(150) ومن خطبة له عليه السلام يذكرفيها الدنيا
(أمره قضاء وحكمة): جميع ما أمر به فهو قضاء لا يمكن ردُّه، وحكمة لا خطأ فيها ولافساد يلحقها.
(ورضاه أمان): من سخطه وعقابه.
(ورحمة): لطف في فعل الصالحات من الأعمال.
(يقضي بعلم): بما يعلمه، والباء هذه إما للحال أي يقضي عالماً بكل ما يقضيه، وإما للمصاحبة كقوله: خذ هذا بهذا، وأراد أن علمه مصاحب لقضائه لا ينفك عنه.
(ويغفر بحلم): يجري على حد ما ذكرناه فيما قبله من تفسير الباء ومعناها.
(اللَّهُمَّ، لك الحمد على ما تأخذ): من الأموال والنفوس بالموت والإهلاك.
(وتعطي): من ذلك كله، أو على ما تأخذ من الأعمال وتقبلها، وعلى ما تعطي من جزائها بالثواب.
(وعلى ما تعافي): تمنُّ بالعافية وإعطائها.
(وتبتلي): بإنزال الآلام والأسقام.
(حمداً): منصوباً على المصدرية، وقد صار عوضاً عن الفعل بحيث لا يجوز ذكره معه كقولك: سقياً ورعياً وغير ذلك من المصادر.
(يكون أرضى الحمد لك): أدخل الثناءات الحسنة في رضاك.
[(وأحب الحمد إليك): أعظم ما يكون من المحبة إليك وأدخلها في ذلك] .
(وأفضل الحمد عندك): أدخله في الفضل، وأعلاه في الدرجة.
(حمداً يملأ ما خلقت): من السماوات والأرضين.
(ويبلغ ما أردت): من الثناء والإعظام لك.
(حمداً لا يحجب عنك): ثناؤه.
(ولا يقصر دونك): أمده.
(حمداً لا ينقطع عدده): على تكرر الأزمان والأوقات.
(ولا يفنى مدده): أي زيادته، من الإمداد وهو: الزيادة.
(فلسنا نعلم كنه عظمتك): لقصورنا عن ذلك وعجزنا عنه، وهذا منه تصريح بأن عظمة الله تعالى لا تعلم لأحد من البشر.
(إلا أنَّا نعلم أنَّك حي قيوم): هذا الاستثناء يحتمل أن يكون متصلاً على معنى أنه مندرج تحت الكنه، وهذا كقولك: أنا لا أعرف غاية حالك إلا أني أعرف أنك مؤمن، ويحتمل أن يكون منقطعاً على معنى أن الكنه غير معلوم لأحد من الخلق، ويكون المعنى، لكن العلم بأنك حي قيوم حاصل لنا، كقولك: ما له ابن إلا أنه باع داره.
(لا تأخذك سنَة ولا نوم): السِنَةُ: أوائل النوم وهو الذي يسمى النّعاس، والنوم هو: ذهاب العقل والإدراكات كلها.
وفي حديث موسى عليه السلام أنه سأل الملائكة، وكان السؤال من قومه كطلب الرؤية: أينام ربنا؟
فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً، ولا يتركوه ينام، ثم قال له: ((خذ بيدك قارورتين مملؤتين فأخذهما، وألقى الله عليه النعاس فضرب أحدهما بالأخرى فانكسرتا، ثم أوحى إليه: قل لقومك هؤلاء: إني أمسك السماوات بقدرتي، فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا)) .
(لم ينته إليك النظر ): وهو تحديق الأعين ومقابلتها، إذ لو كان الأمر كذلك لكنت ذا جهة.
(ولم يدركك البصر ): إذاً لكنت من جنس هذه المرئيات، ولكنت مقابلاً لها في جهة من جهاتها كسائر المدركات منها.
(أدركت الأبصار): كما قال تعالى: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ }[الأنعام:103].
(وأحصيت الأعمال): أحاط بها بالكتب والعلم، كما قال تعالى: {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً }[الجن:28].
(وأخذت بالنواصي والأقدام): عقوبةً وانتقاماً لأهل معصيتك وعداوتك، كما قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ }[الرحمن:41].
