(وإن اجتمعا): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد أن الضلالة لاتوافق الهدى، وإن اجتمعا فهما في الحقيقة مفترقان؛ لتباينهما في المعنى.
وثانيهما: أن يريد الا ستئناف بالشرط أي إن حصل اجتماعهما.
(واجتمع القوم على الفرقة): أي على مخالفة أمرالدين؛ لأن اجتماعهما على ذلك هوفرقة في الحقيقة.
(وافترقوا على الجماعة): أي وخالفوا ما يجب فيه الا جتماع من أحكام الله وأمره ونهيه، ففعلهم هذا من الاجتماع على الفرقة، والفرقة على الجماعة.
(كأنهم أئمة الكتاب): فيكون تابعاً لهم على ما يهوونه ويريدونه.
(وليس الكتاب إماماً لهم): فيحتكمون لأمره، ويتابعونه على مراده، وينقادون لأمره ونهيه.
(فلم يبق عندهم إلا اسمه): الفاء هذه هي جواب الشرط، أي إن اجتمعا الكتاب وأهله، فليس معهم إلا اسمه، وليسوا عاملين به، ولا يؤثرون شيئاً منه لمخالفتهم له في جميع أحوالهم.
(ولا يعرفون [منه] إلا خطه وزبره): ولا يتحققون منه إلا سواد المكتوب وتأليف أحرفه بعضها إلى بعض، فأما أحكامه فلا تخطر لأحد منهم على بال.
(ومن قبل): أي من قبل هذه الأشياء التي ذكرها، من نبذ الكتاب وأهله، واطراحهما من أيديهم.
(ما مثَّلوا بالصالحين): ما ها هنا مصدرية، أي وتمثَّلوا بالعلماء والأفاضل، وفعلوا بهم كل فعل قبيح من تشريدهم عن البلاد وطردهم، من قولهم: مثَّل به إذا نكَّل به، والمصدر مثلاً، والاسم منه الْمُثْلَةُ، وفي الحديث بعد قتل حمزة: ((والله لأن مكنني الله لأمثلنَّ بسبعين منهم )) فنزلت الآية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [النحل:126] فما قام فينا مقاماً بعد ذلك إلا وهو ينهانا عن المثلة.
(كل مثلة): أنواعاً من المثل، وضروباً منها.
(وسمَّوا صدقهم على الله فرية ): وقالوا في كل ما صد قوا فيه: إنه كذب على الله افتروه عليه.
(وجعلوا في الحسنة عقوبة السيئة): أراد أنهم عاقبوهم، ومثَّلوا بهم كل مُثْلَة، لما كان دعاؤهم إلى الله واجتهادهم في دينه بمنزلة ما لو كانوا على خلاف ذلك، من تحريف أمر الله والدعاء إلى غيرهم ، فما ينالهم على الأول إلا مثل ما نالهم على الثاني من العقوبة.
(وإنما هلك من كان قبلكم ): من الأمم والقرون، إنما كان ذلك:
(بطول آمالهم): كثرتها عليهم، وغلبتها على عقولهم بالتغطية والإعماء.
(وتغيُّب آجالهم): حتى نسوها، وتوهموا الخلود فأعرضوا عن الآخرة، وأهملوها عن قلوبهم.
(حتى نزل بهم الموعود): الأمر الموعود به، وهو الموت الذي لا يكذب خبره، الذي وعدوا به واستيقنوه.
(الذي تُردُّ عنده المعذرة): أي الاعتذار فلا يكون مقبولاً.
(وترفع عنده التوبة): أي لا يكون لها حكم في القبول فهي مرفوعة، وإنما كان الأمر كما ذكر من بطلان الاعتذار، ورفع التوبة؛ لما فيه من الإلجاء بمشاهدة الملائكة وتحقق الأحوال كلها، فلأجل ذلك بطلت التوبة، وارتفع الاعتذار، ويصدِّق ما قلناه قوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ}[النساء:18]، فسوَّى الله ها هنا بين من سوَّى هذه التوبة عند الموت، وبين من يموت وهوكافر ، في استحقاق العقوبة، وفي هذا دلالة على استعجال التوبة، والتحفظ على تقديمها.
