(يتوارثها الظلمة): الضمير للدولة، والمعنى اتخذوها وراثة بمنزلة المال الموروث إذا مات واحد خلف عليها آخر.
(بالعهود): أي يعهد هذا إلى غيره عند موته، ويعطيها إياه كأنها تراث أبيه، أو كأن الحكم إليه فيها.
(أولهم قائد لآخرهم): إمام لهم يتّبعونه.
(وآخرهم مقتدٍ بأولهم): تابع له يسلك على أثره ويأتمُّ به.
(يتنافسون): أي يرغبون، ومنه قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ }[المطففين:26].
(في دنيا دنية): حقيرة نازل قدرها.
(ويتكالبون على جيفة مريحة): التكالب: شدة المنازعة، وعظم الشجار، والجيفة: شبح الإنسان عند الموت، والمريحة: ذات الرائحة الخبيثة.
سؤال؛ ما وجه تشبيه الدنيا بالجيفة والرائحة الخبيثة، وكيف استعير لها ذلك؟
وجوابه؛ هو أنه لما وصف أهلها بالتكالب عليها، والتهالك في حبها، والحرص عليها وجعلهم بمنزلة الكلاب فيها، ألحق ذلك بما يناسبه، وهي الجيفة المنتنة التي تجتمع الكلاب عليها وتتهارش عند أكلها، وهذا من علم البيان يلقَّب بتوشيح الاستعارة، وله موقع عظيم في البلاغة، وهو مما يزيد الكلام حسناً ورشاقة.
(وعن قليل يتبرأ التابع من المتبوع): وبعد انقطاع الدنيا على القرب والسرعة، و يصيرون إلى الآخرة تنقطع العُلْقة ، ويتبرأ هذا من هذا كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166].
(والقائد من المقود): والداعي من المدعو، حتى صار كل واحد منهم منقطعاً عن الآخر غاية الانقطاع.
(فيتزايلون بالبغضاء): زيَّلته فتزيل إذا فرَّقته، والمزايلة: المباينة، أي يتزايلون بغضاً وعداوة فيما بينهم.
(ويتلاعنون عند اللقاء): هذا يلعن هذا وهذا يلعن ذاك، وإنما قال: عند اللقاء؛ مبالغة في سوء حالهم حيث أقاموا اللعن والأذية فيما بينهم مقام المسرة، والتحية عند المواجهة.
(ثم يأتي بعد ذلك): إشارة إلى حالتهم هذه المكروهة.
(طالع الفتنة): أولها ومبدأها.
(الرجوف): التي ترجف القلوب لها، أي تضطرب، ويشتد قلقها خوفاً منها.
(والقاصمة):، من قولهم: قصم ظهره إذا كسره.
(الزحوف): الزحف هو: المشي إلى قدام بسرعة ونشاط.
(فتزيغ قلوب ): تميل عن الدين وتزول عنه.
(بعد استقامة): ثبوت كان منهم قبل حصولها.
(وتضل رجال): عن سواء السبيل.
(بعد سلامة): عن الزيغ والضلال.
(وتختلف الأهواء): الخواطر والقلوب فزعاً منها.
(عند هجومها): عند وقوعها، والضمير للفتنة.
(وتلتبس الآراء): يختلط بعضها ببعض فشلاً وروعة.
(عند نجُومها): نجم القرن إذا طلع.
(من أشرف لها قصمته): خاض في أمرها قطعته.
(ومن سعى إليها): بالدخول فيها.
(حطمته): والحطم: الكسر، وسميت النار حطمة؛ لكسرها للظهور والعظام.
(يتكادمون فيها): الكدم: هوالعض بمقدم الأسنان.
(تكادم الحمير ): هذا يكدم هذا، وهذا يكدم ذاك.
(في العانة ): القطيع من حمرالوحش بمنزلة الثلة من الناس.
(قد اضطرب معقود الحبل ): تلاشى ما أبرم من الأمور المحكمة، والحبل المعقود من أجلها.
(وعَمِيَ وجه الأمر): فلا يهتدى للصواب في أمرها، ولايدرى من أين تؤتى.
(تغيض فيها الحكمة): غاض الماء إذا ذهب، وأراد إما تذهب فيها الآراء المحكمة، وإما تطيش فيها أحلام أهل الحكمة فزعاً منها.
