(فيريكم كيف عدل السيرة): حال السيرة العادلة، ويظهرلكم مواردها ومصادرها.
(ويحيي ميت الكتاب والسنة): ما اندرس من علومهما وأحكامهما.
(كأني به قد نعق بالشام): الضمير في به يحتمل أن يكون عائداً إلى الوالي الذي قد تقدم ذكره، ويحتمل أن يكون عنى به المختار بن أبي عبيد ، وقيل: أراد الحجاج بن يوسف، وقيل: أراد عبد الله بن الزبير . والله أعلم أي ذلك.
(وفحص براياته في ضواحي كوفان): الضواحي: جمع ضاحية وهي براري المدينة، وصحاريها المنكشفة.
(فعطف عليها عطف الضروس): كرَّ عليها ومال بالأخذ والقتل، والضروس: الناقة المتعصية السيئة الحال، وإنما شبَّهه بها لشدة غضبه على أهلها لسوء أعمالهم.
(وفرش الأرض بالرءوس): أراد به عظم قتله هناك، حتى صارت الرءوس كالبساط الممدود على الأرض.
(قد فغرت فاغرته): فغر فاه إذا فتحه، وأراد أن جنده ظهروا على الناس، وفتحوا أفواههم ليأكلوا الناس، ويأخذوا أموالهم، والفاغرة: نوع من الطيب، وذكروا أنها النيلوفر الهندي، وسميت بذلك لأنها حبُّ ينفح عند إيناعه ويبسه.
(وثقلت في الأرض وطأته): لعظم حاله وكثرة جنده، وامتداد عسكره.
(بعيد الجولة): تجاول الفرسان في الحرب إذاجال بعضهم على بعض، وأراد أنه لكثرة جنده فتجوالهم في أمكنة بعيدة الأطراف.
(عظيم الصولة): صال عليه إذا استطال، وكان مقتدراً.
(والله ليشردنَّكم): يفرقنَّكم.
(في أطراف البلاد ): أقصاها وأدناها.
(حتى لا يبقى منكم): بعد القتل والأسر، والتطريد والتشريد.
(إلا قليل): لا يلتفت إليه ولا يعبأ به.
(كالكحل في العين): في القلة، ولهذا فإنه لا يؤذيها لرقته وحقارته وخفته.
(فلا تزالون كذلك): على ما وصف من حالهم في القتل عقوبة من الله تعالى، وانتقاماً منه، كما قال تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ}[الرعد:31] فهذه العقوبات بالقتل والأسر والتسليط، لا يمتنع إنزالها من الله تعالى على جهة العقوبة والانتقام من معاصي قد أسلفوها.
(حتى تؤوب إلى العرب عوازب أحلامها): يرجع إليهم ما ذهب من عقولهم وأحلامهم وبعد عنهم وضل، فيجعلون التقوى وخوف الله تعالى شعارهم، ويفيئون إلى أمر الله باتباع أئمة الدين، وسلوك طريق الرشاد .
(فالزموا السنن القائمة): اجعلوها عمدة لكم، ولا تعرضوا عنها، ويمكن حمله على العموم في سنن الأنبياء، وإما على الخصوص في سنة الرسول عليه السلام فإنها كلها أجمع دالة على الرشد.
(والآثارالبينة): من أعلام الهدى.
(والعهد القريب): بالرسول عليه السلام.
(الذي عليه باقي النبوة): آثارها ومعالمها، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء:26] وهي أعلام التوحيد، وأحكام الإلهية، وعلوم الآخرة.
(واعلموا أن الشيطان إنما يسنِّي لكم طرقه): يقرِّبها ويجعلها سهلة عتيدة .
(لتتبعوا عقبه): تسلكوا على أثره فيما يريده من الإغواء، والصد عن الهدى بمبلغ جهده وإمكانه.
(130) [ومن كلام له عليه السلام في وقت الشورى]
ثم قال بعد ذلك:
(إنه لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق): أراد أنه أعظم الناس إسراعاً إلى مكارم الأخلاق، وحميد الشيم، وأنواع المعروف، وأن أحداًلم يسبقه إلى الدعاء إلى الحق إلا الأنبياء.
(وصلة رحم ): بالبر لها ، والإحسان إليها.
(وعائدة كرم ): وعطاء ونعمة تصل وتكون عائدة إلى الْمُحْسَنِ إليه.