(وتحل معه القارعة والنقمة): وذلك ما يكون بعد الموت من عذاب الله ونكاله وأليم عقوبته.
(أيها الناس، إنه): الضمير هاهنا للشأن؛ لأنه موضع تفخيم ومبالغة.
(من استنصح الله): طلب النصيحة من جهته، بفعل الألطاف الخفية من جهته.
(وُفّق): إما للأعمال الصالحة، وإما للثواب الجزيل، ورفع المنزلة عند الله، وكل ذلك فيه إحراز رضوان الله وكريم مآبه.
(ومن اتخذ قوله دليلاً): جعل القرآن إماماً له فيما يأتي ويذر في جميع أموره فلا يورد ولا يصدرإلا به.
(هُدي للتي هي أقوم): هداه الله للخصلة المرضية عنده المستقيمة المؤدية إلى الجنة.
(وإن جارالله آمن): المستند إليه في أموره، المعتمد عليه في أحواله، المتوكل عليه آمن من كل ما يخافه من الشرور والبلاوي، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ }[الطلاق:3]، من كل ما يخاف ويحذر.
(وعدوه خائف): والمعادي لله بترك طاعته، الكائن من حزب الشيطان فهو خائف، إما من نقمةالله تعالى له؛ لأجل معصيته، وإما من تسليط من يقهره ويذله ويقطع دابره، وفي الحديث: ((من اتقى الله أخاف الله منه كل شيء ، ومن عصى الله خوفّه الله من كل شيء)) ومصداق ما قلناه من ذلك، قوله تعالى: {لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ }[المنافقون:8]، وقوله تعالى في حق المنافقين: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ }[المنافقون:4] أي لا صيحة إلا وهم يخافونها إذا سمعوها كأنها واقعة بهم.
(وإنه لا ينبغي لمن عرف عظمة الله أن يتعظَّم): لأن عظمة الله تعالى بلا نهاية، ولا لها حد ولا لها غاية، فمن عرفها حق معرفتها فما سواها يكون حقيراً لامحالة، بالإضافة إليها، وفي الحديث: ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري ، فمن نازعني أحدهما قصمته)) ، وفي حديث آخر: ((من تواضع رفعه الله، ومن تكبر أهانه الله )) فسبحان من يكون التكبرنقصاً إلافيه، ومن لايحمد على المكروه إلاهو!.
(فإن رفعة الذين يعلمون ما عظمته): أي أن ارتفاع العالمين بقدر العظمة لله تعالى، ويتحققون كنه حقيقتها فنهاية أمرهم:
(أن يتواضعوا له): لأن هذا هو فائدة علمهم بالعظمة، وجدوى تحققهم لها.
(وسلامة الذين يعلمون ماقدرته): كيفية القدرة، وحقيقتها، والإحاطة بماهيتها، فغايتهم وكمال معرفتهم بها:
(أن يستسلموا له): أن ينقادوا لأمره، ويعترفوا بحقه، وإذا كان الأمر كما قلناه في ذلك، فعليهم الاحتكام لأمر الله.
(فلا ينفروا من الحق): أي لا يبعدون منه سواء كان عليهم أو لهم.
(نفار الصحيح من الأجرب): لأنه يعافه، وتشمئز منه نفسه، وتنفر طباعه.
(والبارئ من ذي السقم): لتباين حالهما ، وافتراق ما بينهما من ذلك.
(واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد): الرشد مصدر رَشَدَ يَرْشِدُ رُشْداً وَرَشَاداً، وهو: الهداية إلى دين الله، والعمل بمراضيه .
(حتى تعرفوا الذي تركه): موقعه من سخط الله، وما يحلُّ به من غضبه ونكاله.
(ولن تأخذوا بميثاق الكتاب): تمتثلوا بأحكامه، وتمتثلوا أوامره ونواهيه.
(حتى تعرفوا الذي نقضه): كيف حاله، وأين بلغ به نقض الكتاب، وتغييره وتبديله.
(ولن تمسَّكوا به): تواظبوا على فعل أحكامه، كما قال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ }[الزخرف:43].