(وتنطق فيها الظلمة): أي ويكون من يتكلم فيها هم الظلمة، وهذا مما يؤيد الاحتمال الثاني في الحكمة.
(وتدقُّ أهل البدو): الشطار وأهل السلاح والشجاعة، فإذا كان [هذا] حالها في هؤلاء فكيف في غيرهم من أهل الأمصار وغيرهم، ولهذا خص البدو.
(بمسحلها): المسحل هو: المبرد، ويقال أيضاً: للخطيب المصقع، ويقال أيضاً: للحمار الوحشي، ومراده ها هنا المبرد، وتدقهم أي تجعلهم دقاقاً كدقاقة الخشب، والحديد إذا برد بالمبرد .
(وترضهم): الرضُّ: الدقُّ، يقال: رضَّ النوى إذا دقَّه.
(بكلكلها):كلكل الجمل: صدره.
(يضيع في غبارها الوُحدان): أراد أنها لشدتها وعظمها، وفخامة شأنها تبطل في أثنائها أعلام الرجال، الوحدان: الذين كل واحد منهم واحد زمانه وإنسان أوانه.
(ويهلك في طريقها الركبان): فإذا كان حال الركبان فيها الهلاك؛ فكيف حال من يمشي على قدمه، هوأسرع لامحالة إلى العطب والهلاك.!
(ترد): تطلع على أهلها.
(بمرِّالقضاء): بما قد سبق في علم الله تعالى مما تكرهه النفوس، وتمرها من القتل والأخذ والسلب.
(وتحلب عبيط الدماء): دم عبيط إذا كان خالصاً لا يشوبه شيء من الكدورة؛ لما يكثرفيها من القتل، وإراقة الدماء على غير وجهها.
(وتَثْلِم منارالدين): المنار: علم الطريق، وأراد أنها تهدم أعلامه لما يحصل بسببها من الزيغ عنه وإهماله.
(وتنقض عقد اليقين): ما أبرم من العقود اليقينية.
(يهرب منها الأكياس): أهل الكياسة من المؤمنين الجامعين لخصال الفضل.
(ويديرها الأرجاس): ويتولى أمرها، ويدبِّرحالها الفسقة من الخلق.
(مرعادٌ مبراق): مبالغة فيما يحصل فيها من شدة الأمر، أخذاً لذلك من شدة الرعد والبرق والصواعق.
(كاشفة عن ساق): هذه الكلمة لا تستعمل إلا في الداهية العظيمة، والأمور المكروهة، كما قال تعالى في وصف القيامة: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ }[القلم:42] كناية عن عظم الأمر وتفاقمه.
(تقطع فيها الأرحام): الأقارب بالهجران، وترك المواصلة لهم.
(ويفارق عليها الإسلام): أي من كان مجتهداً فيها فقد برئ عن الإسلام، وخلى عنه.
(بريئها سقيم): مهزول عن الدين لادين له.
(وظاعنها): الخارج عنها.
(مقيم): واقف عليها، وأراد أن الهارب عنها فهو مقيم فيها لا ينفعه هربه عنها؛ لا نتشارها وسعتها ، أو أن الهارب منها بجسمه وهو مريد لها بقلبه كا لمقيم لا ينفعه الهرب من الخطأ والخطر.
(بين قتيل مطلول): طل الدم فهو مطلول، إذا ذهب هدراً لا ثائر له.
(وخائف مستجير): بغيره لا يأمن وحده فيها.
(يختلون بعقد الأيمان): من الختل وهو: الخدع، يقال: ختله إذا خدعه؛ لما يظهرونه من التغليظ ، والتعقيد في الأيمان الكاذبة جمع يمين.
(وبغرور الإيمان): وبما يأخذون الناس من الغرر بإظهار النسك، والتقشف والعبادة والزهد، وغير ذلك مما يكون من أمارة الدين.
(فلا تكونوا): نهي وتحذير.
(أنصارالفتن ): ناصرين لها ولأهلها.
(وأعلام البدع): بمنزلة الأعلام لكل خصلة مبتدعة في الدين تضاد السنة وتخالفها.
(والزموا): أمر وحث.