(فاسمعوا قولي): سماع قبول وإجابة.
(وعوا منطقي): ما أنطق به من الحكم والمواعظ والآداب، واغتنموا أيامي وما فيها من إحياء السنن، وإماتة البدع.
(عسى أن تروا هذا الأمر): أراد الخلافة بعد موته.
(من بعد هذا اليوم): يشير إلى أيام خلافة بني أمية وبني العباس ومن بعدهم.
(تُنْتضَى فيه السيوف): أراد بالبغي، والفساد، والتجبر، والعناد.
(وتخان فيه العهود): بالفسق وسائر أنواع الفجور.
(حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة): يقتدى به.
(وشيعة لأهل الجهالة): أشاع الأمر إذا أظهره، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم بعضاً فهم شيع.
(131) ومن كلام له عليه السلام في النهي عن غيبة الناس
(وإنما ينبغي لأهل العصمة): المؤيدين بالألطاف الخفية عن فعل المعاصي.
(والمصنوع إليهم في السلامة): السالمين عن جميع العاهات إحساناً من جهة الله تعالى، واصطناع المعروف إليهم في ذلك، ومن هذا قوله تعالى لموسى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }[طه:41] أي اختصصتك لما أريد من أغراضي ومقاصدي تشريفاً وإكراماً لك، وعناية بحالك.
(أن يرحموا): فاعل لقوله: ينبغي.
(أهل الذنوب والمعصية): لما يصيبهم من غضب الله تعالى، وسخطه في الدنيا، ولما أعد لهم من العقوبات السرمدية في الآخرة.
(ويكون الشكر هو الغالب عليهم): الكثير من أحوالهم، وطرائقهم على ما خُوِّلُوا من النعم وأكرموا بها.
(والحاجز لهم عنهم): الضمير الأول لأهل العصمة، والضمير الثاني لأهل الذنوب، والمعنى ويكون الشكر لأهل العصمة مانعاً عن أذاء أهل المعصية فيشتغلون بالشكر عن ذلك، فإذا كان هذا هو المتوجه لأهل المعصية على أهل الطاعة والعصمة.
(فكيف بالعائب الذي عاب أخاه): فكيف حال الْمُؤْمِنَيْنِ اللّذَيْنِ يغتب أحدهما صاحبه وينال من عرضه وينقصه بالغيبة له، فاللوم إلى العائب أكثر وما أصابه من النقص في دينه أوفر، فيما ذكر فيه.
(وعيَّره ببلواه): عابه بما ابتلاه الله به من فقر أو غيره من البلاوي في النفوس والأولاد والأموال، وسائر المصائب.
(أما ذكرموضع ستر الله عليه): قدر النعمة وحقها باطلاع الله تعالى على أمور كثيرة.
(من ذنوبه): التي اقترفها وأضمرها عن الخلق، ولو شاء الله لفضحه بها على رءوس الخلائق.
(وهو أعظم من الذنب الذي عابه به!): ربما كان أدخل في القبح ، وأعظم في المفسدة من الأمر الذي عاب به أخاه.
(فكيف يذمه بذنب قد ركب مثله!): تعجب من حال من يفعل ذلك، والمعنى أن العقول مشيرة وحاكمة بأن أحداً لا يعيب غيره بعيب مثله حاصل فيه، ولقد صدق من قال:
لا تَنْهَ عن خلقٍ وتأتي مثلَه
عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
ثم ولو سلمت تقديراً أنه خالي عن ذلك:
(فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه): لعصمة من الله تعالى في ذلك الذنب، أو لغير ذلك من الصوارف عنه.
(فقد عصى الله فيما سواه): بذنوب أخرى اجترحها وفعلها.
(مما هو أعظم منه): عند الله تعالى فهو العالم بصغائر الذنوب وكبائرها، وما يكون أدخل في الاستفساد من الذنوب من غيره، وطريق ذلك كله الشرع، ولا تصرف للعقول في ذلك.
(وايم الله): قسم وهو جمع يمين.
(لئن لم يكن عصاه في الكثير، وعصاه في القليل ): ولم يركب صغيرة ولا كبيرة من الذنوب ولا أقدم على شيء من محظورات دينه فعلاً كان أو كفاً.
(لجرأته): إقدامه، واجترأ على الشيء إذا أقدم عليه.
