبحة.
(ومبشراً بالجنة): لأهل الطاعة، كما قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...}إلى آخر الآية [البقرة:25].
(ومنذراً بالعقوبة): لأهل المعصية، كما قال تعالى: {بَشِيراً وَنَذِيراً }[البقرة:119].
(خرج من الدنيا خميصاً): لاشيء معه من الدنيا، ومن لذاتها.
(وورد الآخرة سليماً): عن تبعاتها ومساويها.
(لم يضع حجراً على حجر): أراد لم يبنِ فيها بناءً، ولاشيَّد قصوراً، ولا عمرفيها عمارة.
(حتى مضى لسبيله): حتى ورد السبيل الذي لا بد لكل حي من سلوكه وهو الموت، وكان له صلى الله عليه وآله تسع حجر لكل واحدة من نسائه بيت، وكان الواحد ينال سقف كل بيت منها بيده؛ لقصر سمكه وخضوعه إلى الأرض.
(وأجاب داعي ربه): لما دعاه لجواره، والكون معه في داره.
(فما أعظم منَّة الله عندنا): نعمته علينا.
(حين أنعم علينا به): بعثه فينا، وكان هادياً لنا.
(سلفاً نتبعه): متقدماً نكون على أثره، وانتصابه على الحال من الضمير في قوله به.
(وقائداً لنا نطأ على عقبه!): نتبعه من غير مخالفة، وقوله: نطأ على عقبه من الكلام البليغ الذي جمع بين قصر اللفظ، وتقارب حجمه وبلاغة المعنى.
(والله لقد رقعت مدرعتي هذه): المدرعة: جُبَّةٌ من صوف، ورقعها تلفيقها مرة بعد مرة.
(حتى استحييت من راقعها): إما من تكرر ذلك عليه مراراً كثيرة، وإما من كونه ترقيع ما لايمكن رقعه، فلعل الحياء يقع على أحد الوجهين أو كلاهما.
(ولقد قال لي قائل!): من الناس لما كثر ترقيعها، وعافتها النفوس وكرهتها؛ لهونها وحقارتها.
(ألا تنبذها): تطرحها عنك، وتزيلها عن جسمك.
(فقلت: اعزب عني): ابعد شخصك عن مقابلتي، ثم تمثل بقوله:
(عند الصباح يحمد القوم السُرى): السُرى هو: سير الليل، وأراد عند أن يصبحوا في مكان بعيد [قد] قصدوه، يحمدون سيرهم لبلوغهم ذلك الموضع وبعده.
(ويتجلى عنهم غيايات الكرى): وليس المصراع الثاني من نسخة الأصل، والغياية بيائين كل واحدة منهما بنقطتين من أسفلهما، وهو : الظلمة، والكرى هو: النعاس، وأراد ويتجلى عنهم ظلم النعاس ونصبه وتعبه، وأما الغيابة بباء بنقطة من أسفلها فهو: قعر البئر، قال الله تعالى: {فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ }[يوسف:10] ولا وجه له ها هنا.
(151) ومن خطبة له عليه السلام يذكرفيها الدنيا
(بعثه بالنورالمضيء): بالهداية إلى الدين الواضح.
(والبرهان الجلي): الذي لالبس عنه على الناظرفيه.
(والمنهاج البادي): الطريق الظاهرالذي لا يخفى على أحد سلوكه.
(والكتاب الهادي): القرآن فإنه يهدي إلى كل خير من أمور الدين والدنيا، كما قال تعالى: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ }[الشورى:52].
(أسرته خيرأسرة): أسرة الرجل: عشيرته ورهطه، والأَسْرُ: الشدة والقوة، قال الله تعالى: {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ }[الإنسان:28] وإنما سموا أسرة لأن الرجل يتقوَّى بهم ويشتد أمره.
(وشجرته خير الشجر): لما حصل فيها من البركة، وأراد بني هاشم، ومن أجل هذا وضعت فيهم النبوة والإمامة.
(أغصانها معتدلة): مستقيمة ثابتة غير معوِّجة، من قولهم: اعتدل الشيء إذا كان مستقيماً، ومنه قوله: {فَعَدَلَكَ }[الإنفطار:7] على القراءتين جميعاً أي أقامك وثبتك.