(ما عُقد عليه حبل الجماعة): فإن يد الله مع الجماعة، وكما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً }[آل عمران:103] وأراد التمسك بالدين وأسبابه.
(وبنيت عليه أركان الطاعة): لله ولرسوله؛ فإنها إنما تؤسس على التقوى، والتزام العرى الوثيقة.
(واقدموا على الله): من قولهم: قدم علينا من سفره، وأراد القدوم على القيامة.
(مظلومين): مأخوذة أموالكم مستحلة أعراضكم، فإن الله تعالى يكون هو المنتصف لكم، وكفى به ناصراً لكم ومنتصفاً.!
(ولا تقدموا عليه ظالمين): لأحد من الخلق في عِرْضٍ ولا مال، فيكون الله تعالى هو المنتصف منكم، والآخذ لكم بإجرامكم.
(واتقوا مدارج الشيطان): مذاهبه التي يذهب فيها في الخدع للخلق والمكر بهم.
(ومهابط العدوان): إما المعاداة للخلق، وإما التعدي عليهم، فكله هلاك للدين، وإبطال له.
(ولا تدخلوا بطونكم لُعَق الحرام): اللعقة: ما يلعق أي مأكولاته ومطعوماته، وفي الحديث: ((كل مغصوب حرام )).
(فإنكم بعين من حرَّم عليكم المعصية) : لاتخفون عليه، وهذه اللفظة من كلماته البديعة القصيرة، التي أنافت على الغاية في وصف الإحاطة، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيط }[آل عمران:120]، وقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ }[يس:12]، وكما قال النابغة الذبياني:
وإنَّك كا لليلِ الذي هو مُدْرِكِي
وإن خلت أن الْمُنْتَأعنك واسعُ
ولقد أجاد فيما قال، ولكنه قاصر عن كلام أمير المؤمنين في المبالغة والرقة، فأما كلام الله تعالى فقد فاق على الكلامين جميعاً لذة وحلاوة، وبهجة وطلاوة.
(143) ومن خطبة له عليه السلام يذكر فيها الأئمة
(الحمد لله الدال على وجوده بخلقه): أراد أن الدلالة على وجود الله تعالى هو حدوث الخلق؛ لما قد تقرر في العقول وبدائهها أن الْمُحدَث، وهو : الحاصل بعد أن لم يكن فلا بد له من مُحدِث، إذ يستحيل في العقول أن يكون حاصلاً لا لأمر ولا من جهة مُحدِث، وكيف والعقول شاهدة بأن الواحد منَّا لو دخل منزلاً فوجد فيه كوزاً فيه ماءٌ بارد فإنه يضطر لا محالة أنه لا بد له من واضع، ولا يخالجه في ذلك شك، فكيف ما يشاهده من أحوال العالم العظيمة من اختلاف الليل والنهار، وجري الشمس والقمر، والزروع والفواكه، والغيوم والأمطار، فيضطر لامحالة أنه لا بد لهذه الأشياء من مدبِّر وفاعل، تعالى شأنه وعظم سلطانه.
(وَبِمُحْدَثِ خلقه على أزليته): يعني وإذا تقرر أنها مُحْدَثَةٌ وأن لها مُحدثاً فمُحدثُها لا بد من أن يكون أزلياً، وإلا كان مفتقراً مثلها إلى مُحْدِثٍ يُحدثه، و[في ذلك] تسلسل الأمر إلى غير غاية، وقد تقرر في العقول بطلان وجود حوادث لا أول لها، فإذا بطل ذلك وجب القضاء بقديم لا أول له، وهو الله خالقها ومدبرها.
(وباشتباههم على أن لا شبه له): المكونات الوجودية لا تنفك عن الاشتباه، ثم ذلك الاشتباه لا يخلو حاله إما أن يكون في الجنسية كاشتباه الإنسان والفرس والأسد في الحيوانية، أو يكون الاشتباه واقعاً في النوعية كاشتباه زيد وعمرو، وبكر وخالد في الإنسانية، أو يكون اشتباههما في الكمية والكيفية، وسائر المقولات العرضية، وكل هذه الاشتباهات مستحيلة على الله تعالى، لأنها كلها من توابع الجسمية والعرضية، وهما مستحيلان على الله تعالى، فلهذا قال: بجعله إياها مشتبهة لم يكن مشبها لها، إذ لوأشبهها لكان جسماً أو عرضاً مثلها، وذلك مستحيل عليه.