(على عيب الناس أكبر): أعظم جرماً عند الله، وأدخل في اللائمة من الله، وأراد بالكبر ها هنا إما أنه لا يمتنع ذلك عند الله تعالى أن تكون جرأته أكبر، فإن الأمر في ذلك مستورعنَّا لا نعلمه، وإما أن يريد بكبرها تفاحشها عند العقلاء، وعظم ما يكون من النقص بها.
(يا عبد الله): خطاب عام لكل أحد؛ لأن العبودية شاملة لجميع الخلائق ولم يرد أحداً بعينه، ولا شخصاً بنفسه.
(لا تعجل في عيب أحد): نقصه، ولا تسرع إلى ثلمه.
(بذنبه): بما اكتسب من الذنوب، وخالط من المعاصي.
(فلعله مغفور له): ما اكتسبه من تلك المعاصي، وإن كثرت وعظمت.
(ولا تأمن على نفسك): ارتكابك.
(صغير معصية): مما تستحقره في نفسك، ولا تبالي به.
(فلعلك معذب عليه): أراد ما تستصغره في نفسك وتستحقره، وهو عند الله كبير، ولا يحتمل سوى ذلك؛ لأن الصغائر على الحقيقة عقابها مكفَّر في جنب ما لصاحبها من الثواب، وفي الحديث: ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنَّ لها من الله طالباً )) ، يشير إلى ما ذكرناه مما تستحقره النفوس منها.
(فليكفف من علم منكم عيب غيره): عن أن يذكره بلسانه أويحكيه لغيره، أو يشير إليه بالنقص، إشارة يفهم منها نقصه، أو يكني عن ذلك بما يفهم منه.
(لما يعلم من عيب نفسه): فيقبح في العقول أن تعيب غيرك بعيب مثله فيك، أو أقبح منه وأشنع.
(وليكن الشكر شاغلاً له على معافاته): أراد وليكن همه الذي يشتغل به الشكر على العافية والقيام بالعبادة لله تعالى، التي هي الشكر على نعم الله تعالى.
(مما ابتُلي به غيره): من الفقر، ومن الآلام والأسقام، أو غيرذلك من المصائب.
(132) [ومن كلام له عليه السلام في النهي عن سماع الغيبة، وفي الفرق بين الحق والباطل]
(أيها الناس، من عرف من أخيه وثيقة دين): صلابة وتشدداً في ذات الله يوثق بها.
(وسَداد طريق): واستقامة على الدين في أحواله كلها من القيام بالواجبات، والانكفاف عن المحرمات.
(فلا يسمعنَّ فيه أقاويل الناس): فيه وجهان:
أحدهما: أن يريد النهي عن سماعها، أي لا يصغي إليها؛ لأنه مع الإصغاء يحصل سماعها لا محالة بالضرورة.
وثانيهما: أن يريد النهي عن تصديقها، أي لا يسمعها سماع قابل لها مصدِّق بها.
(أما إنه قد يرمي الرامي وتخطئ السهام): إذا كان الرمي على غير جهة الاستقامة، وأراد أن الخبر ربما صدر عن ثقة مع كونه كذباً، بأن يسمعه عمَّن لا يوثق به، فيحكيه كما سمعه.
(ويحيك الكلام): يؤثرفي النفوس تأثيراً عظيماً لا يمكن وصفه، وإن كان كذباً.
(وباطل ذلك يبور): الإشارة إلى ما تقدم ذكره من تصديق كلام الناس، والتعويل عليه في حق من ظاهره الستر والعفاف.
(والله سميع): لما يقال من ذلك من صدقه وكذبه، وسره وجهره.
(وشهيد): إما مشاهد لهذه الأشياء وعالم بها، وإما رقيب عليها وحافظ لها ليجازي عليها.
(أما إنه ليس بين الحق والباطل): فيما يفرق بينهما ويوضح أحدهما عن الآخر.
(إلا مقدار أربع أصابع): وهذا من الكنايات العجيبة، والإشارات الدقيقة التي لم يُسْبَقْ بها، ولم يُزَاحَم عليها.
(فسُئِلَ عن معنى ذلك): الكلام الذي ذكره، وجعله كناية عن غيره.
(فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه): مشيراً بذلك إلى طريق العلم والظن، ثم فسر ذلك بقوله:
(الباطل أن تقول: سمعت): لأن السماع ربما كان كذباً لاحتماله ذلك.