(وما الذي نرى من خلقك): تدركه أبصارنا من هذه المخلوقات الباهرة، وما هذه استفهامية، وما بعدها يكون خبراً لها، والتقدير: وما الذي نراه فهو حقير مستصغر بالإضافة إلى قدرتك.
(ونعجب له من قدرتك): وتعجب له العقول من كمال قدرتك.
(ونصفه من عظيم سلطانك): وتنطق الألسنة بوصفه من عظم استيلائك.
(وما تغيَّب عنَّا منه): من جميع ذلك كله وستر عنَّا.
(وقَصُرَت أبصارنا عنه): ورجعت متقاصرة عن بلوغ غايته.
(وانتهت عقولنا دونه): وكانت العقول متناهية دون غايته.
(وحالت سواتر الغيوب): وكانت العلوم الغيبية حائلة:
(بيننا وبينه): فلا سبيل إلى علمه، وما في قوله: ما تغيَّب موصولة بمعنى الذي، والتقدير: والذي تغيب عنَّا وتقصر عنه أبصارنا:
(أعظم): من ذلك وأكبر ، وإنما ترك ذكر متعلق أعظم للعلم به، كما قال تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }[طه:7] وكقول القائل: الله أكبر أي أكبر من كل كبير.
(فمن فرَّغ قلبه): عن مزدحم الأشغال.
(وأعمل فكره): آناء الليل، وأطراف النهار.
(ليعلم كيف أقمت عرشك): ليتحقق على أي حال كانت استقامته، وكيف ها هنا معمولة لأقمت، والعلم ها هنا، إما بمعنى المعرفة فيكون له مفعول واحد، أو على ظاهره فيكون لها مفعولان، والجملة الاستفهامية سادة مسدهما أي ليعلم أن استقامة عرشك حاصلة.
(وكيف ذرأت خلقك): فرقتهم في أقطار الأرض وأقاليمها، وبرها وبحرها وسهلها وجبلها.
(وكيف علقت في الهواء سماواتك): من غير قرار يوثقها، ولا عمد يدعمها مع انبساطها العظيم، وامتداد أطرافها.
(وكيف مددت على مَوْرِ الماء أرضك): قد تقدم من كلامه أن الأرض مدحوة على الماء، وأن استقرار الماء إنما هو على الريح، وهذا من عجيب القدرة أن الماء ينافي الأجزاء الأرضية، وأن بلة الماء تفرق التئام الأرض، ومع ذلك فإنها استمسكت بقدرة الله عليه، فسبحان الجامع بين الأضداد، والمؤلف بين المتباعدات.!
(رجع طرفه حسيراً): كالّاً عن الإحاطة بذاك.
(وعقله مبهوراً): مغلوباً من بهره إذا غلبه، من قولهم: بهر النهار ضوء القمر، وبهر الشفق نورالهلال.
(وسمعه والهاً): دهشاً ذاهباً، من الوله وهو: ذهاب العقل.
(وفكره متحيراً): لا يستطيع ذهاباً ولا تصرفاً، في النظر والارتياء.
ثم قال:
(يدعي بزعمه أنه يرجو الله): أراد أن الإنسان يقول من جهة لسانه: إنه يرجو الله تعالى، ويؤمِّل خيره ومعروفه، وينتظر عوارف إحسانه.
(كذب والعظيم!): في مقالته هذه في زعمه هذا، فإن كان ما قاله حقاً ومقالته صدق :
(فما باله لايتبيَّن رجاؤه في عمله): أراد أن كل من كان رجاؤه صادقاً محققاً فإنه يعمل عملاً صالحاً يكون واصلاً به إلى مرجوه من عمل الطاعات، وكل من كان خائفاً خوفاً محققاً فإنه يكون عاملاً بما تقتضيه حقيقة الخوف من الانكفاف عن المعصية، وما ترى من يرجو إلا مقصراً في الطاعة، وما ترى من يخاف إلا موافقاً للمعصية، وفي هذا دلالة كافية على عدم التحقق فيهما جميعاً.
(فكل من رجا عرف رجاؤه في عمله، [وكل رجاء] إلا رجاء الله فهو مدخول): أراد أن كل رجاء فإنه يظهر حكمه وتثمر حقيقته من كل راجٍ -ما خلا رجاء الله-؛ فإنه لا حكم له ولا حقيقة لثبوته، فهو مدخول أي مشوب ليس خالصاً، أخذاً من قولهم: دخل في بني فلان أي ليس منهم، أو فيه مكر وخديعة، من قولهم: هذا الأمر فيه دخل أي خديعة ومكر، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ }[النحل:94].