(وثمارها متهدِّلة): متدلية لثقلها، وكثرة حملها وعظمها.
(مولده بمكة): موضع ولادته كان بمكة؛ لأنها موضع آبائه ومسقط رأسه، وفيها كان ابتداء نبوته، وكانت أحب البقاع إليه.
ويحكى أنه لما عزم على الخروج من مكة بالأذن له بالمهاجرة، خرج إلى الحزورة موضع بالقرب من الكعبة، التفت إلى البيت وقال: (([والله] إنَّك لأحبُّ البقاع إليَّ، ولولا أنَّ أهلك أخرجوني منك ما خرجت)) .
(وهجرته بطيبة): يريد بالمدينة، وكانت كثيرة الوباء، فلما هاجرإليها قال: ((اللَّهُمَّ، بارك لنا في مدِّها وصاعها ، وانقل حماها إلى الجحفة)) .
(علا بها ذكره): ظهر وفشا، وسار مع الليل والنهار، حتى طبق الأقاليم والآفاق.
(وامتدَّ بها صوته): قوي فيها أمره، وكل ذلك كناية عن ثبوت الوطأة، ونفوذ الكلمة واستحكام الأمر في الدين والإسلام؛ لأن ذلك ما كان إلا بعد مهاجرته، وسلِّه للسيف.
(أرسله بحجة كافية): لا زيادة عليها في البلاغ، أو كافية لمن استدلّ بها.
(وموعظة شافية): من أدواء الكفر والنفاق، أو من غِلِّ الصدور وجزعها.
(ودعوة متلافية): متداركة للخطايا، من قولهم: تلافيته عن السقوط، أي تداركته ، ورواية من رواه بالقاف خطأ لاوجه له.
(أظهربه): الضمير للرسول عليه السلام، ويحتمل أن يكون للقرآن أيضاً؛ لتقدم ذكرهما جميعاً، وهو إلى الرسول أظهر لأنه أقرب المذكورين.
(الشرائع المجهولة): أي ما كان يجهله الناس، ولا يعلمونه لولاه.
(وقمع به): أي أذلَّ وأخزى.
(البدع): الكفريات المخترعة.
(المدخولة): إما المعيوبة، وإما المشوبة بالاختلاط، وطعام فيه دَخَلٌ إذا كان مشوباً بغير جنسه.
(وبين [به] الأحكام): أنواع التحليلات، والتحريمات كلها.
(المفصولة): إما المنقطعة عن أحكام الشرك، من قولهم: فصل الأمر إذا قطعه، وإما الموضحة، من قولهم: فصَّل الأمر إذا أوضحه وبيَّنه، فأحكام الدين كلها محتملة للأمرين.
(فمن يبتغ غير الإسلام ديناً): يطلب ديناً مخالفاً له من الأديان، وانتصاب ديناً على التمييز، كقولك: مررت بغيرك رجلاً.
(تتحقق شِقوته): بكسر الشين أي تظهر حالته في الشقاء، وبفتحها يظهر شقاؤه وتتضح خسارته، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ }[آل عمران:85].
(وتنفصم عروته): ينقطع متمسكه، خلافاً لما قاله تعالى في الاستمساك به: {لاَ انفِصَامَ لَهَا }[البقرة:256].
(وتعظم كبوته): كبا إذا سقط، أي تكثر سقطته بذلك.
(ويكن مآبه): هذه الأفعال كلها مجزومة؛ لأنها جوابات للشرط، وهو قوله: ومن يبتغ، والمآب: الرجوع.
(إلى الحزن الطويل): الذي لا انقضاء له.
(والعذاب الوبيل): الشديد، وهو: الخلود في النار في أنواع العذاب وألوانه.
(وأتوكل على الله): إنما جاء بلفظ المضارع لأمرين :
أما أولاً: فيحتمل أن يكون أول الخطبة (أحمد الله) لكنه طرح، وعلى هذا يكون عطفاً عليه.