(حتى تعرفوا الذي نبذه): وراء ظهره، بإهمال أحكامه وإطراحها.
سؤال؛ الشيء في نفسه معروف بأحكامه وما هيته، فكيف قال: لا يُعْرَفُ الرشدُ إلا بعد معرفة من تركه، ولا يُعْرَفُ الميثاق إلا بعد معرفة من نقضه، وهكذا سائر ما ذكره؟
وجوابه؛ هو أن تعريف الشيء بلازمه وحكمه آكد، من تعريفه بذاته؛ لأن تعريفه بحكمه يفيد معرفة ذاته وحكمه، وتعريفه بذاته لا يفيد إلا معرفة ذاته لا غير، فإذا عرفنا حكم تارك الرشد وما تحقق به من فعله، ومايتعلق به من الذم واللائمة، كانت معرفتنا للرشد أبلغ، ويكون محله في النفوس آكد وأوقع، وهكذا القول في سائر ما قاله من الميثاق، والتمسك بالحق.
(فالتمسوا ذلك): يشير به إلى معرفة من ترك الرشد، والناقض للحق، والنابذ له وراء ظهره حتى يحصل العلم بنقائضها على كمال وتمام.
(من عند أهله): العالمين به المحيطين بحقائقه، والمستولين على أسراره، وأراد أهل البيت هو وأولاده.
(فإنهم عيش العلم): إما لا يحيا إلابهم، وإما أنهم الغذاء للقلوب ، كما أن العيش غذاء الأجسام.
(وموت الجهل): لأن حياة كل شيء إماتة لنقيضه، فما كان حياة للعلم كان إماتة للجهل.
(هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم): أي أمارة تبحرهم في العلوم، وإحاطتهم بها فحكمهم على الصواب يخبر عن باهرالعلوم ، ونفوذ البصيرة.
(وصمتهم عن منطقهم): أي أنهم لا يصمتون إلا عن حكمة وصواب، فهكذا يكون نطقهم إذا نطقوا، لأن الصمت ربما كان عن عيٍّ كما يكون عن حكمة، فإذا كان الصموت في حقهم حكمة، فالنطق أدخل في ذلك، وأدلُّ على فضلهم من الصمت.
(وظاهرهم عن باطنهم): وما يظهرعلى ألسنتهم من الصواب والحكمة، دال على ما ستروه من الحكمة، والاحتمال والإغضاء على المكاره كلها.
(لا يخالفون الدين): يجانبون طريقه بل يقتفون آثاره، ويسلكون طريقه ومنهاجه.
(ولا يختلفون فيه): يخالف بعضهم بعضاً في ذلك.
(فهو): الضمير للدين.
(بينهم شاهد مصدق ): لايخالفوه في كل ما شهدبه، ودلّ عليه.
(وصامت): لاينطق بلسان.
(ناطق): يخبر عن الله بما ركب في العقول من الدلالة على توحيده وإلاهيته وبما قرر الشرع من ذلك.
سؤال؛ كيف قال: لا يختلفون في الدين، والمعلوم أن الخلاف واقع بين أهل البيت فيما بينهم في كل عصر، في المجتهدات والصفات الإلهية، وغير ذلك من الاختلاف في المسائل الدينية؟
وجوابه؛ أما المجتهدات فلا مقال في جوازالخلاف فيها؛ لأن الإصابة لا تختص فيها بأحد دون أحد، وأما اختلافهم في الصفات الإلهية فذلك على وجهين:
أحدهما: أن يكون الخلاف واقعاًفي أصل حقيقة الصفة، في إثباتها ونفيها، كأن يقول واحد منهم: هو قادر، والآخر يقول: إنه ليس قادراً، فما هذا حاله فهم منزهون عن وقوع الخلاف بينهم فيه؛ لأن من نفاها على هذا الاعتبار فهوكافر لا محالة.