(وكل خوف محقق إلا خوف الله فإنه معلول): أي كل خوف فحكمه يظهر إلا خوف الله فإنه لا حكم له ظاهر، وهو معلول أي غير صحيح.
(يرجو الله في الكبير، ويرجو العباد في الصغير): أراد أن العبد إنما رجاؤه لله في الجنة والفوز بنعيمها ولذاتها، وذلك أكبر ما يكون وأعظمه، ويرجو العباد في أحقر ما يكون من الدنيا ومتاعها، ثم مع ذلك يختلف حال الإنسان فيخضع لمخلوق في طلب الحقير ويتواضع له، ولا يتواضع لله تعالى بالطاعة ويخضع لجلاله.
(فيعطي العبد): من التعظيم والإجلال.
(ما لا يعطي الرب!): من ذلك مع أنه كان أحق لذلك وأهلاً له.
(فما بال الله جل جلاله ): تعجب من صنع العبد في ذلك.
(يُقَصَّر به عمَّا يُصنَع لعباده!): يعطي دونما يعطي العباد من ذلك، ويكون حقه دون حقهم.
(أتخاف أن تكون في رجائك له كاذباً): فلأجل هذا قصَّرت في حاله لأنك على غير معلوم من رجائك.
(أو تكون لا تراه للرجاء موضعاً!): أو لا يكون أهلاً لإعطاء ما ترجوه، وكلاهما باطل لا حقيقة له فهذه حالة الرجاء.
(وكذلك إن هو خاف عبداً من عبيده): واحداً من أمثاله ومخلوقاً يشبهه .
(أعطاه من خوفه): من القلق والانزعاج وتغير الحال والفشل، وزوال النوم.
(ما لا يعطي ربه): من ذلك.
(فجعل خوفه من العباد نقداً): بمنزلة النقد في المواظبة عليه، والعمل بمقتضاه.
(وخوفه من خالقهم ضماراً): غير موثوق به، والضمار: كل ما لا يوثق به من وعد ودين.
(ووعداً): غير موثوق بصحته ، والسبب في صحة ماقاله من الخوف والرجاء، أما الخوف فلأمرين:
أما أولاً: فلأجل كرمه ورحمته الواسعة.
وأما ثانياً: فلأجل [ما] يُرَى من حلمه عن العصاة، وتأخير النقمة عنهم، فلهذا كان خوفه من الله تعالى رجاء لما ذكرناه، فأما العباد فإنما دأبهم تشفي الغيظ، وعدم الرحمة والرأفة ومعاجلة الا نتقام، وأما الرجاء فلأن الخلق إنما كانت عطيتهم مع حقارتها ليس مراعاة لمصلحة، وإنما هي لطلب النفع [فيفعل في مقابلة] تلك العطية ما يكون سبباً في مثلها وحصولها.
(وكذلك): أي ويشبه ما ذكرناه من إيثار حق غير الله على حق الله.
(من عظمت الدنيا في عينه): استعظمها وأكبرها في نفسه.
(وكَبُر موقعها من قلبه): حتى خالطته، والتبسته وعظمت عليه.
(آثرها على الله تعالى): استأثر بالشيء إذا اختص به، وآثر هذا على غيره إذا رأه أحق من غيره، قال الله تعالى: {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا }[النازعات:38].
(فانقطع إليها): بالمحبة وتهالك في طلبها فلا غرض له سواها.
(وصار عبداً لها): مشغولاً بخدمتها، بمنزلة عبد مشغول بخدمة سيده.
(ولقد كان في رسول الله [ صلى الله عليه وآله وسلم] كاف لك): الكافي يحتمل أن يكون صفة على ظاهره أي أمر كافي لك، ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الكفاية، قال:
كَفَى بِالنّأْي من أَسْمَاءَ كَافِي
(في الأسوة): أي القدوة، وأراد أن أمر رسول الله في الدنيا ونبذها واطّراحها هو الغاية في الا قتداء، والتأسي بأمره فيها.
(ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها): فإنه عابها وذمَّها بفعله وقلبه ولسانه لما فيها من بلاويها.
(وكثرة مخازيها): جمع مخزاة وهي الذل والهوان، قال جرير:
وإن حمًى لم نحمه غير فُرْتِنا
وغَيْر ابن ذي الكِيْرِيْن خزيان ضائعُ
[والْفُرَّةُ: الشدة] .
(ومساويها): جمع مسواة، وهي السوء
(إذ قُبِضَتْ عنه أطرافها): إذ ها هنا ظرف زمان، والعامل فيه قوله: كافٍ، إذا قلنا: إنه صفة، فأما إذا قلنا: إنه مصدر فلا يجوز تعلقه به؛ لما في ذلك من الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبي، ولأنه لايعطف عليه إلا بعد تمامه بصلته ومتعلقاته، وإنما يكون متعلقاً بما تعلق به خبركان في قوله: في رسول الله.
(وَوُطِّئَتْ لغيره): ممن أوتيها من أهلها.
(أكنافها): جوانبها وأراد التمكن من لذاتها، والتنعم في طيباتها.
(وَفُطِمَ عنه رضاعها): منع عن ارتضاعها ، ولم يمكَّن منه.
(وَزُوِيَ عن زخارفها): الزخارف هي: الزينة، وأمره عليه السلام في رفض الدنيا واطّراحها ظاهر لا شك فيه من عيفتها ونبذها واطّراحها.
ويحكى أنه دخل يوماً على فاطمة فناولته رغيفاً من شعير، فقال: ((إنَّه لأول طعام دخل فمَّ أبيك منذ ثلاثة أيام )) .
وعن عائشة أنها قالت: (كانت تمضي علينا أيام وما لنا طعام ؛ إلا الأسودان: الماء والتمر) .
(وإن شئت ثنَّيتُ بموسى كليم الله): وإنما قال: كليم الله؛ لأن الله تعالى اختصه بأن كلمه من غير واسطة، بأن خلق الكلام فسمعه موسى وفهمه وعقل عن الله أمره، كما قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً }[النساء:164].
(إذ يقول: {رَبِّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }[القصص:24]، والله ما سأله إلا خبزاً يأكله): يعني لم يسأله شيئاً من زخارف الدنيا ولذاتها؛ وإنما سأل أحقر الأشياء وأدناها، وهو قرص خبز.
(لأنه كان يأكل بَقْلة الأرض): حشائشها ، فلهذا كان مشتهياً لأكل الطعام، وأراد إني لأجل شيء تنزله عليَّ غث أوسمين أوغيره من أنواع ما يؤكل مفتقر محتاج إلى أكله.
(ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه): شفَّ الشيء إذا رقَّ، والشفيف: الرقيق من كل شيء، والصفاق هي: الجلدة السفلى التي تحت الجلدة التي عليها الشعر.
(لهزاله) : ضعفه.
(وتشذب لحمه): تفرقه وتقطعه، والتشذيب: التقطيع، من قولهم: شذبت النخلة إذا قطعتها.
(وإن شئت ثلَّثْتُ بداود صاحب المزامير): صاحب الأصوات الحسنة الطيبة الرشيقة التي كأنها مزامير، لما يظهر من طيبها وسلوسة نغماتها.
(وقارئ أهل الجنة): أحسنهم قراءة، وأجودهم نغمة فيها.
سؤال؛ الجنة لا مشقة فيها، والقراءة يلحق بفعلها المشقة، فكيف قال: قارئ أهل الحنة؟
وجوابه؛ أنه يحتمل أن يقال: إن معناه أقرأ من يدخل الجنة، ويحتمل أن تكون القراءة من جملة ما يلتذ به أهل الجنة، ويرتاحون إليها، وتكون من جملة الملاذ الطيبة.
(فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده): السفيفة: إناء من خوص، والخوص: ورق النخل.
(ويقول لجلسائه: أيكم يكفيني بيعها؟): عرضها في السوق لتبتاع.
(ويأكل قرص شعير من ثمنها): زهداً في الدنيا، ورغبة عنها، وتقرباً إلى الله تعالى أن يأكل من كدِّ يده.