(لا تستلمه المشاعر): مشاعر الإنسان: حواسه؛ لأنها طريق للشعور، وهو العلم بمدركاتها كالسمع والبصر، وسائر الحواس فلهذا سميت مشاعر.
(ولا تحجبه السواتر): تغطيه الحجب الكثيفة المانعة عن البصر، والإدراك؛ لأن ذلك لو جاز لكان جسماً يحجب بغيره، وهو مستحيل عليه.
(لافتراق الصانع والمصنوع): اللام هذه هي لام التعليل، وأراد أن هذه الأحكام من امتناع الإدراك عليه، وامتناع الاشتباه به، وأنه لا تستلمه المشاعر من أجل أنها مصنوعات ومحدثات، ومن حق ما كان مصنوعاً أن يكون مخالفاً لصانعه، فإذا كانت المصنوعات أجساماً وأعراضاً، كانت العرضية والجسمية مستحيلة عليه تعالى.
(والحاد والمحدود): لأنه تعالى هو الذي حدَّ الأشياء، وجعل لها حدوداً تنتهي عندها، وتقف عليها فلا بد من مخالفته لها.
(والرب والمربوب): لأنه إذا كان رباً لها فلا بد من تميزه عنها، وإلا استحالت الربوبية له.
(الأحد): أي الواحد من كل جهة، وعلى كل وجه.
(لا بتأويل عدد): أي وليس معدوداً من جملة الأشياء؛ لأن الواحد أصل للأعداد من حيث كان يبتدأ به في عدد الأشياء، فهو وإن كان واحداً فلا يتناوله العد معها، وإلا لوجب أن يكون من جنسها.
(الخالق): إما الموجد كما تقوله الأشعرية، وإما المقدر كما يقوله أصحابنا المعتزلة .
(لا بمعنى حركة ونصب): أراد أنه وإن كان فاعلاً، فإنه في فعله لا يوجده بحركة في نفسه وتعب كما يكون غيره من الفاعلين.
(السميع): الحي الذي لا آلة له على ما يقوله المتكلمون، من أن السميع هو الذي يصح أن يدرك عند وجود مدركه، وظاهر كلامه ها هنا أنه لا فرق بين السميع والسامع، وظاهر كلام المتكلمين التفرقة بينهما، والكلام فيه قريب المأخذ.
(لا بأداة): أي لاأذن له فيكون سامعاً بها.
(البصير): إما الذي يصح أن يبصر على ما يزعمه أهل الكلام، وإما المبصر كما هو ظاهر كلامه.
(لا بتفريق آلة): تفريق الآلة ها هنا يعني به كيفية الإبصار، وفيه اختلاف بين المتكلمين، فعلى رأي أصحاب أبي هاشم لابد من تفريق الشعاع وامتداده نحو المرئي، وعلى رأي بعض النظَّار من المعتزلة لا بد من الانطباع للمرئي في الحاسة، وعلى رأي الفلاسفة لابد من تكيف الهواء بنور العين في الهواء المتوسط بين العين والمرئي، إلى غير ذلك من الاضطراب في كيفية الإدراك لما تدرك العين، وعلى كل حال فإنه تعالى مبصر لا على هذه الكيفيات؛ لأنها إنما تكون مختصة بالعين، وهو محال في حق الله تعالى، فلهذا قال: (مبصر لا بتفريق آلة) يشير إلى ما قلناه.
(الشاهد): الرقيب على كل شيء، والعالم به، والمختص بحقائقه.
(لا بمماسَّة): أي أنه وإن علم الأشياء كلها فإنه غير مفتقر إلى مماستها.
(البائن): البعيد عن الأشياء.
(لا بتراخي مسافة): أراد أن كل شيء بان عن شيء آخر غيره وبَعُدَ عنه، فإن ذلك إنما يكون لمسافة وَبُعْدٍ وتراخي، وبُعْدُه تعالى عن الأشياء ليس كذلك؛ وإنما هو يكون باختصاصه بأوصافه الثابتة له لا غير.