وثانيهما:أن يكون الخلاف واقعاً بعد إثبات حقائق هذه الصفات، ثم يقول بعضهم: القادرية حالة، وبعضهم يقول: هي حكم، وبعضهم يقول: هي نفس الذات، فهذا الخلاف، وإن كان أحد القولين خطأ لامحالة، لكنه لايكون خطاءً يوجب كفراًولا فسقاً، وإنما يحكم فيه بالخطأ لا غير؛ لأن الحق في هذه المسائل واحد لا غير، فغرض أمير المؤمنين نفي اختلافهم في الدين فيما يكون فيه خطر في الدين، وخروج منه، فأما هذا الخلاف فإنه ليس خطراً، ولا يكون صاحبه خارجاً عن الدين.
(139) ومن خطبة له عليه السلام في ذكر أمر أهل البصرة وحالهم
(كل واحد منهما): يعني طلحة والزبير.
(يرجو الأمر له): يريد بما فعله الخلافة والأمر له دون صاحبه
(ويعطفه عليه): ويرد الدولة على نفسه.
(دون صاحبه): فيضنُّ بها عليه، ولا يريدها له أبداً.
(لا يمتَّان إلى الله بحبل): المتُّ هو: التوسل بقرابة فيما أقدما عليه وأمَّلاه.
(ولا يمدان إليه بسبب): فيما رجواه من ذلك وأراداه، وإنما هو البغي والمخالفة، والنكوص على الأعقاب.
(كل واحد منهما حامل ضَبٍّ لصاحبه): الضَبُّ: الحقد، وأراد أن كل واحد منهما مبطن للعداوة والحقد لصاحبه، وكيف لا ولم يكن التئامهما إلا للدنيا، ومخالفة أمرالله وإيثار حطام عاجل!، وفي الحديث: ((كل صحبة تكون في غير الله، آخرها يكون عداوة )).
(وعمَّا قليل يُكشف قناعه به): وعلى قُرْبٍ من الزمان في أمرهما يظهرالحقد الذي كانا يضمرانه، ويكتمان حاله، ويبديان ما كانا يخفيانه منه، كما قال في موضع آخر:
(كل يدَّعي الأمر له دون صاحبه، لا يرى طلحة إلا أن الأمر له والخلافة؛ لأنه ابن عم عائشة، ولا يرى الزبير إلا أنه أحق به؛ لأنه خَتَن عائشة ): لأنه ابن أختها؛ لأن أم الزبير أسماء بنت أبي بكر وهي خالته.
(والله لئن أصابوا ما يريدون): من الاستظهار عليَّ والقهر لي.
(لينزعنَّ هذا نفس هذا): [بالقتل أحدهما لصاحبه.
[(وليأتينَّ هذا على هذا)] : بأخذ الروح ، كما قال في موضع آخر:
(والله لئن ظفروا بما يريدون، ولا يرون ذلك ليضربنَّ طلحة عنق الزبير، أو الزبير عنق طلحة، بغياً وحسداً، وإيثاراً للدنيا وعاجلها ) وفي هذا دلالة باهرة على أنهما فيما أقدما عليه على زلزال وقدم غير راسخة، ولهذا قال لهما في مو ضع آخر:
(والله إن طلحة والزبير ليعلمان أنهما مخطئان، وما يجهلان ذلك، ولربَّ عالم قتله جهله، ولم ينفعه علمه) .
(قد قامت الفئة الباغية): يشير إليهما، وإلى عائشة.
(فأين المحتسبون!): الباذلون نفوسهم لله ، والبائعون لها بالجنة منه.
(قد سُنَّت لهم السنن): أوضحت لهم الطرق، وأقيمت عليهم الحجج.
(وقُدِّمَ لهم الخبر): يشير بذلك إلى أمور ثلاثة:
أولها: ما روي أن أمير المؤمنين نادى الزبير يوم الجمل، فقال له: (أنشدك الله الذي أنزل الفرقان على نبيه، أما تذكر يوم قال لك رسول الله: ((يازبير، أتحب علياً )) فقلت: وما يمنعني يارسول الله من حبه، وهو ابن خالي؛ لأن أمه صفية بنت عبد المطلب، فقال لك: ((أما إنك ستخرج عليه وأنت له ظال م))).
فقال الزبير: اللَّهُمَّ، بلى قد كان ذلك .