وأما ثانياً: فبأن يكون استئنافاً على تقدير : وأنا أتوكل على الله، فيكون جملة ابتدائية مستأنفة.
(توكل الإنابة إليه): انتصابه على المصدرية المؤكدة، والإنابة: الرجوع [ومعناه: أتوكل توكل رجوع وإنابة، أو توكل من رجع وأناب] .
(وأسترشده): أطلب الرشد منه.
(السبيل): الطريق الواضح .
(المؤدية إلى جنته): الموصلة إليها.
(القاصدة إلى محل رغبته): قصده إذ أتاه، وأراد التي تأتي بصاحبها إلى أمكنة الرغائب والخيرات.
(أوصيكم عباد الله): أعهد إليكم، وأحثكم وآمركم.
(بتقوى الله وطاعته): إتقاء الله وخوفه في السر والعلانية، والانقياد لأمره بالطاعة، وامتثال مراداته.
(فإنها النجاة غداً): أي الفوز يوم القيامة.
(والمنجاة أبداً): على جهة الدوام والا ستمرار، والنجاة والمنجاة مصدران من نجا ينجو نجاة ومنجاة إذا فاز.
(رهَّب): بالوعيدات الشرعية، وأراد الرسول.
(فأبلغ): بالغ في ذلك أشد المبالغة.
(ورغَّب): بما وعد من الوعود الثقيلة .
(فأشبع ): فأكثر، من قولهم: فلان متشبع بما ليس عنده أي مستكثر بما ليس معه.
(ووصف لكم الدنيا): بأوصافها الذميمة الدالة على حقارتها وهونها.
(وانقطاعها): عن أيديكم، وانفلاتها منكم، وزوالها عنكم.
(وانتقالها): إلى غيركم، وتابع ذلك وكرره على آذانكم مرة بعد مرة.
(فأعرضوا عما يعجبكم فيها): من لذاتها، ونعيمها، وغضارتها.
(لقلة ما يصحبكم منها): من أجل ما تعلمون من عدم ما يكون معكم منها، وليكن ذلك سبباً للكراهة والإعراض، فإنها:
(أقرب دار من سخط الله): إذ ليس يعقل إلا داران في الوجود الدنيا والآخرة، وهذه الدار هي أقرب من الآخرة، لأن الآخرة بعدها، ولم يُعْصَ الله تعالى إلا فيها، لأن الآخرة منزهة عن العصيان فلهذا كانت أقرب دار.
(وأبعدها من رضوان الله): لأنها إذا كانت قريبة من السخط فهي لا محالة أبعد من الرضوان.
(فغضُّوا عنكم عباد الله): انقصوا، من غضَّ بصره إذا نقصه، ولم ينظر به بكماله.
(غمومها): أحزانها، اخفضوها ، وأَطرحوها.
(وأشغالها): جمع شغل، أي وما يشغل منها عن طلب الآخرة وتحصيلها.
(لما قد أيقنتم به): اللام متعلقة بغضُّوا، أي وغضُّكم إنما هو من أجل ما قد تحققتم به:
(من فراقها): مفارقتها، وزوالها عنكم.
(وتصرف حالاتها): اختلافها، من تصريف الرياح وهو اختلاف مهابِّها.
(فاحذروها حذر الشفيق): أي كونوا منها على حذر، حذر من هو مشفقٌ على نفسه، محبُّ لنجاتها وخلاصها.
(الناصح): لها بالزجر والاتعاظ.
(والمجدِّ): غير الهازل.
(الكادح): الساعي بالكدِّ والجهد في ذلك.
(واعتبروا): واتعظوا.
(بما قد رأيتم من مصارع العرب قبلكم): كيف أهلكوا بالموت، وصرعوا في لحودهم ، ودفنوا فيها، وتعاقبت عليهم أحوال في التغير والبلاء.
(قد تزايلت أوصالهم): أعضاؤهم الموصلة بالتقطع.
(وزالت أسماعهم وأبصارهم): حواسهم التي يسمعون ويبصرون بها بالتراب والبلاء.
(وذهب شرفهم وعزهم): انقطعا بالموت، وخمول الذكر.