ويحكى أن داود عليه السلام لما ملك على بني إسرائيل، كان يخرج متنكراً فيسأل الناس عن نفسه، فقيَّض الله له ملكاً على صورة آدمي، فسأله عن سيرته؟ فقال: نعم الرجل هو، لولا خصلة فيه، فريع داود فسأله عن ذلك فقال: لولاأنه يطعم عياله من بيت المال، فسأل ربه عند ذلك أن يسبب له ما يستغني به عن بيت المال، فعلمه صنعة الدروع .
(وإن شئت قلت في عيسى بن مريم): فإنه نبي من أنبياء الله أكرمه الله تعالى.
(فلقد كان يتوسد الحجر): عند نومه لا يوطئ له مهاد للنوم.
(ويأكل الخشن ): من الطعام، وهو خلاف الطيب النفيس.
(ويلبس الخشن): من الثياب، وهو الصوف.
(وكان إدامه الجوع): الإدام: ما يؤكل به الخبز من لحم أو غيره، وفيه وجهان:
أما أولاً: فبأن يريد أنه لا يأكل من الخبز شبعه، بل يأكل مقدار ما يبقى معه جوعه، فلما كان الجوع مصاحباً للأكل، كان الجوع كأنه إدام لما كان من حق الإدام أن يصاحب الخبز.
وأما ثانياً: فبأن يكون مراده أن يكون الإدام مما يرغب فيه عند الأكل، فلما كان عيسى راغباً في الجوع عند أكله للخبز كرغبة غيره في الإدام كان كالإدام له.
(وسراجه بالليل القمر): أراد أنه لابيت له فيسرج عند إيوائه إليه، وإنما سراجه ما ليس سراجاً لأحد وهو القمر، كما يقال: الدنيا مال من لا مال له.
(وظلاله في الشتاء): مسكنه في أيام البرد، والظلال: ما أظلك من سحاب وغيره، فيكون أكناناً له، وأراد أنه يقعد في أيام البرد في أول النهار.
(في مشارق الشمس): حيث تشرق، وفي آخرالنهار.
(في مغاربها): حيث تكون غاربة، وإنما خصَّ أيام الشتاء لفرط بردها المؤذي.
(وفاكهته وريحانه): الفاكهة: ما يستطرف ويأتي في نادر الأوقات، والريحان هو: الرزق، كما قال تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ }[الرحمن:12] فالفاكهة والرزق في حقه إنما هو:
(ما تنبت الأرض للبهائم): من الحشائش من أجل البهائم، وذكره للبهائم تعريف بأنه لافرق بينه وبين البهائم في المعيشة، واستحقاراً بها .
(ولم تكن له زوجة تفتنه): تكون فتنة له ومحنة وبلوى، أو يُفْتَنُ بها وتكون سبباً لشغله عن الآخرة.
(ولا ولد يحزنه): يلحقه الهم والحزن بسببه، ولأجل ما يصيبه من الألم والغم.
(ولا مال يَلْفِتُه): يصرف وجهه عن الإقبال إلى الآخرة، والاشتغال بها، من قولهم: لفت وجهه عني إذا صرفه، قال الله تعالى: {لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا }[يونس:78]، وفي الحديث: ((إن من أقرأ الناس للقرآن منافقاً لا يدع واواً ولا ألفاً إلا لفته بلسانه، كما$تلفت البقرة الخلى بلسانها)) أي يلويه بلسانه.
(ولا طمع يذله): إذ لا أذلّ للرقاب المتصعبة من طلب المطامع.
(دابته رجلاه): يمشي بهما بمنزلة المركوب من الدواب.
(وخادمه يداه): يستعمل بهما ما يعود عليه نفعه، فهذه حال هؤلاء الأفاضل من الأنبياء في الدنيا وحالها عندهم.
(فتأسَّ بنبيك الأطيب الأطهر [ صلى الله عليه وآله وسلم] ): أي تعزَّى بهم، وتأسَّى بحالهم وليكونوا لك قدوة، والأسوة ها هنا [ما] تأسَّى [به] الحزين وتسلَّى به ، وأراد البالغ في الطهارة عن كل الأرجاس والبالغ في الطيب عن المدانس كل مبلغ، فلا غاية هناك إلا وقد وصلها.
(فإن فيه أسوة لمن تأسى): القدوة العظمى لمن اقتدى به، والهداية الكبرى لمن اتبعه.