وثانيهما: ما روي أن أمير المؤمنين قال له: (أنشدك الله الذي لا إله إلا هو، أما تذكر يوم جاء رسول الله من بني عمرو بن عوف، وأنت معه وهو آخذ بيدك فاستقبلته أنا، فسلم عليَّ وضحك في وجهي، وضحكت إليه، فقلت : إنه لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله: ((مهلاً يازبير، فليس به زهو، ولتخرجنَّ عليه وأنت ظالم له ))) فقال الزبير: اللَّهُمَّ، بلى، ولكن أنسيت، فأما إذا ذكَّرتني ذلك، فوالله لأنصرفنَّ عنك ولو ذكرت ذلك لما خرجت عليك، ثم رجع عن حربه وترك القتال .
وثالثها: ما روي عنه صلى الله عليه أنه قال: ((تقتلك ياعمار الفئة الباغية )) فهذا مراده بقوله: (وقدِّم لهم الخبر) يشير إلى ما ذكرناه.
(ولكل ضلَّة علة): [أراد أن كل من أخطأ فلا بد له من علة في خطأه] .
(ولكل ناكث شبهة): النكث: نبذ العهد، أراد أن كل من نكث فهو يعتل بشبهة يدلي بها، وهويشير بذلك إلى بطلان معاذير أهل الجمل فيماأتوه، وأنه لاعذر لهم عند الله، وفي المثل: لن يعدم الخير فاعله.
(والله لا أكون كمستمع اللدم): اللدم هو: ضرب الوجه بالكف في النياحة، كما تفعله النساء.
(يسمع الناعي): وهو الذي يخبر بموت من مات.
(ويحضر الباكي): لميته، وقريبه، و صاحبه.
(ثم لا يعتبر): لا يكون له اتعاظ وتذكرة، وأراد بهذا أنه بعد بغيهم عليَّ وتأهبهم لقتالي، وإجماعهم على حربي، فلا أسكت بعد ذلك، وأنتظرقتلهم لأصحابي فأسمع نعيهم، وأحضر بكاءهم، ولكن أوقع بهم السيف، وأشرع نحورهم الأسنة، وأوجه إليهم الرماح وأقطع دابرهم، وأنكِّل بهم جزاءً على بغيهم وشقاقهم، كما فعل بنصر الله له وتأييده.
(140) [ومن كلام له عليه السلام قبل موته]
(أيها الناس، كل امرئ يلاقي ما يفر منه): من الموت الذي يخافه.
(في قراره ): في مستقره، ومكانه، ومستوطنه.
(والأجل): منقطع الحياة، وغايتها.
(مساق النفس إليه): الذي تساق إليه.
(والهرب منه موافاته): يعني أن الهرب منه إنما يكون بطول مدة الحياة، وطولها بنفسه هو نفس الوصول إليه؛ لأن الأيام مسير إليه، وقطع لمسافته.
(كم أطردت الأيام): فيه روايتان:
أحدهما: رفع الأيام، والتاء للتأنيث، أي كم تتابعت الأيام،، من قولهم: اطَّرد الليل والنهار، أي تتابعا.
وثانيهما: نصب الأيام، والتاء ضمير لنفسه، أي كم أتبعت الأيام نظري وفكري، وسماعنا بالثاني، والأول أقعد في المعنى، قد كان الرسول عليه السلام أخبره بأنه سيقتل، وقال له: ((أشقى الناس اثنان: عاقر الناقة أحيمر ثمود ،والذي يضربك على هذه فيبل منها هذه)) يشير إلى لحيته، ولكنه لم يبين له وقت ذلك على التعيين، فلهذا قال: كم أطردت الأيام.
(أبحثها): أستخبرها.
(عن مكنون هذا الأمر): عمَّا علم الله من أمرالقتل ووقته.
(فأبى الله إلا كتمانه): إخفاءه عني لسر ومصلحة استأثر بعلمها.
(هيهات!): بعد ذلك أن يعلم من علم الله مالم يعلمه أحد من خلقه، أو يطلع على سره ومكنونه، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}[الجن:26-27].
(علم مخزون): عند الله.
(وأمر مكنون): لا يطلع عليه إلا هو.