(الظاهر): المنكشف بالأدلة والبراهين، وما خلق من المصنوعات الدالة على ظهوره، وثبوته في الوجود.
(لا برؤية): لأن ظهور الأشياء إنما يكون بالرؤية لها ، وهو تعالى مخالف لها فيظهربالعلم، ولا يرى بالحاسة لاستحالتها عليه؛ لأنه لا بد فيها من المقابلة، وهي مستحيلة عليه.
(الباطن): أراد إما العالم ببواطن الأشياء، وخفياتها وسرائرها، وإما الباطن عن إدراك الأبصار فلا تدركه.
(لا بلطافة): بمعنى أنه وإن كان باطناً؛ فليس لطفة من أجل أنه أصغر المقادير وأَرقَّها ، كالجزء الذي لا يتجزَّأ، أو كالأشياء اللطيفة، كالهباء فإنها وإن كانت لطيفة لكنها أجسام، ويستحيل كونه جسماً.
(بان من الأشياء): تميَّز عنها وخالفها.
(بالقهر لها): بأن قهرها وكانت مطيعة له، واقفة على حسب إرادته، وعلى وفق داعيته.
(والقدرة عليها): بالإيجاد، والإنشاء، والاختراع.
(وبانت الأشياء منه): وكانت متميزة عنه على خلاف ذلك ونقيضه.
(بالخضوع له): الاستصغار لأمره، والتذلل له.
(والرجوع إليه): في الابتداء لها، والانتهاء منها، كما قال تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ }[هود:123]، {أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ }[الشورى:53].
(مَنْ وَصَفَهُ): بالصفات التي تؤذن بالجسمية كالحصول في الجهة والكون فيها ، أو تكون ذاته محلاً للأعراض، أو بالصفات التي تؤذن بالعرضية نحو حلوله في محل، أو غير ذلك من صفات الأجسام والأعراض.
(فقد حدَّه): لأنه إذا كان بهذه الصفات صار محدوداً لا محالة، له غاية وله نهاية، وشكل ومقدار، وانحصار وتعدد.
(ومن حدَّه): جعل له حداً بما ذكرناه.
(فقد عدَّه): جعله واحداً من هذه الأشياء المحدثة، وجعله مجانساً لها كمجانسة بعضها لبعض.
(ومن عدَّه فقد أبطل أزله): لأنه إذا صار مجانساً لها مشاكلاً لماهياتها فقد صار مثلاً لها، فإذا كانت مُحدَثة كان مُحْدَثاً مثلها، وفي ذلك بطلان كونه أزلياً، فقد ظهر مصداق مقالته بهذا التقرير الذي ذكرناه.
(ومن قال: كيف): أي ومن سأل عنه بالكيفية فقال: كيف هو؟
(فقد استوصفه): إما طلب الوصول إلى كنه حقيقته وهو محال، وإما طلب أن يكيِّفه بشيء من هذه الكيفيات المحدثة الحسية ، وكله غير لائق بذاته.
(ومن قال: أين): أي ومن سأل عنه بالأينية، فقال: أين هو؟
(فقد حيَّزه): أي جعله مختصاً بالحيز، والمكان والجهة؛ لأن أين سؤال عن جهة.
(عالم): في الأزل بالحقائق كلها التي هي بلا نهاية فإنه سيوجدها، وأنها ستكون بتكوينه.
(إذ لامعلوم): موجود، لأن الأوقات الأزلية يستحيل حدوث حادث فيها.
سؤال؛ المعلوم من حقيقة كون العالم عالماً، فكيف أثبته عالماً، وأبطل معلومه؟
وجوابه؛ الأمر على ما قلته فإنه يستحيل في العقل عالم ولا معلوم هناك، وإنما أراد بالمعلوم في الأزل الأمور الموجودة؛ لاستحالة وجودها كما ذكرناه، فأما أن يكون مراده إثبات عالم ولا معلوم هناك مطلق فقدره أشرف وأعلا من أن يقصد ذاك، وكيف وهو شيخ الصناعة الكلامية، واستاذ هذه العلوم الإلهية، في فنائه كان محط رحالها، وعليه كان تعويل رجالها.
(وربٌّ): مالك للخلائق كلها وإله لهم.