(والحق أن تقول: رأيت): لأن المشاهدة طريق من طرق العلم فلا يمكن كذبها بحال، وأما في قوله: (أما أنه ليس بين الحق والباطل) بمعنى حقاً، وأن مرفوعة على أنها فاعلة المصدر، أي حقاً أنه ليس بين الحق والباطل إلا ما ذكر من المسافة، وهكذا حالها حيث وقعت على هذه الصفة.
قال سيبويه: سألت الخليل عن قولك: أما أنك منطلق؟، فقال: على معنى حقاً أنك منطلق، وقد وقع في كلام الرسول ماهو بيان بالإشارة، كما قال عليه السلام: ((الشهر يكون هكذا وهكذا وهكذا ، وأشار إلى أصابع يديه ثلاث مرات، وهكذ وهكذا وهكذا وكفَّ واحدة منها)) ، يشير بالأولى إلى أنه يكون ثلاثين، وبالثانية إلى أنه قد يكون تسعة وعشرين.
(133) [ومن كلام له عليه السلام]
(وليس لواضع المعروف في غيرحقه): إعطاؤه على غير وجهه كالإسراف في الإعطاء.
(وعند غير أهله): ممن لايكون مستحقاً له، وليس من أهل من يكون محلاً للاصطناع.
([من الحظ فيما أتى] إلا مِحمدة اللئام): المِحمدة بكسر الميم هي: الحمد، كالمِعذرة من العذر، وأراد حمد اللئام وثناؤهم عليه لا غير.
(وثناء الأشرار): وإقرارهم بالثناء عليه من غير أمر وراء ذلك.
(ومقالة الجهال): تصريحهم بأنك منعم ومحسن.
(ما دام منعماً عليهم ومحسناً إليهم): بعطاياه، واصلة إليهم غضة طرية.
(ما أجود يده!): بالإعطاء والبذل.
(وهو عن ذات الله بخيل): لا يعطي لوجه الله تعالى شيئاً، وإنما عدَّاه بعن، وكان القياس تعديته بالباء، كماقال تعالى: {بَخِلُوا بِهِ} ولكنه حمله على المعنى؛ لأن البخل منع المال وصرفه في غير وجهه وعلى غيرطريقه، وعلى هذا وردت قراءة الأعمش، في قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ }[البقرة:249] بالرفع على معنى امتنع قليل منهم من الشرب فلهذا رفعه.
(فمن آتاه الله مالاً): مكَّنه منه، وجعله متوسعاً فيه.
(فليصل به القرابة): ينفعهم به ليكون ذلك صلة لهم.
(وليحسِن به الضيافة): قِرَاء الإخوان وإطعامهم الطعام، وفي الحديث: ((من لذذ أخاه بما يشتهيه رفع الله له ألف ألف درجة ، وكتب له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، وأطعمه من ثلاث جنات: من جنة الخلد، ومن جنة الفردوس، ومن جنة المأوى)) .
(وليفك به الأسير): الموثق بالإسار: وهو القِدّ.
(والعاني): المقيم على الإسار، و الخضوع والذل، ومنه قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ }[طه:111] أي خضعت وذلت.
(وليعطِ منه الفقير): أراد ما يجب فيه من الزكاة، ويحتمل أن يكون أراد الإحسان، والتفضل به على ذي الفاقة.
(والغارم): المديون أو من لحقه غُرْمٌ من أجل نائبة أصابته، وفي الحديث: ((لا تحل المسألة إلا لثلاثة: لذي غُرْمٍ مُفْظِع، أو دم مُوْجِع ، أو فقر مُدْقِع)) ، والغرام: الهلاك، قال الله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا }[الفرقان:65]، وقال بشر :
ويوم النِّسارِ ويوم الجِفَارِ
كانا عذاباً وكانا غَرَاما
(وليصبِّر نفسه على الحقوق): على أدائها والقيام بها، حقوق الدين ومكارم الأخلاق.
(والنوائب): العظائم من الأمور.
(ابتغاء الثواب): على الصبر عليها، وفي الحديث: ((ما جرع عبد قط جرعتين أفضل عند الله من جرعة غيظ يلقاها بحلم، أو جرعة مصيبة يلقاها بصبر جميل)) .
(فإن فوزاً بهذه الخصال): التي أشار إليها.
(شرف مكارم الدنيا): حيازة الخصال الشريفة المحمودة.
(ودرك فضائل الآخرة): إحراز فضائلها ومراتبها العالية.